قرأتُ هذا الكتاب في المرحلة الجامعية؛ حيث كان صادرا عن مكتبة الأسرة، وأَذْكُر أنني اندهشتُ من حجمه الضخم.. مَن يملك هذا البال الرائق لكتابة مجلد كهذا. طبعا كانت الكتب تُغري بشرائها خاصة مع أسعارها المناسبة جدا، ومع أول صفحات الكتاب وجدتُ نفسي أنزلق مع الكاتب في رحلته الحياتية الممتعة مع الأشخاص والأماكن والمواقف. هناك سمة مميّزة في كتابات أنيس منصور أنه ينطلق من الخاص إلى العام، ومن الفرد إلى المجموع، وأعتقد أنه يتشابه في ذلك مع مفكّر عظيم مثل جلال أمين، مع الاختلاف طبعا بين الرجلين في نواحٍ عديدة. السمة الثانية أنك تشعر بأنك تقرأ لواحد يُجري محادثة طويلة مع نفسه أو معك.. إنه لا يحاول أن يقنعك بشيء على الإطلاق. إنه يتحدّث فقط، أو كما قال في مقابلة تليفزيونية "يعرض بضاعته فقط" دون أن يهتم حقيقة برأيك الشخصي، أو قناعتك الفكرية.. المهم أنه يتكلّم فقط. السمة الثالثة أن العامل المشترك في كتاباته كلها هو روح الفلسفة التي تنضح بوضوح من قصصه القصيرة، وترجماته لعيون المسرح العالمي، ورحلاته الشهيرة مثل "حول العالم في 200 يوم"، والذي أحدث ضجّة وقت نزوله، ناهيك عن كتاباته السياسية التي تمتزج -كالعادة- مع ثقافته الفكرية والأدبية الخصبة، ولا يمكنك أن تفصل هذا عن ذاك، حتى مجالات الظواهر الغامضة (مثل: لعنة الفراعنة، والفضائيين القادمين من مجرات بعيدة، والسحر والشعوذة، وخرافات المشايخ ومبالغاتهم، ستجد أنه طرقها بقلمه في كتب عديدة، ومهما كنت لا تصدّق ما يقوله أو تتشكك في وجوده؛ فإنك ستستمتع جدا وأنت تقرأ، وهو ما يقودنا للسمة المبهرة في كتابات ذلك العظيم أنه "السهل الممتنع". إنه يطرق أي موضوع مهما بلغت صعوبته بشكل فذّ، وهو يذكر واقعة طريفة أنه كتب مقالا وقرأه المفكّر العظيم عباس محمود العقاد، وأعجبه، ولم يُصدّق أنيس منصور أنه كتب مقالا أعجب الرجل الذي نادرا ما يُعجب بشيء. نحن هنا نتحدّث عن العقاد الذي كان قِبلة الأدباء، وكان الوحيد الذي يتعيّش من قلمه، وهو ما أثار حسد عظيم آخر هو طه حسين. وعندما استفسر عن سبب إعجاب العقاد بمقاله كانت الإجابة الصادمة "الأسلوب". تجاوز العقاد الموضوع والأفكار، وركزّ على الأسلوب. وجد أنيس منصور أن الأسلوب معقد وغامض، وهو ما يتشابه مع أسلوب العقاد نفسه الذي كان غاية في الصعوبة، وهو ما جعله مختصا بالنخبة المثقفة، والطريف أن أنيس منصور من فرط افتتانه بالأول كان ينوي أن يقوم بتلخيص كتبه بأسلوب سهل للعامة، لكنه وجد أنه لو فعل هذا فسوف يزيد من أسطورة العقاد، وسحق نفسه تماما. والحق أنه قد اختط لنفسه أسلوبا بسيطا ممتعا، يفهمه المثقف والقارئ العادي على حد سواء؛ لهذا ستجد أن أنيس منصور في مقالاته الصحفية وعموده الشهير "مواقف" وكتبه وأحاديثه هو السهل الممتنع كما قلت. عودة إلى كتاب "عاشوا في حياتي" وهو من نوعية السيرة الذاتية الخاصة جدا بحياة الكاتب، يروي فيها كيف أثّر أشخاص معيّنون على حياته، وساعدوا على تكوينه، وهي تجربة تكرّرت في كتب أخرى؛ مثل "البقية في حياتي"، و"شارع التنهدات". في مقدمة الكتاب ترى الكاتب يأتي على ذِكر شخصيات عديدة من الشرق والغرب؛ منهم من رحل، ومنهم من ينتظر، وهو هنا يُركّز فيها على الأشياء التي ساعدت على التكوين؛ فهو يتحدّث عن "جيته" بأنه سُئِل ذلك السؤال، فكانت إجابته "كما أن أحدا لا يعرف نوعية الطعام والشراب الذي يجعل أظافرك ويعنيك لامعة؛ فإن أحدا لا يعرف بالضبط ما الذي أثّر فيك أدبيا وفلسفيا". والحقيقة أنه من الصعب جدا أن تعرف ما الذي أثرّ في أنيس منصور؛ فهو من حيث التكوين النفسي يعترف -في ذات المقابلة التليفزيونية السابقة- أنه شخص بلا طموح. كان يريد وهب نفسه للفلسفة برغم معرفته بأنها طريق جالب للفقر، لكنه عمل بالصحافة وهو لا يُحبّها، وعندما صدر كتابه "حول العالم في 200 يوم" وكان حدثا أدبيا مذهلا في أدب الرحلات، أُحضر ليكون أصغر رئيس تحرير في مصر، ثم ليتنقل من مجلة إلى أخرى، ومن كتاب لآخر، ومن دولة لأخرى، وهو محظوظ بشكل مثير للتساؤل والحيرة؛ فتجده يقابل "الدلاي لاما"، و"فردريش ديرنمات"، وغيرهما من رموز عصره، وتتحوّل مسرحياته وقصصه لأعمال مرئية، ويكون صديقا للرئيس السادات، ويحقّق مجدا وشهرة، ومع ذلك هو بلا طموح، وحاول الانتحار مرتين. الفصول الأولى من الكتاب يتحدّث فيها أديبنا الراحل عن طفولته بمدينة المنصورة في قرية تابعة لها، وعن تفوّقه اللافت للنظر في المدرسة، حتى أن مدرسيه لم يكونوا متأكّدين من هذه النباهة، وقد اعتبروه غشاشا، والحقّ أنه كان متفوّقا في كل مراحل سنوات دراسته، وكان ترتيبه الأول في الشهادة الثانوية، وقد أبلغ الخبر لوالده قبل أن يموت بلحظات. تشعر وأنت تقرأ له بأنه حائر، وأن هناك العديد من المواقف الحياتية لا يفهمها على حقيقتها؛ فهو مثلا يروي في مرحلة متأخّرة من الكتاب أنه في المرحلة الثانوية لم يفهم معنى الحب، أو مشكلاته، وما معنى أن يذهب أحدهم لخطبة فتاة. ومع ذلك ستجد أن الرجل حلل نفسية المرأة بشكل عميق أحيانا، وغير كافٍ أحيانا أخرى؛ خاصة في حديثه عن شخصيات شهيرة جدا؛ مثل أم كلثوم، وشجرة الدر، ومارلين مونرو، وغيرهن... وهو مشهور بجمله القصيرة البارعة التي تصلح لأن تُدرّس بمفردها، بغضّ النظر عن كونها تقترب من الحقيقة أم لا؛ فهو فيلسوف، والفلاسفة يروْن الحياة من منظور مختلف. كان نهما للقراءة بشكل مذهل، ويقول بأنه قرأ روايات أرسين لوبين والقصص المترجمة للعظيم عمر عبد العزيز أمين فيما يُعرَف ب"روايات الجيب"، والتي كان تأثيرها على معظم الأدباء في ذلك الوقت، وحتى وقت قريب ممن يكون محظوظا ويحصل عليها من باعة الكتب القدامى، أو سور الأزبكية. لكن المنطقة الجذّابة بحق في الكتاب، أو أكثر جاذبية من غيرها، هي علاقاته بثلاثي عصره في الأدب: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس محمود العقاد، وما يُميّز كل واحد عن الآخر، وكما أنه تحدّث عن لحظات مجدهم ومعاركهم الأدبية المشتعلة، تحدّث عن أمزجتهم، وكتبهم، وآرائهم، واللحظات الأخيرة في حياتهم أيضا. سنجد في الكتاب الكثير والكثير جدا من الذكريات، والأفكار، والتحليلات الفلسفية العميقة والطريفة، وقصص الأدباء والفنانين والمفكرين، وهذا كله في بوتقة واحدة اسمها "أنيس منصور"؛ حيث كان يرى الحياة من وجهة نظره هو، ومهما اختلفنا أو اتفقنا معه، فإننا سنكمل رؤية ما رآه؛ لأننا نستمتع به ونفهمه جيدا، وهو ما أحسب أن أديبنا قد نجح في تحقيقه.