فى القرن الخامس الميلادى اجتاحت أوروبا قادمة من الشمال الاسكندنافى قبائل بدائية همجية أُطلق عليها قبائل الفاندال Vandals نسبة إلى مدينة «فاندل» السويدية أو إلى مدينة «فاندسيسل» الدنماركية، فاستباحت كل شىء وأخذت تقتل وتحرق وتسرق وتدمر الآثار الحضارية والثقافية للامبراطورية الرومانية، وكان من أبرز ما استولوا عليه وأتلفوه الغنائم والكنوز النادرة لهيكل سليمان التى جلبها الأباطرة من أورشليم إلى روما، ثم انساحوا فى البلاد ينشرون فى طريقهم الرعب والخراب حتى عبروا جبال البيرنيه متجهين جنوبا إلى شبه الجزيرة الأيبرية فقاتلوا سكانها الأصليين وقتلوا ملكهم وأسسوا بها مملكة سُميت «فاندالسيا» أى بلاد الفاندال، ولما كان العرب ينطقون حرف «V» اللاتينى «و» بالعربية فقد حرفوا الاسم إلى «واندالسيا» أى بلاد الوندال ثم تطورت إلى «الأندلس» بالعربية أو أندلوسيا Andalusia باللغات الأوروبية وهو الاسم الذى مازال يُطلق حتى اليوم على منطقة جنوبإسبانيا. ومما يستوقفنا هنا أن اللفظة المنسوبة إلى السكان الأصليين للشعوب الاسكندنافية مازالت تشير فى اللغات الأوروبية الحديثة إلى الهمجية أو التخريب بلا مبرر، فهى بالإنجليزية Vandalism وبالفرنسية Vandalisme وبالإسبانية والإيطالية Vandalismo أما الهمج المخربون فيطلق عليهم Vandals، ولعل هذا يفيدنا فى التعرف على حقيقة تلك النوعية من حرية التعبير وحرية الاعتقاد التى يتمسكون بها الآن فى الشمال الأوروبى ولو كانت على حساب مشاعر الآخرين ومقدساتهم، فاحترام الآخر لا يتأتى بغير تراكم حضارى لشعوب ولمجتمعات عرفت الاستقرار منذ قديم الأزل وخضعت لأنظمة تضع حدودا فاصلة مابين حرية الفرد واستقرار الجماعة. وها نحن نعود إلى سياقنا، فدعونا نشير اختصارا إلى الأجواء الأوروبية فى عصر استقرار الدولة الإسلامية فى المغرب وبداية التفكير فى فتح الأندلس: فأما فى الشمال حيث فنلندا والدول الإسكندنافية الدنمارك والسويد والنرويج فشعوب همجية لا تعرف حضارة ولادينا ولاحتى لغة فبعضها يتحدث بلغة جرمانية والغالبية تتفاهم بالإشارة أو بإصدار أصوات أو كلمات تنطق ولا تكتب وهو ما جعل المبشرين المسيحيين يتوقفون خوفا وازدراء عند حدود تلك المنطقة التى لم تدخل فى المسيحية إلا بعد قرون طويلة من اعتناق أوروبا لها وذلك إبان الحروب الصليبية مع الشرق الإسلامى، حيث تم الاستعانة بهم فى البداية كجنود مرتزقة ثم رأى البابا دعوتهم للمسيحية ليكونوا أكثر إخلاصا للكنيسة فى حربها «المقدسة» وأقل نفقة أيضا ! وأما فى شرق أوروبا فالامبراطورية الرومانيةالشرقية وعاصمتها القسطنطينية، التى وعد رسول الله المسلمين بأن تُفتح لهم، حيث قال (صلى الله عليه وسلم): «لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»، وقد كانت من المنعة ما جعل جيوش المسلمين تعجز عنها طويلا بدءا من المحاولة الأولى عام 44ه فى عهد معاوية بن أبى سفيان حتى دخلها السلطان العثمانى محمد الفاتح بعد ثمانية قرون كاملة، وذلك فى عام 857 ه الموافق 1453م، وما فتحها إلا يقين المؤمنين الراسخ بتحقق وعد الله سبحانه وتعالى لهم. بينما نجد فى الغرب الامبراطورية الرومانيةالغربية وعاصمتها روما وهى تعيش فى ظلمات العصور الوسطى، حيث الجهل والشعوذة ومحاربة العلم والعقل والتقاتل على السلطة والمال بين رجال الكنيسة والملوك وأمراء الإقطاع بينما ترزح الشعوب المغلوبة على أمرها تحت نير استبداد مطلق يمارس عليهم باسم الرب وفقر مدقع وخرافات تتلبس مسوح الدين وحروب هم فقط وقودها بينما ينعم بغنائمها الكهنة والملوك. نحن الآن عند نهايات القرن الأول الهجرى وتحديدا عام 92 ه وبدايات القرن الثامن الميلادى عام 711 م وقد خضعت شبه الجزيرة الأيبرية «الأندلس» إسبانيا والبرتغال الآن تماما لحكم القوط بعد أن وحد «ثيودريك العظيم» القوط الشرقيين والغربيين فى مملكة واحدة وتحالف مع الفاندال بعد أن تزوج إحدى بناتهم، وقد أثر هذا التحالف فى الأخيرين فجعلهم أكثر تحضرا كما تسبب فى تعرفهم على الديانة المسيحية على العكس من أصولهم فى الشمال، وبعيدا عن التفاصيل التاريخية الكثيرة نكتفى بالإشارة إلى أن الفاندال (أو الوندال كما سماهم العرب) اعتنقوا المذهب الإريانى المخالف للمذهب الكاثوليكى مذهب الامبراطورية الرومانية وكذا فعل ملوك القوط الذين أقاموا مملكة لهم فى الأندلس استمرت حتى الفتح الإسلامى، وقد ساد المذهب الإريانى فى شبه الجزيرة الأيبرية زمنا طويلا حتى تفاقم اضطهاد الكاثوليك للإريانيين بعدما اعتزمت الكنيسة الكاثوليكية القضاء التام على هذا المذهب فكانت الهجمات الإرهابية والمجازر الوحشية على غرار تلك التى حدثت من قبل فى مصر وشمال أفريقيا، ما ترتب عليه تحول ملوك القوط بعد وفاة «ليوفيجيلد» آخر ملك قوطى إريانى إلى الكاثوليكية بينما أخفى الشعب تمسكه بمذهبه الأصلى وظل الخوف والحسرة فى النفوس نحو قرن من الزمان وذلك فى انتظار المخلص. ومما يستوقف النظر هنا ويؤسف له فى الوقت ذاته أن أكثر المعاصرين من المؤرخين العرب يتجاهلون تماما ربما اتباعا منهم لمنهج المؤرخين الغربيين حقيقة العقيدة الدينية التى كان قوط الأندلس يعتنقونها قبل الفتح الإسلامى، وهو ما يفعلونه أيضا بالنسبة لقبط مصر، مكتفين بأن يطلقوا على الجميع لفظة «نصارى» المجملة دون تفصيل، رغم أن الوقوف على الحالة الدينية للشعوب الأصلية للممالك المفتوحة يفيدنا كثيرا فى معرفة الوجه الحقيقى لسياسة الفتح الإسلامى، خاصة فى البلاد التى كانت تعتنق المسيحية، لذا فإنى أستمحيكم عذرا فى إيقاف تسلسل الأحداث مؤقتا بينما طارق بن زياد يأخذ أهبته للعبور إلى الأندلس، وذلك لنعود بالزمن إلى الوراء إلى ما قبل البعثة المحمدية بقرون، وبالمكان إلى مصر القديمة.