بدأت وصلة الحوار المباشر من شرفات المنازل في موعدها المحدد بين جارتيّ أم أحمد وأم مينا، ويبدو من خلال الاسمين أن أولاهما مسلمة والثانية مسيحية. وانتهى بهما الحديث إلى موسم الشتاء القادم، وتذكّر موجة الحر الشديدة التي هاجمت البلاد في الفترة السابقة، والتي انكسرت حدتها في شهر رمضان؛ فبادرت السيدة أم مينا بالقول بأن الله تعالى قد "رطّب الجو عليكم في شهر رمضان"؛ فردّت أم أحمد ببساطة: "طبعا يرطّبه علينا، أُمّال هيرطبه عليكم أنتم؟! ده أنتم هتخشوا النار حدف"؛ فضحكت أم مينا وردّت بأن الله يختبر صبر عباده المحبين. وانتهى الحوار عند هذا الحد، دون أن تجد أي منهما غضاضة في كلام الأخرى التي عبّرت عن معتقدها بشكل بسيط، لم يحمل في طياته كرها لصاحب العقيدة الأخرى، ولا عداوة، ولا رغبة في قتله أو الانتقام منه، وفي نفس الوقت لم تجامل على حساب دينها، ولم تقُل إن "كلنا داخلين الجنة سوا؛ لأننا نعيش في محبة وسلام". تذكّرت ساعتها الكلام المنمق الذي يقال في المحافل من المثقفين والنخبة عن المحبة والمواطنة بين الطرفين، ودعنا من أنه كلام لا يخرج من القلب لأنه يُقال ليسدّ خانة إعلامية فحسب، ولنلتفت للكلمات الصادقة من عامة الشعب لكنها مبالغة لإظهار هذه المحبة، والتي يؤكّدون فيها محبّتهم وحمايتهم لإخوان وطنهم؛ فيرفعون الصلبان مع المصاحف، في مشهد يحرّك مشاعر المحبة والتآلف في نفس كل مصري خالص، ويستفزّ الكثير من مشاعر الغضب على العقيدة والدين من بعض المتدينين الغيورين على دينهم. وتثور ثائرة بعض المتدينين بأن هذا من خلل الاعتقاد؛ أن يرفع المرء الرمز الأساسي في دين الطرف الثاني أو كتابه المقدس.. وبعضهم قد يغالي في نبذ كل أشكال المحبة، ويرى أننا مجرد جيران مجبرين على التعايش. والحقيقة أن العدل هو مكان بين الجانبين؛ فليس علينا رفع الصلبان وليس عليهم رفع القرآن حتى يعترف كلٌ منا بحبه للآخر، ولا علينا أن نستحسن دينهم ونقول إنه من الأديان الجميلة المنجية من النار ولا هم كذلك، ولا أن يذكر أحد الطرفين أن القتلى من الطرف الآخر هم شهداء يحلّقون في الجنة؛ لأن الشهادة مرتبة خاصة بأصحاب الديانة أنفسهم، وليست مشاعا لكل من قُتل في دفاع مشروع عن نفسه وعرضه وأرضه ومكتسباته؛ فحب الوطن شيء وحب العقيدة شيء آخر. لماذا لا نتضامن معهم مثلا كتضامننا مع الفئات المختلفة التي تشترك معنا في ديننا (الشيعة والسنة، السلفية والإخوان، الأرثوذكس والإنجيليون.. إلخ)؛ فلا يكون التعبير بالدين رمزا عن التضامن؛ بل يكون بشعارات كلامية ووقفات، أو حتى التضامن السلبي بعدم المشاركة في التحريض عليهم ولا إتاحة الفرصة للنيْل منهم؛ سواء بالكلام أو الفعل. وهل عندما يشجع الزمالكاوية مثلا الأهلاوية في إحدى الدورات الأجنبية التي يكون فيها الأهلي ممثلا لمصر؛ هل يرتدون الفانلات الحمراء تعبيرا عن تضامنهم وتشجيعهم لهذا النادي؟ أم يحتفظون بمظهرهم وعقيدتهم الكروية مع المحبة والاستماتة في تشجيع الطرف الثاني؟ وهل يجب على المسيحي حتى يسترضيني أن يدخل ليصلّي ركعتين في المسجد، أو أن يحضر صلاة الجنازة؟! هذا شيء وذاك شيء آخر. ويذكّرنا التاريخ بأن محمد الفاتح قد اعتمد في جيشه على مجموعة من القادات المسيحية في أثناء معركته لفتح القسطنطينية التي كانت تابعة لإمبراطورية الروم، ومن المعروف أن ديانة الروم هي المسيحية؛ لكن ذلك لم يمنع المسيحيين من الدفاع عن وطنهم ومؤازرة ملكهم في مواجهة العدو؛ حتى لو كان العدو من نفس ديانتهم.. ولم يستلزم ذلك منهم في المقابل أن يصلّوا ركعتي الشكر التي صلاها المسلمون بعد النصر، ولا أن يرفعوا رايات "لا إله إلا الله محمد رسول الله". الفرق بين المواطنة والموالاة نحتاج هنا إلى وقفة تفصّل الخلاف الذي يقع فيه الناس أحيانا حول مصطلح "الولاء والبراء" الذي جاء في ثنايا الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ}.. حتى قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ}، وصرّحت بها وفصّلتها كتب العقيدة الإسلامية، وبين مبدأ المواطنة الذي يقتضيه التعايش وتفرضه طبيعة النفس البشرية المجبولة على محبة عناصر مجتمع الفرد وجيرانه وأصدقائه ومن يُحسنون إليه. وتقتضي عقيدة "الولاء والبراء" في الإسلام أن يتبرّأ الإنسان من كل دين مخالف لدين الإسلام الذي يراه المسلمون ويؤمنون أنه هو الدين الحق، ويتبرّأون من كل من يدعو إلى غيره أو يخالفه أو يحرّف فيه، وفي المقابل يوالون ويحبّون في الله تعالى من هو على ملتهم وعلى دينهم.. وبذلك يجب على كل مسلم ألا يوالي غير المسلمين وألا يدعمهم في مواجهتهم مع المسلمين.. ويحرم عليه مناصرة دينهم، والدفاع عن عقيدتهم، ومجاملتهم بمدح دينهم، وأن من فعل ذلك فقد دخل في طريق الضلال. لكن الآية الكريمة في نفس سورة الممتحنة وضّحت هذا التبرّؤ من غير المسلمين المقصود بهذه العقيدة؛ حيث قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}.. {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ}؛ فوضحت الآيتان أن الموالاة هنا محظورة على كل من عادى المسلمين حربا، وعمل على مناصرة عدوهم عليهم، وآذاهم في ديارهم.. وفي مقابل ذلك يجب على المسلم موالاة ومحبة صحبته ومجتمعه لأشخاصهم لا لديانتهم، والإحسان لهم، والدفاع عنهم وعن أعراضهم وأموالهم ودور عبادتهم. إذن يُفهم مما سبق أن الأصل الذي حضّ عليه ديننا هو المشاركة والتلاحم معهم، والحماية المشتركة عن أنفسنا وأرواحنا وأوطاننا وأعراضنا ودور عباداتنا؛ بشرط ألا ينسحب هذا الأمر على الدين، وأن يحتفظ كل بعقيدته واستحسان دينه ورموزه الدينية في نفسه وطائفته وأصحاب ملته، دون الدخول في مهاترات أو مبالغات ممقوتة تثير اللغط والفتن أكثر مما تجلب من مصلحة.