كلنا نعرف نكسة 67 وإن لم نعايشها، وكيف نهضت مصر واستطاعت أن تُعيد احترام العالم لها؛ لكن الآن فنحن نعايش الوكسة؛ فإذا كانت النكسة تعني أن نُهزم من العدو؛ فالوكسة تعني أن نتشاجر وننفعل ونتصايح ونخرّب تحت سمع وبصر كل مُشاهدي الفضائيات؛ بدعوى احتساب هدف أو إلغاء هدف خلال لقاء مثل الأهلي والمحلة في الدوري الممتاز. فالقواميس العربية تقول: "وُكِسَ" التاجر في تجارته أو أصابته وَكْسَة؛ أي خسر في تجارته خسارة فادحة فذهب ماله، وأي تجارة أكثر خسارة من تجارة الشعارات المستعارة والكل يتغنّى بحب مصر!! والعجيب أننا "كلنا دافنينه سوا" كما يقول المثل الشعبي الشهير، والذي أعتقد أن الكل تقريبا يعرفه، ويحكي عن شخصين كان لديهما حمار يعتمدان عليه في تمشية أمورهما المعيشية، ونقل البضائع من قرية إلى أخرى، وأحبّاه حتى صار كأخ لهما؛ يأكلان معه، وينام جنبهما، وأعطياه اسما للتحبب هو "أبو الصبر". وفي أحد الأيام وأثناء سفرهما في الصحراء سقط الحمار ونفق، فحزِنَا على الحمار حزنا شديدا، ودفناه بشكل لائق وجلسَا يبكيان على قبره بكاء مُرا، وكان كل مَن يمرّ يُلاحظ هذا المشهد فيحزن على المسكينين ويسألهما عن المرحوم، فيُجيباه بأنه المرحوم أبو الصبر..كان الخير والبركة.. يقضي الحوائج ويرفع الأثقال.. ويوصل البعيد. فكان الناس يحسبون أنهما يتكلّمان عن شيخ جليل أو عبد صالح، فيُشاركوهما البكاء، وشيئا فشيئا صار البعض يتبرّع ببعض المال لهما، ومرت الأيام فوضعا خيمة على القبر، وزادت التبرعات فبنيا حجرة مكان الخيمة، والناس تزور الموقع وتقرأ الفاتحة على العبد الصالح الشيخ الجليل أبو الصبر، وصار الموقع مزارا يقصده الناس من مختلف الأماكن، وصار لمزار "أبو الصبر" كرامات ومعجزات يتحدّث عنها الجميع، فهو يفكّ السحر، ويزوّج العانس، ويغني الفقير، ويُشفي المريض، وكل المشكلات التي لا حل لها. فيأتي الزوار ويقدّمون النذور والتبرعات طمعا في أن يفك الولي الصالح عقدتهم، واغتنى الأخوان، وصارا يجمعان الأموال التي تبرع بها الناس السذج ويتقاسمانها بينهما، وفي يوم اختلفا على تقسيم المال، فغضب أحدهما وارتجف وقال: "والله سأطلب من الشيخ أبو الصبر (مشيرا إلى القبر) أن ينتقم منك ويريك غضبه ويسترجع حقي".. ضحك أخوه وقال: "أي شيخ صالح يا أخي؟ أنسيت الحمار؟ ده إحنا دافنينه سوا!!". نعم فجماهير كرة القدم هي حجر الرحى في لعبة كرة القدم في التشجيع، وبثّ روح الحماس في اللاعبين خلال المنافسات المحلية والقارية والعالمية؛ ولكن في الوقت نفسه هي القنبلة الموقوتة في حال الهزيمة. وعن حالة الجماهير والإداريين واللاعبين عند الفوز أو الخسارة فحدّث ولا حرج عندما تكون المباراة دربي أو كلاسيكيو أو دورة تحمل طابع التنافس؛ فالكل يتحدّث عن فريقه ووصف نجوم فريقه المدللين بعبارات وكأنهم محترفون في الدوري الأوروبي وإدارة الفريق النموذجية التي هيّأت لهم الجو الملائم لإعداد الفريق، والحوافز التي تنتظر اللاعبين بعد الفوز. ولكن كل هذا الإطراء والمديح مربوط بلغة الفوز ولا شيء غير الفوز، وعند الهزيمة يختلف الأمر وتبحث عن كبش الفداء دون معرفة أسباب السقوط؛ وذلك لجهل بعض الإداريين بالظروف والمتغيرات التي أحاطت باللقاء، وما صاحبها من المعطيات البدنية والأنماط التكتيكية التي أدّت إلى السلبية؛ فاللاعبون يرفضون التحدّث إلى وسائل الإعلام المختلفة، وإن تحدّثوا فلن يقولوا جملة واحدة مفيدة، والإداريون لو تكلّموا فكلامهم يتجاوز الخطوط الحمراء. المشكلة الحقيقية هي أن بعض الجماهير عندنا ليس لديها الخلفية والدراية بخبايا كرة القدم وفنياتها حتى تعرف لماذا خسر فريقها، ولا عن الفريق الذي تشجّعه، ومساهمتها معدومة وربما لا تعرف شعاره إذا طرأ عليه أي تعديل، ولها مصالح من مجاهرتها بانتمائها إلى الفريق، وبعض الجماهير تشجع الفريق عندما تحضر إلى المدرجات كأي عابر سبيل وتكون سمعت باسم الفريق فقط، في حين أن الجماهير النموذجية هي التي تشجّع وتؤازر فريقها وتساهم في تسيير أموره بكل الوسائل، وتناقش بموضوعية السلبيات والإيجابيات، وتعرف كل ما يدور في أروقة النادي الذي تعشقه؛ فمن الضروري أن تنسق إدارات الأندية جهودها مع لجان الأنصار من أجل القيام بحملات التعبئة والتوعية وشرح مضامين قانون الاحتراف وسط الجماهير؛ من أجل الوصول إلى أفضل النتائج، مع الوضع في الاعتبار أنه من شروط الدخول في منافسات مع الغير هو تقبُل النتيجة النهائية للمنافسة مهما كانت. وأخيرا.. يبقى على الإعلام رسالة مهمة؛ وهي توعية المشجع أو المجتمع على تقبّل الهزيمة كما تقبّل الفوز؛ لأن في النهاية الرياضة فوز وهزيمة؛ فمتى يعود الشعار الذي تعلّمناه منذ نعومة أظافرنا "ابتسم عند الفوز وتواضع عند الهزيمة"؟ ومتى نشاهد ثقافة رياضية كروية في بلادنا تتعامل بكل اللغات الحضارية عند الفوز وعند الهزيمة؟ فكم من حمار دفناه بأيدينا ثم تحوّل بقدرة قادر إلى شيخ صاحب كرامات، وكم من هذه المزارات الوهمية موجودة في عالمنا الخاص، والتي تثبت براعتنا في خلق الأوهام، وتخليد ذكرى أبطال دون بطولات على أرض الواقع، فكفا دفنا للحمير، وبناء لمزارات وهمية عليها، وكفى الله المؤمنين شر القتال.