في إطار أزمة القضاة الأخيرة التي بدأت في صيف 2006، يأتي كتاب محمد سليم العوا "القاضي والسلطان" تأريخاً لفصول الأزمة، ومحاولة لتعريف الأجيال الآتية كيف كان صنيع أسلافهم جهاداً لنيل استقلالهم، ودفاعاً عن حرمة القضاء وقدسية العدالة؛ في صراع بدأ منذ قيام ثورة 1952 بفصول صامتة، سرعان ما تحولت إلى العلانية من بعد هزيمة 1967، بإصدار نادي القضاة برئاسة المستشار الجليل "ممتاز نصار" بيان 28 مارس 1968 الذي تضمن ضرورة تأمين الحرية الفردية لكل مواطن وسيادة القانون على الحكام والمحكومين في ظل رقابة من السلطة القضائية وحدها. لتأتي بعدها "مذبحة القضاء" ممثّلة في قوانين 1969، ثم قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972.. تلك القوانين التي سلبت القضاء استقلاليته، وأحكمت سيطرة السلطة التنفيذية عليه، لتبدأ بعدها معركة القضاة، وينعقد مؤتمر العدالة الأول سنة 1986، ويُعِدّ القضاة سنة 1991 مشروع استقلال قانون السلطة القضائية، وهو المشروع الذي لم يرَ النور حتى اليوم! يضم الكتاب ثلاثة فصول تحكي جوانب من قصة الصراع بين القاضي والسلطان: الأسباب، والتطورات، والنتائج. ومذيل بملحق بيان الجمعية العامة لقضاة مصر الصادر بتاريخ 23/ 6/ 2006. يبدأ الكتاب بتعريف القارئ إشكالية السلطة - الحرية.. الصراع الدائم بين سلطة تخوّل لصاحبها "السلطان" قدرة على التحكم وإنفاذ إرادته على مَن هم تحت سلطته.. وحرية تعبر عن حق الناس في الاختيار.. وما بين سلطان حريص على سلطته، مُصِرّ على توسيع نطاقها، وشعب طامح إلى الحرية وإعمال القانون الذي ارتضى الخضوع لبنوده، تدور حلقات الصراع، ويبرز دور القضاء والقضاة الذين يخوضون معركتهم الخاصة للوصول إلى حرية واستقلال كاملين، في ظل سلطان يجعل من سلطة التشريع والتقرير والمراقبة مجرد أدوات يخضعها لسلطانه، ويكتسب من خلالها شرعية زائفة، وهنا تأتي وقفة القضاء المستقل لتولّي مهمة الرقابة على حرية الناس في الاختيار، وتعبير هذا الاختيار حقيقة عن إرادتهم.. هذا هو الذي نعرفه بلغة اليوم ب"الإشراف القضائي" على الانتخابات.. هذا الإشراف الذي لا يكون حقيقياً إلا إذا كان في المجتمع سلطة قضائية مستقلة حقاً.. فتح حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 11 لسنة 13 قضائية بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 24 من القانون رقم 73 لسنة 1965 الخاص بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية فيما تضمنته من جواز تعيين رؤساء اللجان الفرعية من غير أعضاء الهيئات القضائية، وفتح الباب للبحث في مدى دستورية نصوص أخرى عديدة في قانون مباشرة الحقوق السياسية، والتي لا يزال أكثرها قائماً ومعمولاً به، والتي لا تجعل لرجال القضاء في الشئون الانتخابية التي تنظمها "ناقة ولا جملاً!" وإنما تعقد لواءها كلها للسلطة التنفيذية ممثلة في وزير الداخلية والمحافظين ورئيس الجمهورية. يقول الكاتب: إن نزع يد القضاء في أي مرحلة من مراحل العملية الانتخابية يعني اغتيال دور القضاء المقرر في الدستور، وبما يحيله مسخاً شائهاً لا يعبر عن إرادة المشرع، ولا يحقق الهدف الرئيسي، والمتمثل في إنشاء حالة من الثقة الكاملة في تعبير نتيجة الانتخابات والاستفتاء عن إرادة الشعب. في 27 يونيو 1997 عقد نادي قضاة مصر الندوة الأولى لضمان نزاهة الانتخابات والتي ناقش فيها التعديلات الواجبة لقوانين الانتخابات العامة تأميناً لنزاهتها وتثبيتاً للثقة العامة فيها وفي القانون والقضاء. وانتهى القضاة إلى تأكيد توصية مؤتمر العدالة الأول (1986) ب: ضرورة تنظيم الإشراف القضائي على الانتخابات في كل مراحلها بما يحقق رقابة جادة وفعلية، وبحيث يرأس القضاة اللجان الانتخابية كافة، ولو استلزم ذلك إجراء الانتخابات على مراحل. واستند القضاة في المذكرة التي أعدوها باقتراح تعديل بعض نصوص قوانين مباشرة الحقوق السياسية، ومجلس الشعب، ومجلس الشورى، استندوا إلى المادة (88) من الدستور، وهي إحدى المواد التي اتخذ منها حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 11 لسنة 13 قضائية (دستورية) دعامة لقضائه. ومفتاح فهم نص المادة (88) المذكورة هو نصها على وجوب كون الاقتراع "تحت إشراف أعضاء من هيئة قضائية". وهنا يجب أن نتوقف عند مصطلحين: الإشراف: وهو ما يحدده الدستور ب: "السلطة الأعلى المهيمنة على ما سواها وما دونها" أو: "مجمع السلطة الأعلى المسيطر سيطرة تامة على ما تشرف عليه". هيئة قضائية: وهو ما يشترط عدة خصائص ليطلَق على الهيئة أنها (قضائية). ومن أهم تلك الخصائص: أن يكون لها الفصل في الخصومات. (القضاء) أن يكون أعضاؤها غير قابلين للعزل (ضماناً للاستقلال). على ذلك يمكن حصر الجهات التي يمكن أن تنطبق عليها تلك الشروط، وأن نطلق عليها (هيئات قضائية)، يمكن حصرها في إحدى جهات ثلاث: 1- القضاء العادي. 2- القضاء الإداري. 3- المحكمة الدستورية العليا. وبناء عليه فإن الإعمال الصحيح الكامل لنص المادة (88) من الدستور يقتضي قصر الإشراف على الانتخابات على القضاة وحدهم، سواء أكانوا قضاة المحاكم، أم قضاة مجلس الدولة، أم قضاة المحكمة الدستورية العليا؛ وكل إجراء مخالف لذلك يكون مخالفاً للدستور. في 12/ 5/ 2003 أصدرت محكمة النقض حكمها في الطعنين 959 و949 لسنة 2000 بشأن انتخابات مجلس الشعب التي أجريت في 8/ 11/ 2000 بقسم الزيتون بالقاهرة، وأعلن في نهايتها نجاح الدكتور (زكريا عزمي) وفوزه بمقعد مجلس الشعب (فئات) عن هذه الدائرة. ونص الحكم على: "تقرير بطلان الانتخابات محل الطعن"، وأسس ذلك على أن ست لجان فرعية "أسنِدت رئاستها إلى غير القضاة من أعضاء هيئة قضايا الدولة أو النيابة الإدارية". وعودة إلى مصطلح (الهيئات القضائية) سالف الذكر، فإنه لا يمكن بحال اعتبار هيئة قضايا الدولة أو هيئة النيابة الإدارية ضمن الهيئات القضائية؛ لكونهما فرعين من فروع جهات الإدارة التابعة للسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل، ولأن أعضاء الهيئة الأولى هم محامو الدولة، الذين يقفون على قدم سواء مع خصومها ومحاميهم أمام القضاء، فلا يمكن أن نطلق عليهم لا محايدين ولا مستقلين؛ أما أعضاء هيئة النيابة الإدارية فهم يتبعون رؤساءهم بترتيب درجاتهم، وهم جميعاً يتبعون وزير العدل، الذي يملك حق الرقابة والإشراف على النيابة وأعضائها، وعملهم يقف عند حد التحقيق واقتراح التصرف الذي يملك القول الفصل فيه جهات أخرى. السؤال الذي يطرح نفسه إذن: من أين أتت قوانين تنظيم هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية بإطلاق مسمى (هيئات قضائية) على كلتا الهيئتين، رغم نصها صراحة على إلحاقهما بالسلطة التنفيذية (وزير العدل ورئيس الجمهورية)؟ والإجابة أن أول استعمال لمصطلح (الهيئات القضائية) كان بقلم (السيد الشعراوي جمعة) آخر وزير داخلية في عهد (عبد الناصر) في تأشيرته المؤرخة يوم 17/ 4/ 1968 ونصها: "تشكل جماعة قيادية للهيئات القيادية وتلحق بتنظيم القاهرة"، وتم تشكيل هذه (الجماعة القيادية) برئاسة وزير العدل الذي كان المسئول الحقيقي عن (مذبحة القضاة) والتي تمثلت في قوانين 1969 الخمسة، الصادرة بقرارات جمهورية. وكان من بين الثمانية أعضاء (الجماعة القيادية) اثنان من مجلس الدولة، واثنان من إدارة قضايا الحكومة. وتكشف محاضر اجتماع تلك الجماعة عن أن الهدف من استعمال مصطلح (الهيئات القضائية) -رغم عدم انطباق هذا التعبير على إدارة قضايا الحكومة والنيابة الإدارية- كان هو تسويغ نقل بعض أعضاء إدارة قضايا الحكومة إلى مقاعد القضاء، وتحقيق أمنية عضوي إدارة قضايا الحكومة وغيرهما من ذوي الحظوة والموالين للنظام بالجلوس في مقاعد القضاة، وعلى الجانب الآخر: نقل بعض رجال القضاء -خصوم النظام- إلى إدارة قضايا الحكومة، أو نقلهم من محكمة النقض إلى محكمة الاستئناف، لإسقاط هيبة القضاء، وهيبة المحكمة العليا بشكل خاص، ولإشعار القضاة بأن الحصانة التي يقرها لهم الدستور وقانون السلطة القضائية لن تحميهم من بطش السلطة التنفيذية! هكذا فإن إطلاق مصطلح (الهيئات القضائية) على غير الهيئات القضائية المعروفة اصطلاحاً ارتبط بأول محاولة للسيطرة على القضاء من قِبل النظام الحاكم، ليستمر بعدها التصاعد في وتيرة استمساك القضاة بأداء واجبهم الذي ناطه بهم الدستور في الإشراف على الانتخابات، وتجلت صورة من أهم صوره فيما صنعه نادي قضاة مصر من تشكيل لجنة لتقصي الحقائق عن إشراف القضاة على الاستفتاء على تعديل الدستور، والذي تم إجراؤه يوم 25/ 5/ 2005 والتي كشفت عن عدة حقائق من أهمها: "لم يزد عدد اللجان الفرعية التي رأسها أعضاء الهيئات القضائية بالفعل على 5% من عددها الأصلي". "زاد عدد بعض اللجان الفرعية التابعة لبعض رؤساء اللجان العامة على 400 لجنة فرعية (!) يستحيل على أي رئيس لجنة متابعتها والمرور عليها". "تم تعديل كشوف الناخبين بعد تاريخ صدورها من مديرية الأمن بتاريخ 30/4/2005". "لم يتجاوز متوسط الحضور في سائر اللجان التي رأسها القضاة 3% من المقيدين فيها! بينما اللجان التي رأسها غير القضاة جاوزت نسبة الحضور فيها 90% وبلغت في كثير منها 100%"! يقول الكاتب: هذه الحقائق الثابتة تبين بياناً شافياً لماذا يستمسك القضاة بصدور تعديل قانون السلطة القضائية، متضمناً ما رأوه محققاً لاستقلالهم الحقيقي عن السلطة التنفيذية، ومانعاً لها من أي تدخل في شئون القضاة والقضاء.. وبغير تحقيق هذه المطالب القضائية، فلن يحظى المصريون أبداً بحقهم في انتخابات حرة حقيقية.. وبسبب هذه الحقيقة القضائية/ السياسية كانت كل الأزمة الحالية للقضاء والقضاة، وللسلطة القضائية وقانونها!! الفصل الثاني توضيح الواضحات: المحكمة والحكم في هذا الفصل يعلق المؤلف على الحكم الذي أصدره مجلس الصلاحية بحق المستشارين (هشام البسطويسي) و(محمود مكي) بداية من الأخطاء اللغوية وانتهاء بمسودة الحكم نفسها، والتي شابها العديد من علامات الاستفهام: عدم استجابة مجلس الصلاحية إلى طلب المستشارين الاطلاع على التهمة وأوراق التحقيق، وعدم تناول ذلك في مسودة الحكم. الشكوك المحيطة بدستورية نص المادة (106) من قانون السلطة القضائية والذي يقيد إرادة المتهم (المحال إلى مجلس الصلاحية) في اختيار من يتولى الدفاع عنه، بأن يكون الدفاع "من غير مستشاري محكمة النقض" الأمر الذي كان يستوجب وقف الدعوى، وإحالة نص المادة إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل في مدى دستوريته. إثبات مدونات مجلس التأديب رفض المستشارين (هشام البسطويسي) و(محمد مكي) دخول قاعة جلسة المحاكمة إلا ومعهما مائتين من الأشخاص، وأن قوات الأمن قد منعت دخول غير المبلِغ والمحالين. والسؤال هنا: من الذي أصدر الأوامر إلى قوات الأمن؟ ومنذ متى يجوز لقوات الأمن التحكم في دخول القضاة أو حتى العامة إلى المحاكم التي هي ملك للشعب؟! وما مدى مشروعية هذا المنع؟! تلك الوقائع وغيرها، والتي نشرها المؤلف في مقال بجريدة (الأسبوع) أثارت عدداً آخر من التساؤلات، بداية من عنوان المقال نفسه (إيضاح الواضحات) وهو التعبير الذي استعمله علماء النحو والصرف حين سئلوا عن مسائل بديهية بينة الوضوح في علومهم.. وهو الأمر نفسه حين نتكلم عن حق المتهم في الاطلاع على أوراق قضيته، وحقه في توكيل من يطمئن إليه للدفاع عنه، وغيرها من البديهيات التي يصعب الخوض في مزيد من التوضيح لها. وتساؤلات اعترضت على إعادة البحث في قيمة الحكم الصادر من مجلس التأديب، بغض النظر عن صحته أو خطئه، ما دام يؤدي الهدف الاجتماعي والسياسي منه وهو إنهاء الأزمة القضائية؛ ويرد المؤلف على صاحب الاعتراض بأن الحكم القضائي في النهاية لابد وأن يأتي معبراً عن صحيح القانون، وليس رامياً إلى تحقيق أهداف اجتماعية أو سياسية، فإن ذلك يخرجه من كونه (قضاء) بمعنى الكلمة، ليتحول إلى شيء آخر يقتضي نظراً آخر غير النظر القانوني، أما عن حل الأزمة وتلك الأهداف الاجتماعية والسياسية، فقد كان يمكن تحقيقها بترك العناد والاستجابة لصوت العقل، واتخاذ القرار الصحيح بعدم تصعيد الأمر ضد المستشارين الجليلين بداية، أو بسحب الدعوى التأديبية في منتصف الطريق، أو حتى تبرئة كلا المستشارين في النهاية! يختم المؤلف هذا الفصل بعدد من ((الطرائف)) التي تضمنها نص الحكم، بدءًا من المذكرة المقدمة إلى وزير العدل وفي مقدمتها نصاً: "كان أمراً مقضياً.. دون أدنى حولا، لاتخاذ ما ترونه" ولم يعرف أحد ما المعنى وما المقصود تحديداً من قوله (دون أدنى حولا)! ثم مسمى المجلس نفسه، الذى جاء مرة باسم (مجلس الصلاحية) وأحياناً باسم (مجلس التأديب)، في تناقض واضح ولبس للمفاهيم، وانتهاء بنص نهاية الحكم ببراءة المستشار (محمد مكي): "أنه احتقر القانونَ واجترأ عليه، وأن هذا المسلك لو كان هو وحده المنسوب إليه لما استأهل الإحالة إلى المحاكمة التأديبية"(!) الأمر الذي يحتاج إلى إصدار بيان خاص يقول للقضاة إن هذه الفقرة من الحكم لا تعني التصريح لهم باحتقار القانون والاجتراء عليه!! ببليوجرافيا: الكتاب القاضي والسلطان: الأزمة القضائية المصرية. المؤلف محمد سليم العوا الناشر دار الشروق سنة النشر 1427 ه / 2006م عدد الصفحات 128