كنت قد نشرت الأسبوع الماضي في نفس الزاوية مقالا بعنوان (الطلاب المسيحيون والقرآن) وسجلت رأيي في تدريس نصوص القرآن في مادة اللغة العربية وطالبت بعدم التفرقة بين المسلمين والمسيحيين في غير مادة التربية الدينية لأن هذا تعدٍّ على المادة العلمية وإرواء لبذور الخلاف والتفرقة.. وظننت أن قارئي الكريم سيفهم أني اكتفيت من المقال بما يخص التعليم واللغة العربية وبلاغة النص القرآني.. ولكن تحوّل المقال لسجال بين المصريين مسلمين ومسيحيين، وانطلقت الآراء تسكب المشاعر والعواطف والأهواء.. الفكر المسلم الذي تحدث عن أن المسلمين "هم الأغلبية ويدرّسوا دينهم بمزاجهم"، والفكر المسيحي الذي قال: "آه نسيت إنكم الأغلبية ومن حقكم تكتبوا التاريخ على مزاجكم".. كلاهما وجهان لعملة زائفة واحدة.. الأول افترى على الله وعلى دينه حين ظن أنه سبحانه يرضى بقهر المخالفين في العقيدة بمنطق الكثرة.. الله سبحانه وتعالى لم يأمر عباده بالعدوان ولا بنشر دينه بالإكراه والإرغام، فقال سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [سورة البقرة آية 256]، وقال سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [سورة الممتحنة آية 8].. أن تبروهم وتقسطوا إليهم.. أي تعدلوا فيهم؛ بإحسانكم إليهم, وبرّكم بهم كما ذكر الطبري في تفسيره. لو أن الذي يقول بأن "الأغلبية دينهم هو اللي يمشي" فكّر قليلا فيما يقول لعلم أنه يوجد عذراً ذهبياً لأبي جهل وأبي لهب وأمية بن خلف في إيذاء المسلمين وتعذيبهم حتى الموت.. إذ لم يكن هؤلاء يفعلون غير فرض معتقداتهم تجاه الأقلية المسلمة في مكة.. ويوجد العذر لمحاكم التفتيش الصليبية في أوروبا والتطهير العرقي للأقليات المسلمة في صربيا والفلبين والصين بحجة أنهم الأغلبية ودينهم هو اللي يمشي.. ثم أرى أنه من الواجب علينا أن نبرئ الإسلام من هذه المقولة؛ لأننا بهذا نظلم الإسلام، ونخالف الرسول، وصحابته الأبرار حين فتحوا البلاد وعاهدوا أهلها على السماح لهم بحرية التعبد وحافظوا لهم على دور عبادتهم.. ويكفيني هنا أن أنقل جزءاً من عهد عمر بن الخطاب التاريخي لأهل بيت المقدس، حين فتح المسلمون القدس؛ يقول النص: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا (أي أهل بيت المقدس) من الأمان. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم... هذا ما عاهد عليه عمر بن الخطاب مسيحيي القدس.. فما بالنا اليوم ننقض نحن المسلمين عهد عمر؟؟ أما بالنسبة للمتهكم بالقول بأن الأغلبية من حقهم أن يكتبوا التاريخ على مزاجهم.. فأحب أن أوضح له أن التاريخ لا يكتبه أحد بل هو الذي يكتب نفسه، وقد كتب المسلمون -بالفعل لا بالقول- تاريخاً مضيئاً من الجهاد والتضحية في سبيل الله، وأقاموا حضارة منيرة فتحت عيون العمي وآذان الصم وأنارت عقول الجهال، وقادت الدنيا إلى الأمام.. ليس من العقل أن يدَّعي مدعٍ أن الإسلام كله بكل تاريخه وشخوصه وحضارته مجرد كذبة، هذا ليس من الإنصاف بل ليس من العقل في شيء لدرجة لا تستحق مجرد المناقشة.. ألا يرى صاحب هذه المقولة أنه بهذا يقطع كل حبل يمد للتواصل.. ويقضي على كل بادرة تقارب تحدث بإلغائه الآخر واعتباره وهما.. ويغلق الباب أمام الحوار، فلا يبقى إلا الصراع ولا شيء آخر.. كِلا الطرفين اللذين قدمتهما سابقا يؤكد أن عاطفته غلبت على عقله، وتطرفه أعماه عن رؤية الحقيقة، الإسلام لا يفرض نفسه بحكم القوة ولا الكثرة بل يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، والإسلام لا يدّعي لنفسه بحكم قوته وكثرته تاريخاً ليس له ولا مجداً لم يصنعه، هذا ما يشهد به كل عاقل منصف لم تغلّف عقله الأهواء، ولم تمل به العواطف عن جادة الصواب.. نحن بحاجة إلى حوار حقيقي، حوار قائم على المصارحة وعلى تجنب تاريخ طويل من الشحن والكبت.. بحاجة إلى التحرر من أسر أفكار طائفية، وفهم متخلف للدين والوطن والآخر.. الأول لم يخدم الإسلام، والثاني لم يخدم المسيحية.. أتدرون من خدم كل منهما بفهمه.. كل منهما لم يخدم إلا الشيطان.. وربما يكون لنا في هذا لقاء جديد..
العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر: تفتقر إلى الحوار 68% (28 صوت) صراع ديني بالأساس 20% (8 صوت) سمن على عسل 12% (5 صوت) عدد الاصوات : 41