كانوا معنا كتفا بكتف من اليوم الأول للثورة، تعرفهم في التجمّعات السياسية والوطنية بذلك المزيج المتناسق من التديُن والتفتّح والتهذيب -المبالَغ فيه أحيانا- والصرامة في الحق. لديهم رحابة صدر بالغة وتقبّل حقيقي للآخر، ولا يوجد لديهم مبدأ "لا تُجادل ولا تناقش"، ويمتلكون ذكاءً اجتماعيا واضحا.. تلك المميزات التي تجعل من غير المستغرب أن تجد "شِلّة" أصدقاء تضمّ بعضهم مع بعض الشباب اليساري والليبرالي والسلفي، كلٌ يتبادل الأفكار باحترام ومودة صادقة. أتحدَّث عن شباب جماعة الإخوان المسلمين. عن نَفسي -وهو أمر أجد الكثيرين يتفقون معي فيه- أُفرّق دائما فيما يخصّ جماعة الإخوان بين "الجماعة ذاتها" ممثّلة في "القيادات"، و"شباب الإخوان" ممثّلون في فئة من أعضائها الشباب أصبح لها وجود حاضر فيما يمكن تسميته "التيار الإصلاحي" بالجماعة فيما بعد 25 يناير 2011، وأصبحوا أكثر انفتاحا على المجموعات الوطنية الأخرى، إلى حدّ انضمام بعضهم لحركة 6 إبريل ولحملة دعم دكتور البرادعي، قبل انسحابه من سباق الرئاسة. أنا عايشت بعضا من هؤلاء الشباب، وتربطني ببعضهم صداقة قوية، لهذا فقد اقتربت منهم إنسانيا لأُدرك أي مشكلة يعيشونها.. مشكلة "تَمّزُق" بين انتمائهم للجماعة وانتمائهم للصف الثوري؛ خاصة مع المسافة التي تتسع كل يوم بين جماعة الإخوان وباقي الفصائل الثورية والسياسية.
إحدى المشكلات التي يُعانيها شباب الإخوان أن أغلبهم ينضمّ للجماعة ب"الوراثة" نتيجة انتمائه لبيت إخواني، ويندرج -عبر مراحل عمره المختلفة- في منظومة التربية والتأهيل والتدريب الإخوانية، وهو ما يجعل علاقته بالجماعة ليست مجرد علاقة عضو بحزبه أو فصيله، بل هي أشبه بعلاقة شاب ب"قبيلته" أو "عشيرته".. بالتالي، فبعكس المنتمين لأحزاب أو فصائل قد لا يجرحهم كثيرا سماعهم نقدا يصل لحد السباب بحقّها، يشعر الشاب الإخواني أن السُبة موجّهة لأبيه وأمه وأسرته -بحكم انتمائهم للجماعة-وكذلك لمن يشعر تجاههم بالأخوة والبنوة الروحية من مربين وزملاء.
المشكلة الأخرى التي يُعانيها هؤلاء الشباب هي أنهم مطالبون أن يحققوا معادلة شديدة الصعوبة، هي التوفيق بين انتمائهم لجماعة كثيرا ما تتحرّك منفردة عن الصف الوطني وتتصرّف بأنانية سياسية مفرطة تجعلها أحيانا متهمة بعقد الصفقات في الظلام، وبين انتمائهم لجيل ثوري توحّدت صفوفه تحت عَلَم مصر بغضّ النظر عن الانتماءات السياسية والمذهبية. وفي رأيي المتواضع أن قيادة الجماعة تُدرك هذا، وتخشى أن يصل الأمر إما لتغليب الشباب ولاءهم للجماعة على ولائهم الثوري مما يفصل الجماعة بمجملها عن الصف الوطني، أو أن يغلب الولاء للثورة ولاء الشباب لجماعتهم الأم؛ فيحدث مثلما حدث في مايو الماضي من انفصال بعض شباب جماعة الإخوان عن الجماعة، وتأسيسهم حزب "التيار المصري" مع بعض زملائهم الليبراليين واليساريين (وهو حزب محترم شديد الوطنية والثورية أسسه الشهيد بهاء السنوسي، وتشرّفتُ بالتعامل مع أعضائه خلال تحالفهم مع حزبنا "مصر الحرية" في قائمة "الثورة مستمرة"). القيادة الإخوانية تُدرك النتائج السلبية لهذا الصراع النفسي الذي يعيشه شباب الإخوان، فتعمل على استخدامهم ليكون لهم موطأ قدم في الصف الثوري تستطيع أن تنسب لنفسها به المشاركة الإيجابية في الثورة، وفي ذات الوقت تحرر من أي التزامات ثورية جماعية، ولهذا نجد دائما يتكرر قول قيادة الإخوان "الجماعة لن تشارك بنفسها بشكل رسمي، لكن مَن يرغب في المشاركة من شبابها له الحق في ذلك".. وهو ما حدث في يوم 25 يناير 2011، وكثير من الفعاليات الثورية التالية حتى يومنا هذا.
"لقد خسرتمونا.. كيف ستكون لنا عين أن نطلب من الجماعة المشاركة في الفعاليات الثورية معكم بعد ذلك؟"!. هكذا قال لي صديقي الإخواني.. هنا مربط الفرس.. فحديثي عن أزمة شباب الإخوان يأتي بمناسبة ما جرى يوم الجمعة 27 يناير 2012 من صدام مؤلم ومشين بين شباب الإخوان ورفاق ثورتهم من التيارات المختلفة.. أولا لأكون واضحا أنا أرى أن الطرفين كلاهما مخطئ؛ فالإخوان أخطئوا حين شاركوا بصيغة "الاحتفال"، ونحن بعدُ لم نقتصّ لشهدائنا، وكذلك أخطئوا حين حاولوا منع الهتافات ضد الحكم العسكري بتعليتهم الأصوات للتشويش على المنصات الأخرى، بل واستخدامهم القرآن في ذلك. ولكن كذلك أخطأ مَن اصطدموا بالإخوان حين رفعوا في وجوههم الأحذية ورشقوهم بزجاجات المياه والسباب والإشارات البذيئة، وجعلوا الصف الثوري كله "فُرجة" لأعداء الثورة! بل وبلغ الأمر أن يقوم إمام الصلاة يوم السبت 28 يناير -ذكرى جمعة الغضب- بالدعاء على الإخوان في الصلاة فوق كوبري قصر النيل.. بالذمة هل هذه تصرّفات محترمة أو ناضجة؟! أصبح الموقف كالآتي: قيادة الإخوان أخطأت بالاحتفال، والحضور أخطئوا بردّ الفعل -عفوا- الهمجي.. والمُمزّق بينهما شباب الجماعة الذين كانوا هم الأكثر تعرُّضا للسبّ والرشق بل والتطاول باليد. هل تدركون ما الذي حدث..؟ إنه "إسفين" صريح بين القوى الثورية وقوة شبابية يمكنها أن تشكّل فرقة ضغط داخل جماعة الإخوان لإعادتها للصف الوطني إذا حادت عنه في وقت أشدّ ما نحتاج هو اتحادنا! هو كذلك إضعاف لموقف شباب الإخوان داخل الجماعة و"كسر لأعينهم"؛ بحيث لا يعودون للضغط على قياداتهم للمشاركة في الفعاليات الثورية، فضلا عن أنه ضرب لوحدة الصف الليبرالي اليساري الديني المشترك، فقد يترتّب على ما جرى عودة الحساسيات بين التيارات الثلاثة بعد أن وحّدتنا دماء الشهداء. كذلك أخطأ بعض شباب الإخوان حين أخذتهم العزة بالإثم فهتفوا من فوق المنصة "موتوا بغيظكم"، ومارسوا على Facebook وTwitter سلوكا إقصائيا للآخر بالتعالي ومحاولة غناء النغمة القبيحة "نحن مَن حمى الثورة ولولانا لفشلت" (مع أن أي عاقل يتأمّل ثورتنا يُدرك أن الوحيد الذي حماها حصريا من فوق سبع سماوات هو الله وليس الجيش ولا الإخوان ولا أي تيار أو قوة أخرى). تعالوا ننظر للصورة الكبيرة.. اتهام 6 إبريل بالعمالة للخارج، اتهام الاشتراكيين الثوريين بالسعي لإسقاط الدولة، خلق مشكلة بين شباب الإخوان وباقي الشباب الثوري.. أما آن لنا بعد أن ندرك أنها سلسلة متصلة؟! وليس من حق أي منا أن يقول: "وأنا مالي؟ الإخوان هم الذين يشقون الصف!"، بحق الله هذا ليس وقتا لتبادل التنصل من المسئولية الجماعية. هل تخطئ جماعة الإخوان المسلمين بلعبها منفردة وابتعادها عن الإجماع الثوري؟ هذا صحيح.. وهو أمر نتيجته الطبيعية إثارة الشكوك والريبة واستجلاب النقد الجارح بل والمشاعر العدائية أيضا. ولكن ثمة أمر واقع يقول إن الجماعة هي الفصيل السياسي الأكثر تنظيما وقوة في مصر، وأنها في الأساس جماعة "وطنية مخلصة" وإن حادت سياسات قياداتها الحالية أحيانا عن متطلبات إثبات ذلك، وثمة آمر آخر هو وجود تيار إصلاحي شبابي داخل تلك الجماعة نعقد الأمل علي في ردها للسبيل القويم.. ومن الحماقة بمكان أن نخسر هذا التيار، من الجحود كذلك أن نعاقبه بذنب قيادته بعدما كان واقفا معنا في الصف أمام الرصاص والخطر. الأمر لا يحتاج إلا لتحييد الغضب، وتمكين العقل وتغليب الأمانة والضمير الوطنيين على المشاعر السلبية المتراكمة تجاه جماعة الإخوان؛ حتى لا نكون قد جنينا على هذه الفئة من الشباب الوطني، وعلى أنفسنا، وعلى الصف الوطني الثوري كله. قد غضبنا بما فيه الكفاية من بعضنا البعض.. فيا أيها العقلاء.. الدور الآن لكم!