من المؤكد أن إيقاع كاتبنا الكبير أنيس منصور سريع للغاية، ولكن من الصعب أن تحدد ما إذا كانت هذه السرعة تقتصر على القراءة أم الكتابة أيضا. القريبون منه، وكنت قريبا منه فى فترة من فترات حياتي، يعرفون أنه يكتب بنفس سرعة القراءة، وكان سكرتيره هو الوحيد الذى يستطيع أن يفك رموز كتابته، أما الآخرون فيرون فى مخطوطاته خطا واحدا لا تتمايز فيه الحروف. كم عدد الكتب التى قرأها أنيس منصور؟ وكم عدد الكتب التى كتبها؟ أستطيع أن أقول مطمئنا: عدد غير محدود. كان يعيش بالكتابة وعلى الكتابة ، وقد كتب حتى آخر نفس، حتى الموت. ذات مرة عندما كنت أتحدث عنه مع جمال الغيطانى كنت أرفق ذكر اسمه دائما بالأستاذ، فاستوقفنى الغيطانى فى ثنايا الحديث وسألني: لماذا كلما جاء ذكر أنيس لا تذكره إلا بالأستاذ. وكان ردى الذى يعرفه كل من عمل معه: كنا جميعا نعرفه بالأستاذ، ونخاطبه «ريس»، فهو مؤسس مجلة أكتوبر ورئيس تحريرها، ولا يزال كثير من الكتاب، فى الشرق والغرب، مصريون وغير مصريين، عندما تذكر مجلة أكتوبر يقروننها باسمه رغم توالى رؤساء تحرير آخرين عليها، مع كامل الاحترام لهم. وربما كان الفارق الأساسى والكبير بينه وبين أى رئيس تحرير آخر هو ذلك الرابط «التعليمي» وبينه وبين المحررين الآخرين، فهو ينقل خبرته بسلاسه إلى تلاميذه، ويجلس معهم، ويأكل معهم، ويلعب معهم «الشطرنج»، ويخرج معهم، ويعينهم بكل الطرق الممكنة. كان أنيس منصور ينتمى إلى مدرسة أخبار اليوم الصحفية، التى تسمح لمحرر الأخبار أن يدفع باب «رئيس التحرير» بقدمه ويدخل عليه فى أى وقت، ويعرض عليه ما يشاء. ربما كانت الناس تعرف أنيسا باعتباره كاتبا ومفكرا، تختلف أو تتفق معه، ولكن من عمل معه يعرف أنه كان صحفيا قديرا، يهتم بالخبر قدر اهتمامه بالمقال. أذكر أننا كنا نعمل، تحت قيادة الصحفى القدير عونى عز الدين رحمه الله، فى تحرير باب «اتجاه الريح»، وحققنا معه إنجازات كثيرة على مستوى السبق الصحفي، مقارنة حتى مع الصحف اليومية التى كانت تصدر معنا صباح السبت، وفى اللحظات الأخيرة قبل الطبع كان أنيس منصور هو صاحب أهم خمسة أو ستة أخبار تظهر فى الصفحة الأولى. وكما كان صاحب أهم أخبار العدد، فقد صاحب أهم حوارات نشرتها مجلة أكتوبر، وقدرته على الحوار لا يدانيه فيها أحد، فهو ليس محاورا تقليديا، وإنما هو محاور «لطيف»، تحب أن تتعلم منه «الجاذبية» فى الحوار، التى تحولك الى نديم سمير، وتجعل الحوار ممتعا. كذلك كان محللا سياسيا بارعا، فهو يصل بما تعلمه من فلسفة إلى لب وجوهر القضية التى يعالجها، ولعل هذا هو سر نجاحه فى عموده اليومي، الذى لا تتجاوزه الأحداث، ولا تدعه يقع فى فخ التحليل المضطرب الذى تثبت تطورات الأحداث عدم مصداقيته. كان يأنس دائما لأراء الخبراء، وهو فى أكتوبر كان يأنس لتحليلات عبد العظيم حماد وعبد المنعم مصطفى، وخاصة فى شئون السياسة الدولية، حماد فيما يتعلق بتأثير المحلى على الدولى ومصطفى فيما يتعلق بتأثير الدولى على المحلى. ثم كانت لأنيس منصور كاريزما، علاوة على كونه مسامرا ونديما ممتعا، فهو كان شديد التأثير على من حوله، وأذكر أن زميلنا نصر القفاص، عندما عمل معه إبان رئاسته لتحرير صحيفة مايو، لسان حال الحزب الوطنى المنحل، ورأى صديقنا وزميلنا الراحل حاتم نصر فريد، وكان من أشد المتأثرين بشخصية أنيس منصور، فكان يتحدث مثله، ويأتى بنفس حركات الجسم وإيماءات الرأس، بل وأحيانا كثيرة، كلماته نفسها، فسأل حاتما وقد وصل قبل «الريس»: ها قد وصل الأستاذ أنيس، ونحن فى انتظار الأستاذ حاتم. وبمناسبة الحزب الوطني، ترك أنيس منصور رئاسة تحرير «مايو» لأنهم كما قال لى شخصيا: «حرامية، يبيعون الورق» ويقصد حصة مايو من ورق الطباعة. ولم يذكر مَنْ بالتحديد الذى كان يسرق الورق أو كان يبيعه. الكاتب أسلوب. وكان أنيس منصور كاتبا له أسلوب، وهى الميزة الكبرى التى جعلته، رغم ما يثيره من اختلاف وخلاف فى الرأى والموقف، مقروءا، وبامتياز. لابد هنا من أن أعترف أننى ارتبطت بقراءة الأهرام اليومى على مدى 30 عاما بادئا بعمود أنيس منصور. ولم أتوقف عن قراءة الأهرام إلا أثناء ثورة 25 يناير، فقد وصل أداؤها المهنى إلى الحد الذى يمكن وصفه بالعار، ولم أعد إليها بعد ذلك أبدا، رغم جهود الإصلاح التى يقوم بها عبد العظيم حماد. ورغم هذه القامة الكبيرة للأستاذ، إلا أنه عاش مظلوما، مأخوذا بجريرة أراء لم يستطع أن يفهمها الناس، إلا القليل، مثل موقفه من العلاقة مع إسرائيل، التى يعرف هو كثيرا من خباياها أثناء عمله قريبا جدا من صانع القرار، أثناء حكم الرئيس السادات، والذى وضعه فى خانة اليمين المصري، رغم أنفه. مأخوذا أيضا بهجومه الحاد على الرئيس عبد الناصر وعهده، ولم يفهم الناس كيف كان يعانى أثناء حكم عبد الناصر، وهى الفترة التى كان فيها أنيس منصور نجما صحفيا من الطرازالأول واتسعت فيها شهرته إلى كافة أنحاء العالم العربي، ولم يكن من أبناء الطبقة الأرستقراطية التى أضيرت بالإصلاحات الاشتراكية التى أدخلها نظام عبدالناصر فى مصر. لا يفهم هذا إلا من عمل صحفيا فى ذلك العصر، وعانى من مقص الرقيب، الذى كان حاضرا، جسديا، فى جميع المؤسسات الصحفية. ولا يفهم هذا إلا من فقد عمله لسبب لا يفهمه، ولو ليوم واحد. لم يكن أنيس مبالغا فى حبه للسادات، ولكنه كان بالتأكيد مبالغا فى كرهه لناصر. هذا الظلم الذى عانى منه أنيس منصور جعل النقاد لا يعطون أدبه وفكره حق قدره. فعلى مستوى الأدب كان للأستاذ ترجمات كثيرة، منها مثلا قصص البرتو مورافيا، وهو أستاذ فى الترجمة، يعطى لنا نصوصًا جديرة بالقراءة، كما لو أن المؤلف الأجنبى كان قد كتبها باللغة العربية. وكانت له مؤلفات كثيرة أيضا، فى الرواية وفى المسرح، لكن أحدا لم يدرسها الدراسة الكافية، من وجهة النظر الأدبية، وهذا خطأ كبير وقع فيه النقاد المصريون والعرب، فهم يهملون بعضا من الأدب بسبب الموقف السياسي. إن الاختلاف السياسى لا يصح أن يكون سببا فى حكمنا على إبداع كاتب، ولا يجوز أن نهمل إنتاجا أدبيا لا ينسجم صاحبه مع آرائنا. لا أجاوز القول عندما أؤكد أن كتابا مثل «حول العالم فى مائتى يوم» هو كتاب أساسى فى أدب الرحلات العربي، فقد قرأته وقرأه أبناء جيلي، والجيل الذى سبقني، وبعض الأجيال اللاحقة. قال لى عمر دبوس وهو مترجم سورى يعيش فى روما إنه قرأ هذا الكتاب وعمره 14 عاما. وقال لى الدكتور محمود جاران وهو أستاذ جامعى أردنى إنه أحب القراءة عندما كان أول ما قرأ فى حياته هو هذا الكتاب بعينه. قد لا يكون هذا الكتاب هو النموذج الأكثراكتمالا لأدب الرحلات، ولكن من المؤكد أن له فضل على الأدب بصفة عامة وأدب الرحلات بصفة خاصة: فقد جذب إليه جمهورا وجعل له قارئا وأعلى سمعته لكى يتساوى مع باقى أجناس الأدب. وكما كان لأنيس هذا الدور الرائد فى أدب الرحلات كان له فضل أيضا فى نشر الفلسفة وجعلها قريبة من ذائقة الناس جميعا، فهو قدم الفلسفة الوجودية فى مصر، وشرح المفاهيم الفلسفية العميقة بأسلوب يسير مبسط، وهذا أيضا دور لم يؤده غيره، وكان له أثر كبير فى تطوير وتنوير الفكر، وفى إعلاء كلمة العلم، وجعله مقياسا وحكما فى كل أمورنا. أدب الصورة الذاتية، وليس السيرة الذاتية، هو مضمار آخر يصح أن نكتبه باسم أنيس منصور. ففى «صالون العقاد كانت لنا أيام»، سرد وروى وحكى وفصل وفسر ورسم صورة يحسبها القارئ أنها للأستاذ العقاد، والحقيقة أنها كانت محاولة شديدة الدقة فى رسم صورة لنفسه، لشخصيته، لعصره، لبئيته. إذا أردت أن تعرف من هو أنيس منصور، وإذا أردت أن تستمتع بالقراءة أسلوبا وفكرا وعمقا فإقرأ ذلك الكتاب.. رحمك الله يا أستاذ.