نوع جديد من المؤامرات يولد الأمر يحتاج لنظرة سريعة لحياة قسطنطين قبل أن يتولى عرش الإمبراطورية، فقد كان أبوه -قسطنطينوس خلوروس- إمبراطورًا مساعدًا يحكم بريطانيا وغالة (فرنسا) في إطار نظام الحكم الرباعي الذي وضعه دقلديانوس والذي يقضي بوجود أربعة أباطرة للدولة نظرًا لاتساعها. قسطنطين الابن كان قد أُرسِل لينشأ في بلاط الإمبراطور الأكبر -دقلديانوس- وطاف خلال تلك الفترة بالأقسام الشرقية من الدولة، حيث تعرف المسيحية عن قرب. وبعد اعتزال دقلديانوس العرش سنة 306م نشبت الحرب الأهلية بين الأباطرة الثلاث الباقين من النظام الرباعي: ليكينيوس في الشرق، مكسنتيوس في إيطاليا، وقسطنطين الابن -الذي كان قد خلف أباه- في حكم غالة وبريطانيا، وكانتا أفقر وأضعف أجزاء الدولة. وفي سنة 312م اصطدم قسطنطين وجيشه الصغير بجيش مكسنتيوس؛ حيث هُزِمَ هذا الأخير وقُتِلَ على يد تلك القوة الصغيرة، ثم بعد ذلك قام قسطنطين بخلع ليكينيوس -بعد فترة مهادنة- وأصبح الإمبراطور الوحيد. ما يهمنا من كل ذلك هو ما جرى قبل المعركة مع مكسنتيوس، فقسطنطين كان داهية أدرك أنه يستطيع أن يحقق النصر بجنوده القلائل فقط إذا شحنهم بجرعة معنوية عاتية؛ ونظرًا لأن العقيدة المسيحية كانت قد تسللت إلى ضمائر نسبة لا بأس بها منهم فقد خرج عليهم قبل المعركة، وقد أمرهم برسم الصليب على دروعهم تنفيذًا لما زعم أنه أمر إلهي تلقّاه في الحلم، ولأن الإمبراطور كانت له مصداقية كبيرة عند جنوده فقد كان هؤلاء يحاربون وهم يعتبرون أنفسهم "جنود الرب" مما أكسبهم قوة معنوية واضحة أدت لانتصارهم على عدوهم. لم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل تجاوزه للجماهير المسيحية التي سرعان ما أيدت قسطنطين قيصرًا للدولة كلها معتبرة أنه جندي الرب والمدافع عن دينه، ولما كانت المسيحية قد انتشرت سرًا وعلنًا بين جموع غفيرة من المواطنين الرومان فقد كان من المنطقي أن يلعب "العامل الشعبي" دورًا قويًا في تغلب قسطنطين على خصومه، بل وتحوله لأسطورة ونموذج للأباطرة الرومان من بعده، وليكتسب ألقابًا أضفت عليه قدسية خاصة، مثل "الحواري الثالث عشر" و"قرين الرسل"، واستمر قسطنطين في أداء دوره الجديد كرجل "بينه وبين السماء سبيل"، فعندما قرر تأسيس عاصمة جديدة للدولة في الشرق، واختار لها منطقة "بيزنطة" في آسيا الصغرى، أخذ يسير حيث خطط لعاصمته وهو يخط في الأرض بطرف حربته وحاشيته تلهث وراءه، وكلما سألوه متى يتوقفون يقول: "عندما يتوقف ذلك الذي يمشي أمامي!" بينما هم لا يرون أحدًا أمامه! خلاصة الأمر أن قسطنطين لعب دور "رجل الله"؛ ليستطيع اكتساب ملكه ثم توطيده، وأجاد اللعبة بحق وحده بشكل يمهّد لميلاد ذلك النوع من المؤامرات باسم اتصال الأسباب بالسماء، والتي نفّذها الكثيرون منذ عهده ومرورًا بعهود الملوك المتسلطين بمقتضى "الحق الإلهي في الحكم" وانتهاءً بجورج بوش الابن الذي كان يتحدث خلال حربه على العراق وأفغانستان عن أن "الله يكلمه" وأنه "ينفذ وحي السماء"! والحقيقة أنني حين أصف ذلك النوع من التآمر على عقول الجماهير العريضة من أجل السيطرة بأنه "يولد" إنما أقصد أنه "يولد من جديد" فهو عبارة عن تطوير للفكرة القديمة للملك المقدس التي سادت الحضارات السابقة. الدين والدنيا منذ عهد قسطنطين الأول -الذي شهد بداية انقسام الدولة الرومانية إلى شرق وغرب- أصبح الإمبراطور هو الجامع للسلطتين الدينية والدنيوية، خاصة مع تنظيم الأباطرة ورئاستهم لعدد من المجامع الدينية الكنسية لمناقشة أهم مكونات العقيدة المسيحية خاصة فيما يتعلق بذلك النقاش الساخن حول طبيعة السيد المسيح -عليه الصلاة والسلام- الذي اختلفت فيها الكنائس. استمر الوضع على هذا الحال: الإمبراطور يحكم، والبابا يتولى الجوانب الدينية من الحياة دون تدخل في الجوانب الدنيوية، وخلال القرنين الرابع والخامس توالت الامتيازات على الكنيسة ورجالها، فتم إعفاؤهم من الضرائب، وأصبح لديهم شكل من أشكال الحصانة القضائية، وبدأت سلطات رجال الدين المسيحي تتزايد حتى تحولت الكنيسة إلى ما يشبه الدولة داخل الدولة لتتصاعد قوة رجالها وعلى رأسهم البابا. كان ذلك تمهيدًا لظهور قوة البابوية التي سيطرت على مصير أوروبا خلال فترة طويلة من عصورها الوسطى -الباكرة والأعلى حتى عصر النهضة! وأكرر تنبيهي للقارئ أن التطرق لتلك المتغيرات لا يعتبر من قبيل الخروج عن الموضوع، بل هو في صميمه، فالمعطيات التاريخية أشبه بأحجار دومينو متراصّة، يُدفَع أولها فيحرك ما يليه. والحديث عن تحول الإمبراطورية الرومانية للمسيحية وتبينها إياها أمر ضروري لنفهم ما جرى بعد ذلك بقرون من محتويات العصور الوسطى التي لعبت فيها الممالك المسيحية الأوروبية، والبابوية الكاثوليكية، أقوى الأدوار السياسية بما فيها من حروب سرية ومؤامرات أثرت على العالم كله، لعل أبرزها فترة الحملات الصليبية على الشرق. وعودة لموضوعنا.. لم تبدأ السلطة الحقيقية للبابا -كما عرفها عالم العصور الوسطى- في الظهور إلا في فترة متأخرة على يد البابا القديس ليو الأول الذي انتُخِبَ أسقفًا لروما سنة 440م، ولعب دورًا في التفاوض مع الجرمان والهون والفاندال الذين غزوا إيطاليا وأسقطوا دولة الرومانالغربية. كان أباطرة القسم الغربي -آنذاك- قد اعتادوا التخلي عن مسئولياتهم والهروب من روما تاركين عاصمة الأجداد لمصيرها، وبدا للعيان أن دولة الرومان الآن أصبح مكانها الشرق حيث القسطنطينية، بينما كان الجزء الغربي يحتضر. وقد كان بالفعل، وسقطت الدولة الرومانيةالغربية في القرن الخامس الميلادي، وبحث الإيطاليون عن قيادة تلمّ شملهم وشمل أوروبا من بعدهم، فلم يجدوا سوى البابا الذي خرج بنظرية تقول بأسبقية وجود أساقفة روما على أباطرتها، ويستند في ذلك إلى قوله بأن الحواري بطرس كان أول من أدخل المسيحية لروما وهو خليفة المسيح والأسقف الأول من بعده، مما يجعل وجوده سابقًا على وجود قسطنطين الكبير، وبالتالي فإن وجود "السلطة الكنسية" سابق لوجود "السلطة المدنية" مما يعطي الأولى حق تسيير الثانية وإخضاعها! نظرية ليو الأول جاءت في وقت كان الأوروبيون فيه -الإيطاليون تحديدًا- يبحثون عن قيادة لهم، وجاءت الفكرة على طبق من ذهب، وتبلورت على مدى العقود، ولكن بقيت مشكلة البحث عن ورثة يعيدون مجد الدولة الرومانية خاصة مع حالة الانفصال والقطيعة التي حلّت بين الكنيستين الأرثوذكسية الشرقية في بيزنطة والكاثوليكية الغربية في روما؛ لأسباب سياسية تتعلق برفض أباطرة الشرق الخضوع للبابا الكاثوليكي. والحقيقة أنني أتردد في وصف ما قام به "ليو الأول" بالمؤامرة، فالظروف التي شهدها كانت تحتاج منه لإجراء شجاع لحماية بلاده وشعبه، وأقصى ما أستطيع أن أصف به تصرفه هو أنه "مؤامرة مفيدة" أو "مؤامرة لصالح مجتمعه لا عليه" مما يؤكد هنا أن التآمر أو "التدبير سرًا" لا يحمل دائمًا ذلك المضمون المرتبط بالشر والأذى. فالرجل في النهاية كان يهدف لمصلحة أبناء شعبه.
الإمبراطورية الرومانية المقدسة عانت أوروبا في القرون الخامس والسادس والسابع من حالة من الفراغ السياسي، حيث تفككت الإمبراطورية الرومانية العظيمة في الغرب إلى دويلات وقبائل تتصارع وتتنازع وتضع أوروبا في دوامة مظلمة، وجاءت الضربة القاسية بدخول المسلمين إلى الأندلس وإقامتهم دولة جديدة قوية هناك. كانت أوروبا تبحث عن حل ذهبي لتستعيد قوتها السياسية والعسكرية من جديد. جاء الحل مع تبعات معركة "بلاط الشهداء" بين الملك الجرماني "شارل مارتل" والجيش المسلم القادم من الأندلس سنة 732م، إذ -بعد نجاحه في إيقاف المسلمين- تم تتويج شارل ملكًا على غالة (فرنسا) مؤسسًا الأسرة المالكة الكارولنجية، ومعطيًا أملاً جديدًا في قيام أسرة حاكمة تعيد لأوروبا أمجاد الرومان العظام. ومر عهد شارل مارتل ومن بعده ابنه بيبين القصير، ثم جاء الحفيد شارلمان ليحكم الدولة الفرنجية التي كانت عبارة عن فرنسا وأجزاء من ألمانيا. كان شارلمان ومن قبله أبوه "بيبين القصير" قد اعترفا بالسلطة المدنية للكنيسة وتدخلها في أمور السياسة، ولكن كان شارلمان يرفض بشدة مقترح البابا ليو الثالث تتويجه "إمبراطورًا للإمبراطورية الرومانية المقدسة"، فقد كان شارلمان يرى أن ذلك سيزيد من سلطة البابوية قِبَله، ويجعل ملكه مستمدًا لا من قوته الذاتية بل من تنصيب البابا له فحسب، مما يعني قدرة هذا الأخير على خلعه لو وقع بينهما خلاف حاد.. وكان البابا يدرك ذلك بل ويسعى إليه ليوطّد سلطة البابوية الكاثوليكية على السلطة الملكية للأسرة الفرنجية التي كان ملوكها قد اكتسبوا حب الشعب واحترامه بما لهم من قوة وصلابة ذاتية. استمر إلحاح البابا ورفض شارلمان فما كان من الأول إلا أن دبّر مؤامرة بارعة لإيقاع الملك في الفخ، فاستغلّ تواجدهما معًا في زيارة لمقبرة القديس بطرس خلال عيد الميلاد وركوع الملك ليصلي أمام المقبرة، وحين أراد الملك شارلمان القيام فوجئ بليو الثالث يضع التاج على رأسه ورجال الكنيسة يهتفون بقيادة البابا لشارلمان إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة! وهكذا أصبحت الصورة كالآتي: البابا "منح" شارلمان عرشه الإمبراطوري. كانت تلك مفاجأة لشارلمان ألجمته وأثارت غيظه حتى أنه صرّح بعد ذلك أنه لو كان يعلم لما كان قد ذهب للصلاة في ذلك اليوم الذي كان بداية عهد طويل من سيطرة البابا الكاثوليكي على مقدّرات أوروبا وعروش ملوكها بفضل مؤامرة ليو الثالث التي تعتبر -بحق- حصادًا لبذرة زرعها ليو الأول! الخلاصة احتضان روما للمسيحية لم يتوقف على مجرد تغيير في الحالة الدينية للرومان، بل كان فاتحة عهد من سيطرة الكنيسة على أوروبا العصور الوسطى، وتصاعد سلطة رجال الدين حتى أصبحوا رجال دين ودنيا ودولة. ذلك التطور أثّر في "فن التآمر" فقد أصبح الدين أداة جديدة للمتآمرين، وقطعة شطرنج قوية يمكن بها تحقيق النصر لو استُخدِمَت ببراعة. ورقة رابحة أجاد ليو الأول وليو الثالث اللعب بها لتوطيد سلطة البابوية الكاثوليكية. وإن كان ليو الأول قد زرع، وليو الثالث قد حصد.. فإن المظهر الأقوى للسلطة العاتية للبابا في روما تجلى في مؤتمر شعبي في "كليرمون" بفرنسا.. حيث كانت مؤامرة قوية تولد من الغرب على الشرق -في أواخر القرن الحادي عشر- على يد البابا أوربان الثاني وهو يدعو ملوك أوروبا وفرسانها إلى السفر للشرق لتحرير بيت المقدس وقبر المسيح من المسلمين.. ومن جديد.. يولد شكل جديد من التآمر طويل المدى! (يتبع) مصادر المعلومات: 1- العصور الوسطى الباكرة: نورمان كانتور. 2- العالم البيزنطي: ج. م. هسي. 3- حضارة أوروبا العصور الوسطى: موريس كين. 4- محمد والذين معه: عبد الحميد جودة السحار. 5- النصرانية: محمد أبو زهرة. 6-An encyclopedia of world history: William L. LANGER
واقرأ أيضا تاريخ شكل تاني..المؤامرة (5) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (4) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (3) تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (2) تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (1)