بالأمس تناقلت وسائل الإعلام على الإنترنت تصريحات منسوبة للنائبة الإخوانية عزة الجرف عن أنه من الضروري فحص الصحيفة الجنائية لكل مَن سقطوا خلال أحداث الثورة؛ لتقرير ما إذا كانوا شهداء أم لا، بحيث لا يحتسب شهيدا من تضمّنت صحيفته الجنائية أي سوابق. أخذت أُدوّر بين مواقع الأخبار باحثا عن أي تكذيبات لهذا الكلام الكارثي.. لكني لم أجد سوى تأكيدات.. مع الأسف. المفترض من المنتمي لتنظيم ديني عريق -كجماعة الإخوان المسلمين- أن يكون أكثر اطّلاعا على الدين وبالذات "فقه الجهاد"، أو على الأقل أن يراجع معلوماته ليتأكّد من صحة ما يقول من الناحية الدينية؛ فالشهادة إنما تكون وفق الموقف وليس الشخص؛ فالإسلام حين حدّثنا عن الشهداء فإنه لم يُحدّد نوعياتهم البشرية، بل حدّد المواقف التي قُتِلوا فيها. فلنفرض أن رجلا عاصيا عاتيا تحرّكت فيه دوافع الخير؛ فهبّ لنجدة ملهوف أو إنقاذ ضحايا كارثة أو للمطالبة بحقّ مظلوم، وهو خارج لوجه الله لا لطلب شهرة أو استعراض قوة، ثم فَقَد حياته خلال ذلك وبوجود علاقة سببية بين خروجه وقتله.. أليس هذا بشهيد؟ وهذا مَثل حضرته بنفسي؛ فخلال الانفلات الأمني فيما بعد جمعة الغضب كان يقف معي في اللجان الشعبية شاب.. كان مشهورا حتى وقت قريب بالبلطجة والفساد، ولكنه كان يسهر ليُدافع عن منطقته بكل شجاعة وجدعنة، وأنا أشهد له بذلك؛ فهب أن هذا الشاب قد قُتِلَ -لا قدّر الله- خلال صده عدوانا على الشارع أو البيوت.. أليس بشهيد؟ من قال إن العاصي لا تُقبَل منه أعمال الخير؟ ألم نتعلّم في الإسلام أن الزاني يُعاقبه الله على ذنبه ولكنه يقبل صلاته لو كانت صحيحة؟ ألم يُعلّمنا الله أن أبواب رحمته أوسع وأكثر من أبواب عقابه؟ فبأي حق نحاول أن نتحكّم فيمن يدخل ويخرج من تلك الأبواب؟ والحقيقة أني أرغب في معرفة معايير منح الشهيد حقه في لقبه عند النائبة المحترمة ومن يقول قولها.. البعض تحدّث عن التواجد حول المقار الحكومية والشرطية، وهي تتحدّث عن الصحيفة الجنائية.. أولا بالنسبة لأقسام الشرطة والمقار الرسمية؛ فلا يوجد قانون يمنع التظاهر أمامها ما دامت التظاهرة لم تعطّل سير العمل، بالتالي فإن مجرد التظاهر أمام القسم لا يعتبر عدوانا عليه.. كما أن شهود العيان كلهم أكّدوا أن إطلاق النار من فوق أسطح الأقسام بدأ قبل تعرّض تلك الأقسام للاحتراق؛ أي أن أغلب مَن سقطوا من المتظاهرين حول الأقسام قُتِلوا غيلة. وثانيا بالنسبة للصحيفة الجنائية، هل تعتبر السيدة النائبة أن نظام مبارك كان عادلا لحد الاعتداد بصحائفه الجنائية بنسبة 100%؟ ألم تسمع النائبة الموقرة عن تقفيل السنة الشهير؟ دعيني إذن أخبرك.. تقفيل السنة هو ببساطة أن الضابط في شهري نوفمبر وديسمبر يكون راغبا في إغلاق ملفات قضاياه قبل السنة الجديدة، فضلا عن أن رؤساءه يطالبونه بنِصاب معين من القضايا عليه إكماله، وكانت عادة الفاسدين من رجال الشرطة -ونحن نعلم كثرتهم- القبض بشكل عشوائي على الشباب بالذات وتلفيق تلك القضايا لهم ليقف الضابط أمام رئيسه راضيا عن نفسه، بغضّ النظر عن كيفية وقوفه فيما بعد أمام ربه. هل يمكنك يا سيادة النائبة أن تتخيّلي كَمّ المظلومين في ضوء هذا النظام البوليسي الفاسد الفاشل؟ ثم بحقّ الله.. كم من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين لديه صحيفة جنائية بسم الله ما شاء الله ممتلئة بما لذّ وطاب من أول جرائم المخدرات ووصولا لجرائم غسيل الأموال وتلقي التمويل الأجنبي من جهات مريبة.. وأنا أعلم وأشهد أمام الله أن كلها تهما ملفقة، كيف تقترحين أن يكون التعامل مع شهيد إخواني لديه في سجله الجنائي تهمة ملفّقة؟ هل نلغي عنه صفة الشهادة؛ لأنه صاحب سوابق أم نؤكّد أنه شهيد لأنه إخواني؟ كيف لم تفكّري في هذا؟ شيء مخجل بصراحة! وعن نفسي.. حتى لو كان من فَقَد حياته في الثورة مجرما عاتيا مدمنا على كل مُسكر ومخدر، ولكنه لم يرتكب ما يستحق عليه -شرعا وقانونا- القتل؛ فهو بالنسبة لي شهيد لأن من عُوقب بأكثر مما يستحقّ فهو مقتول ظلما، وكل قتيل الظلم شهيد.
إن ذلك الحديث الممجوج الفج عن محاولت التفرقة بين من استشهد ومن قُتِل فحسب خلال الثورة هو إهانة لأرواح الموتى وانتهاك لحرماتهم، فإذا كان الإسلام قد وسّع من نطاق الشهادة ليشمل من يُقتَل غيلة أو غرقا أو هدما أو حرقا بل ومن يموت مبطونا أو بالطاعون، فبأي حق نضيّق نحن النطاق؟ أليس حساب الناس في النهاية عند الله؟ لماذا إذن لا نحتسب كل من فَقَد حياته خلال الثورة برصاصات نظام مبارك أو دهسا بمدرعاته أو تمزيقا بسنج وسيوف بلطجيته شهيدا، فإن كان كذلك فقد أصبنا وإن لم يكن فحسابه عند ربه.. أليس الأصل في الإنسان البراءة؟ فمن يبحث عن مبررات لانتزاع تلك البراءة والتشكيك فيها إلا كل خبيث النفس دنيئها.. أو ضعيف العقل والتفكير. ثم ما فائدة التفرقة؟ هل هو في إطار رفع الروح المعنوية للشرطة بإرضائها بتقليص عدد الشهداء؟ أم إنه من باب الاستخسار لأموال التعويضات المستحقة لأهل كل شهيد؟ الله الغني لو كان الأمر كذلك، فلتحتفظ الدولة بأموالها، وكما قام الشيخ حسان بمبادرة لجمع مبلغ المعونة الأمريكية فسيقوم جدعان مصر ورجالها بجمع مجموع المبالغ المطلوبة للتعويضات وتقديمها لذوي الشهداء. وعلى أية حال.. فلقب شهيد أرقى من أن يكون رهن أمر رسمي أو قرار سياسي، فمن يمنحه إنما هو الله تعالى الذي نصفه عند كل آذان أنه أكبر؛ فهو بالفعل أكبر في معاملته خلقه من صغائر البشر! ولو كان البعض يحاول تضييق نطاق وصف من فقد حياته خلال أيام الثورة ب"الشهيد"؛ فإن أصحاب الضمير يدركون أن كل من فقد حياته ظلما خلال أيام مبارك ونظامه كلها هو مستحق بالتأكيد لصفة شهيد.