في ثنايا صفحات الرواية العربية، ظهرت شخصيات خيالية تم تخليدها في أذهان القراء؛ إما بفضل الخصائص المميزة لبعضها أو نظراً لعوالم الرواية التي ظهرت فيها أو لأن بصمة السينما قد حفرتها في قلوب المشاهدين فيما بعد.. أياً ما كان السبب!! فقد اخترنا لكم عشر شخصيات خيالية لن نكون مبالغين لو قلنا إنها الأفضل، قد يختلف معنا البعض في تقييم هذه الشخصيات، لكن سعينا أن نبيّن سبب اختيار كل شخصية ضمن الملف الذي نقدّمه لك عزيزي القارئ، حيث كل أسبوع شخصية، ولكل شخصية حدوتة.. (... وكل نهار قائظ.. يصعد (نيكولا) إلى قمة جبل "الدرهيب" بالصحراء الشرقية قرب حدود السودان.. يبقى عاريًا ومصلوبًا "تحت شمس أغسطس الجهنمية" كما قرر بنفسه طقوس عذابه.. ويظل إلى أن "تنحرف الشمس عن مجلسها العمودي", فيرى أنه "غير جدير باحتمال العذاب بهذه الطريقة".. فيدحرج جسده العاري على حصى دقيقة وبلورات رخامية ذات أسنة قاطعة تفرش سطح الجبل الهلالي التكوين ليصل إلى مأواه في باطن الجبل "ليواصل الطقوس بطريقته الأخرى"). هذا المشهد ذو الملمح السيزيفي هو بداية تعرفنا على مأساة (نيكولا) في رواية "فساد الأمكنة".. ويعود كاتبها (صبري موسى) لذات المَشهد ليختتم به أحداث تلك الرواية الفارقة في تاريخ الأدب العربي.. تأتي الأهمية الروائية ل(نيكولا) "الذي لا وطن له" كما وصفه الكاتب؛ ليس فقط كونه غير عربي في صميم مجتمع جبلي عتيق مغرق في المحلية.. فهو متعدد الهوية.. خرج من قرية روسية صغيرة مهاجرًا إلى (إسطنبول) ثم إلى (إيطاليا) حيث قابل (إيليا) الزوجة.. وأنجب منها (إيليا) الابنة.. ومن ثم تمتزج هوية (نيكولا) مع طبيعته المحبة للتجوال والهجرة، ورغبته في السفر والتحليق في سماوات الأمكنة كلها.. مع الأحداث والحضور الغريب لجبل "الدرهيب" الأسطوري والأشياء والأمكنة والأشخاص، وامتزاجه بالمكان والمصادفات القدرية التي صنعت مأساة ذلك الأوروبي الذي يحمل اسم قديس قديم.. (نيكولا).. البائس الذي يلقى الأشياء والأحداث ببراءة طفل.. وكما يقول الكاتب في بداية الرواية: - "ذلك الذي كانت فاجعته في كثرة اندهاشه.. وكان كل شيء يحدث أمام عينيه جديدًا يلقاه بحب الطفل, لدرجة أنه لم يتعلم أبدًا من التجارب".. فهو إذن البطل الأوروبي في بيئة جبلية عربية، والذي يخرج من الأنماط الغربية المعتادة للرجل الأوروبي الاستغلالي السلطوي والشهواني أحيانًا, كما صنّفته غالبية الروايات العربية التي تطرقت إلى الشخصية الأجنبية عمومًا.. بل هنا تتبدل الأدوار.. وتنبع مأساة (نيكولا) الذي يأتي إلى جبل "الدرهيب" بناءً على نصيحة من صديقه (ماريو) المهندس الإيطالي، ليصبح مالكًا للجبل وباحثًا على رأس فريق من العمال عن ثرواته.. تنبع المأساة من شهوانية الملك وحاشيته وهم الباحثون عن اللهو والمتعة والملذات في أي شكل كانت.. فيأتون إلى المكان ليرى الملك (إيليا) ابنة (نيكولا), الفاتنة ذات الستة عشر عامًا بوجهها الأبيض كنور الصباح وشعرها الذهبي.. فيطلبها لتخرج معه في رحلة صيد وهمية لا تخفي كثيرًا رغبته الحقيقية في مضاجعة العذارى.. ويجد (نيكولا) نفسه مجبرًا على الموافقة وفي صدره تعربد آلاف الانقباضات.. وتأتي المصادفة القدرية الأغرب والتي في ذات الوقت تمثل فاجعة (نيكولا) ومأساته الحقيقية وتعتبر هي ذروة الرواية.. فيحلم (نيكولا) الغارق في غيبوبة الخمر الذي ظل يعبه طوال الليل في الكابين الصغير حيث يسكن؛ بأنه يضاجع ابنته.. وأثناء الحلم يأتي الرجال ب(إيليا) بعد أن فرغ منها الملك فيضعوها جوار والدها الغارق في غيبوبة الجنس والمضاجعة حتى شحمة أذنه.. وعندما يصحو يفجع عندما يرى ابنته الغارقة في الدماء والعرق والنعاس وبقايا الشهوة الملكية, بينما رائحة شهوته هو تأتي بعد الحلم طازجة تفعم أنفه.. ويظن أنه الفاعل.. وتتوالى الأحداث إلى أن يقتل (نيكولا) ابنته (إيليا) بانهيار صخري غادر بعد أن يحبسها في إحدى مغارات جبل "الدرهيب".. تلك هي مأساة (نيكولا).. الأوروبي البائس الذي جاء باحثًا عن حياة جديدة.. وعن ثروات جبل في صحراء دولة لا يحكمها أهلها.. يصف (صبري موسى) طقوس عذاب (نيكولا) في جمل عبقرية: - "ويتناول زجاجة الخمر فيجدها فارغة.. وكان قد تناولها بالأمس ووجدها فارغة أيضًا.. وسوف يتناولها بعد حين ويجدها أيضًا فارغة..". ويصفه وهو يلعب الشطرنج مع نفسه: - "وكانت عظمة (نيكولا) في أنه يعرف النتيجة سلفًا, ومع ذلك يواصل اللعبة!" - "كانوا يتحدّثون عن الوطن, فيتحسّر (نيكولا) الذي لا وطن له". - "روحه تحلق بعيدًا متطلعة إلى أمكنة جديدة ومتنوعة لم يحلق فيها بعد" الصراع هنا ليس صراعًا تقليديًا بين خير وشر أو بين إنسان ومكان رغم الحضور القوي لجبل "الدرهيب" الأسطوري.. و(نيكولا) نفسه ليس قديسًا رغم أنه يحمل اسم قديس.. وبراءته ليست تامة, فالرغبات والشهوات هي المتحكم الرئيسي في الرواية, وهي ما سيّرت الأحداث.. لولا رغبة الهجرة والتجوال لما قابل (إيليا) الإيطالية.. ولولا الشهوانية والرغبة الجنسية لما سلمت له نفسها فضاجعها وأنجب منها (إيليا) الابنة.. ولولا حلم (نيكولا) بالثروة وامتلاك الجبل لما جاء إلى صحراء بلاد لا يعرفها فيهتك جبل وأرض وثروات ليس له أنه يهتكها.. إنه كل ذلك.. ولعبة القدر حين يقرر أن يقسو بحق.. على الهامش: • أتت فكرة الرواية كما يخبرنا الكاتب في بداية الرواية من ليلة قضاها في جبل "الدرهيب" في ربيع 1963 وأقام في الجبل من نوفمبر عام 1966 حتى نوفمبر عام 1967 معايشًا الجبل برغبة محاولة الكتابة.. لكنه بدأ كتابتها في بداية عام 1968. • نشرت الرواية مسلسلة بمجلة "صباح الخير" خلال عامي 1969 و1970 حتى صدرت طبعتها الأولى في يوليو عام 1973. • فازت "فساد الأمكنة" بجائزة الدولة التشجيعية في عام 1974 وفاز كاتبها (صبري موسى) بوسام الجمهورية للفنون من الطبقة الأولى. • فازت الرواية بجائزة "بيجاسوس" الدولية في عام 1978. • تم ترجمة الرواية إلى الإنجليزية وصدرت طبعتها الأولى عن دار "هوتن مفلن" الأمريكية في (بوسطن) في عام 1980.