تحقيق: عصام هاشم أهل الذمة هم غير المسلمين الذين يعيشون مع المسلمين في دار الإسلام بمقتضي عقد يسمي عقد الذمة, وهو عقد مؤبد, يتضمن إقرار غير المسلمين علي دينهم, وتمتعهم بحماية الجماعة الإسلامية ورعايتها. بشرط بذلهم الجزية والتزامهم أحكام القانون الإسلامي في غير الشئون الدينية, وبهذا يصيرون من أهل دار الإسلام..غير أننا قد نري بعض الفقهاء يذهب إلي أن غير المسلم في بلاد المسلمين من أهل الذمة يعتبر من رعايا المسلمين وليس مواطنا يتمتع بحقوق المواطنة, وكأن أهل الذمة وغيرهم كيان منفصل عن مجتمع المسلمين, أو مواطنون من الدرجة الثانية, فما حقيقة هذا الرأي. في مناقشته لهذا الرأي يقول الدكتور القصبي محمود زلط عضو مجمع البحوث الإسلامية نائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق: لقد قام هذا الرأي علي أساس تقسيم الناس علي أساس أديانهم, واعتبار مواطني الدولة الإسلامية هم المسلمون دون غيرهم, واعتبار مسئولية النظام أمانة في عنق المسلمين وحدهم, الأمر الذي يلغي قيمة الوطن الذي يظل ملكا للجميع, سواء الذين يدافعون فيه عن العقيدة, أو الذي يدافعون فيه عن التراب. وأضاف: أن الفقهاء القدامي عندما ذهبوا إلي هذا الرأي كانوا يخاطبون عالما غير عالمنا, كانوا يخاطبون دولة الإسلام الكبري في العصرين الأموي والعباسي والتي كانت مترامية الأطراف, فلا يمكن أن نأخذ هذا الرأي, وقد أصبح المسلمون الآن موزعين علي أكثر من خمسين دولة, ولا يصح أن يتناقل الفقهاء المحدثون هذا الرأي, لأن الواقع قد اختلف. هذا بالإضافة إلي إن النصوص القرآنية والنبوية التي توصي بغير المسلمين خيرا, تناقض هذا الرأي, كما يناقضه ما ورد عن الصحابة في هذا المجال, فالله يقول: لا ينهاكم الله عن الذين لن يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. ويفسر الإمام القرافي معني البر الذي أمر الله به المسلمين نحو غير المسلمين فيقول:( إنه الرفق بضعيفهم, وسد خلة فقيرهم, وإطعام جائعهم, وكساء عاريهم, ولين القول لهم علي سبيل اللطف لهم والرحمة لا علي سبيل الخوف والذلة واحتمال أذاهم في الجوار مع القدرة علي إزالته لطفا منا بهم, لا خوفا ولا طمعا, والدعاء لهم بالهداية, وأن يجعلوا من أهل السعادة, ونصيحتهم في جميع أمورهم, في دينهم ودنياهم, وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم, وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم, وأن يعانوا علي دفع الظلم عنهم, وإيصالهم إلي جميع حقوقهم). فقد عني الله سبحانه وتعالي بذلك جميع أصناف الملل والأديان, أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم... إن الله يحب المنصفين, الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم, فيبرون من برهم, ويحسنون من أحسن إليهم. ويقول: من آذي ذميا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذي الله. ويقول أيضا: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما, وهو صلي الله عليه وسلم القائل: من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة. ثم إن الصحيفة التي تعتبر أول دستور للدولة الإسلامية والتي كتبها الرسول لليهود في المدينة, حدد فيها الرسول الأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين المسلمين وغيرهم في مجتمع المدينة, وقد أكدت هذه الصحيفة أن جميع المسلمين وغيرهم أمة واحدة. فأهل الكتاب بنص هذه الصحيفة كانت لهم حقوق المواطنة الكاملة. وكان عمر يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة, خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضي إليهم بأذي, فيقولون له ما نعلم إلا وفاء أي بمقتضي العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين, وهذا يقتضي أن كلا من الطرفين وفي بما عليه.. ولما أصيب عمر بضربة رجل من أهل الذمة أبي لؤلؤة المجوسي فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده وهو علي فراش الموت فيقول أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا, أن يوفي بعهدهم, وأن يقاتل من ورائهم, وألا يكلفهم فوق طاقتهم. وها هو عبد الله بن عمر يوصي غلامه أن يعطي جاره اليهودي من الأضحية, ويكرر الوصية مرة بعد مرة, حتي دهش الغلام, وسأله عن سر هذه العناية بجار يهودي, قال ابن عمرو: إن النبي قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه.كما أنه لما ماتت أم الحارث بن أبي ربيعة وهي نصرانية شيعها أصحاب رسول الله. ومن العجب أن الفقهاء الذين جعلوا أهل الذمة مواطنين من الدرجة الثانية, تحدثوا عن معاملة أهل الذمة بما يلفت النظر, ويجعل رأيهم هذا في ناحية, وكلامهم في التعامل معهم في ناحية أخري. ويقول صاحب كتاب مواطنون لا ذميون: ومما سجله الفقهاء في هذا الصدد: إذا وقع الذميون رعية الدولة الإسلامية في أسر قوم من أهل الحرب, ارتبطوا بأمان مع دولة المسلمين, كان علي دولة المسلمين نقض العهد لاستنفاذ المسلمين..فالفقهاء يسجلون أن علي المسلمين حماية أهل الذمة من الاعتداء الخارجي ومن الظلم الداخلي, ودفع الفدية لتخليص أسراهم وحماية أموالهم وأعراضهم.. يقول القرافي: إن من كان في الذمة, وجاء أهل الحرب إلي بلادنا يقصدونه, وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح, ونموت دون ذلك, صونا لمن هو في ذمة الله تعالي وذمة رسوله, فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة. وحكي في ذلك إجماع الأمة. ونري شيخ الإسلام ابن تيمية عندما تغلب التتار علي الشام, وأسر بعض المسلمين وبعض الذميين, ذهب إلي قائد التتار وكلمه في إطلاق الأسري فسمح القائد التتري للشيخ بإطلاق أسري المسلمين, وأبي أن يسمح له بإطلاق أهل الذمة فما كان من شيخ الإسلام إلا أن قال: لا نرضي إلا بافتكاك جميع الأساري من اليهود والنصاري, فهم أهل ذمتنا, ولا ندع أسيرا, لا من أهل الذمة, ولا من أهل الملة, فلما رأي إصراره وتشدده أطلقهم له.