نعم، ليس للجزية مجال فى التطبيق الفقهى المعاصر لتنظيم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين على أرض مصر، ولا يوجد فى الأدلة الشرعية ما يفيد أن للجزية حظا من التطبيق التشريعى فى وقتنا هذا، حيث إنها لم تشرع للتطبيق فى كل وقت ومكان، وإنما هى مرهونة بظروف الصدام المسلح بين المسلمين وغير المسلمين وفى وقت الحروب تحديدا، ذلك أن النصوص التشريعية المتعلقة بمصادر الأحكام الشرعية تفرق فى تنظيم علاقة المسلمين بغيرهم بين وقت الحرب ووقت السلم، وجعلت لكل وقت من هذه الأوقات أحكاما خاصة به، شأن التشريع الإسلامى فى ذلك، كشأن جميع قواعد القانون الدولى التى تفرق فى تنظيم العلاقات الدولية بين وقت السلم ووقت الحرب. من المعلوم أن لوقت الحرب أحكاما كما أن لوقت السلم أحكاما ولا يجوز الخلط بين تلك الأحكام، واستعمال الأحكام الشرعية المتعلقة بوقت الحرب فى أوقات السلم، كما لا يجوز استعمال الأحكام الفقهية المتعلقة بوقت السلم فى وقت الحرب فإن مثل ذلك الخلط من شأنه أن يحدث فتنة بين الناس ويؤدى إلى تشويه الأحكام الشرعية ووصفها بالقسوة التى تعامل أهل السلم بقوانين الحرب أو الخنوع الذى يعامل أهل الحرب بقوانين السلم ولذلك كان الخلط بين أحكام السلم وأحكام الحرب فى علاقة المسلمين بغير المسلمين تشويها للدين قبل أن يكون سببا لشق الصف وتمزيق وحدة الأمة وتهديد الأوطان بالتناحر والانقسام وقد حدث ذلك الخلط كثيرا ومازال يحدث بسبب التعامل مع النصوص الفقهية بعيدا عن نطاق تطبيقها وفى غير السياق التاريخى الذى قيلت فيه تلك الأحكام، فجر ذلك على الإسلام والمسلمين أضرارا هم فى غنى عنها واستدرجهم إلى صدام مع غيرهم لا قبل لهم به. ومن الواجب شرعا أن يتم التعامل مع النصوص الشرعية بحكمة وفهم وأن يمسك لسانه عن معالجة تلك الأحكام من لا يحسن فهمها فإن فى العجلة فى الحديث فى تلك الأحكام دون فقه صحيح أو علم رشيد ما يؤدى إلى مخاطر لا يعلم مداها غير الله سبحانه وتعالى لاسيما أن المسلمين قد أضاعوا قدرا كبيرا من أدوات الدفاع فى مواجهة الآخرين بل وعن تدبير أمور معاشهم بعيدا عن تحكم غيرهم ممن أصبح بأيديهم صنع كثير من مقدرات الحياة وأسباب المعيشة الضرورية وبعد أن تفرغ المسلمون ردحاً طويلا من الزمان للخطابة والكلام دون تطبيق عملى يؤكد مضمون ذلك الكلام ومن يتأمل الأدلة الشرعية يجد أن تطبيقها لن يكون ممكنا على نحو صحيح إلا إذا تم التعامل مع أدلة التشريع مجتمعة وأن التعامل مع آية أو حديث بعيدا عن أدلة التشريع الأخرى فى المسألة لن يوصل إلى حكم فقهى صحيح فيها بل سيؤدى إلى أخطاء تجر إلى مخاطر لا يقبل أحد بها ومن مصلحة الجميع قبل غيرهم أن يعملوا على تلافيها. وأول آية تتعلق بتنظيم علاقة المسلمين بغيرهم تجعل علاقة السلام والمحبة هى أساس العلاقة وهى أصل الحكم عليها فإذا سئل المسلم عن أصل العلاقة بين المسلم وغيره وهل هى السلم أو الحرب يكون قوله الصحيح إن أصلها هو السلم يدل على ذلك قول الله تعالى «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون» وكما يبدو من هاتين الآيتين فإن أول الحديث فيهما قد جاء عن السلم فى الآية الأولى وفى هذا دليل على أنه، أى سلم، مقدم على ماسواه وأن له أحكاما تتعلق به وهذه الأحكام تضمنتها نفس الآية الكريمة وهى البر والقسط وإذا كان القسط يعنى العدل والمساواة فى جميع حقوق المواطنة بين المسلمين وغيرهم فإن البر يعنى قدرا زائدا من العطاء الذى يكفله البر وفى هذا دلالة على أن حقوق غير المسلمين فى التشريع الإسلامى مقدمة ومحفوظة على نحو يجعلها محلا لذمة الله ورسوله، وقد حذر النبى «ص» المسلمين من أن يخونوا ذمة الله ورسوله فى تلك الحقوق القائمة على العدل والبر بل وأغراهم بالمحافظة عليها اقتداء به حين قال «أنا أولى من وفى بذمته » وجاء تسميتهم بأهل الذمة من هذا المدخل الكريم. وأما الآية الثانية فقد جاء حديثها عن وقت الحرب والمقاتلة الواقعة من غير المسلمين على المسلمين ومن المنطقى أن العلاقة إذا تغيرت من السلم الذى يقتضى العدل والبر والمودة والتحاب إلى ظروف الحرب والمواجهة لن يكون لأحكام السلم وجود لأن ظروف المواجهة تقتضى نوعين من الحذر الذى يحفظ مقدرات المحاربين ويمنع المنتقم أو الغادر من أن يصل إلى مقصده من عدوانه، ذلك ما يقرره الإسلام وتقرره جميع القواعد التشريعية المعمول بها فى تنظيم العلاقة بين المتنازعين إعمالا لمبادئ الدفاع الشرعى الذى يعطى للمعتدى عليه أن يدفع الخطر عن نفسه بما يستطيع حتى يرد المعتدى، وهنا يجىء النهى عن تولى المحاربين أو مودتهم بعد أن يظهر كيدهم للمسلمين وهو النهى الذى تحدثت عنه الآية الثانية فى قول الله تعالى «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون» ومن يتأمل ما انتهت به الآية الكريمة وهى وصف من يتولى المعتدين ويناصرهم بالظلم يجد أن سبب هذا الظلم نابع من مكافأة المعتدين بالمولاة التى تشجعهم على استمرار التعدى مع أن الواجب يقتضى أن يحملوا للانتصار على أنفسهم لا أن يستمروا فى العدوان على غيرهم. وقد جاءت آية الجزية فى إطار الأحكام الفقهية المتعلقة بالقتال ليكون ذكرها سببا لنهاية الحرب وبيانا لهذا السبب ذاته حيث ربطت بين ذلك الالتزام ربما إلى الذى سمى «جزية» لاشتقاقه من الجزاء الذى هو ضريبة الأرض والجزاء هنا على التعدى والمقاتلة غير المشروعة وبين قبول المعايشة والانتظام سلكا واحدا مع المسلمين فى إطار الدولة المدنية التى تحملها العدالة والمساواة لجميع المواطنين دون تمييز بين إنسان وآخر بسبب دينه أو بأى سبب آخر. وفى هذا يقول الله تعالى «قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» فقد جاء الحديث عن الجزية مقرونا بحالة الحرب والقتال وجعلها غاية وسببا لوقف القتال وليس معنى الصغار ما فهمه البعض من ممارسة أفعال سوقية تؤدى إلى إهانتهم أو النيل من كرامتهم لأن للإنسان كرامة فى دين الله لا يجوز أن تنفصل عنه بحال وإنما المراد به قبول المعايشة مع المسلمين فى إطار المواطنة وإذا ما تعايش أهل الكتاب مع المسلمين فى بلد واحد أو فى دولة واحدة لن يكون ثمة مجال للحديث عن الجزية لأن غايتها قد انتهت بقول الله تعالى «حتى» وحتى لبلوغ الغاية وإذا ما انتهت حالة الحرب والمواجهة يعود الجميع إلى أصل العلاقة وهى السلم بما يكفله من عدالة تامة ومساواة مطلقة وفى هذه الحالة لن يكون للجزية وجود بل سيكون الحديث عن أحكام وواجبات مالية عامة يلتزم بها المسلمون كما يلتزم بها غيرهم على قدم المساواة وذلك مثل الضرائب وما إليها من الالتزامات المالية العامة ولا يسوغ القول بأن الجزية فى مقابل الزكاة لأن الزكاة عبادة وهى من فروع الإيمان التى لا يكلف بها غير المسلمين لأن الإيمان شرط قبول العمل فى جميع أحكام الإسلام، ولأنها عبادة فى دينهم كما قال الله تعالى على لسان عيسى عليه السلام «وأوصانى بالصلاة والزكاة مادمت حيا» وإذا كانت زكاة فى دينهم فلا يصح إلزامهم بها فى الإسلام وعليه لا يكون للجزية مجال فى وقتنا الحاضر من هذا الوجه. ومن وجهة أخرى فإن من شروط تطبيق الجزية أن يكون غير المسلمين الملتزمين بها بحاجة إلى حماية المسلمين، لأن الجزية مقابل الحماية، وفكرة الحماية تفترض أن يكون حضور غير المسلمين لبلاد الإسلام أو بقاؤهم فيها عارضا لا استقرار فيه ولا مواطنة ولهذا فإنهم يدفعون الجزية مقابل حمايتهم عند بقائهم فى البلاد للتجارة أو غيرها، يدل على ذلك ما أثر عن خالد بن الوليد فى صلح أهل الحيرة، حيث جاء فيه «إنى عاهدت على الجزية مقابل المنعة، فإن منعناكم فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم»، وأثر مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وغيره «يراجع فى ذلك : الأموال لأبى عبيد القاسم ص 93 وتفسير المنار للشيخ رشيد رضا ص 01 - ص 492». ووجود غير المسلمين فى بلاد الإسلام اليوم، ليس وجودا عارضا، بل هو وجود دائم يشارك المسلمين - على قدم المساواة - حقوق الحياة وواجباتها، ونقتسم معهم حلو الحياة ومرها، وفى مثل تلك المشاركة المتداخلة لا يتصور أن تكون هناك حماية من طرف لآخر حتى يطالبه بمقابلها، وإنما يطلب الجميع حماية الدولة التى يعيشون فيها. ويكون من الخطأ المجافى لفهم الواقع ما يقال عن الجزية ويصورها على أنها عقاب على اختلاف الدين، وليس تكليفا مرتبطا بظروف زمانية ومكانية ولا يوجد فيها ما يبرر ذكرها. كما أن فكرة الدفاع التى تبرر فرض الجزية تفترض أن غير المسلمين جالسون فى بيوتهم غير مشاركين فى الدفاع عن أوطانهم، وأن المسلمين يقومون بواجب الدفاع وهم جلوس نظير دفع ذلك التكليف المالى المسمى «جزية»، ولعل فى تسميتها بهذا الاسم ما يفيد هذا المعنى، فهى جزاء عن عناء كان من المتعين عليهم أن يقوموا به، فإذا لم يقوموا به عينا بذلوا ما يقابله نقدا، فهى نوع من الفدية التى تشبه ما كان يدفعه بعض الأثرياء لأبنائهم مقابل إعفائهم من أداء الخدمة الوطنية. وهذا الافتراض غير واقع ولا حاصل، لأن ظروف العصر قد تغيرت وفرضت قوانين المواطنة على كل من يعيشون معا على أرض واحدة أن يقوموا بواجب الدفاع عنها، فإذا ما داهمها خطر هب الجميع مسلمين وغير مسلمين للدفاع عنها دون تفرقة بينهم فى القيام بهذا الواجب. وقد صدق الواقع المعاصر هذا المعنى فالجندية لا تفرق فى شرف القيام بها بين مسلم ومسيحى، وعندما قامت الحروب المتوالية والمتعاقبة فى القرون الماضية لم يتخلف مسيحى عن المشاركة فيها، بل سالت دماء المصريين مسلمين ومسيحيين على ثرى هذا الوطن المبارك، ومما هو معلوم أن شرط وجوب الجزية أن ينقطع غير المسلمين عن سلك الجندية، فإذا ما انخرطوا فى سلك الجندية وشاركوا فى شرف الانتماء إليها قوادا وضباطا وجنودا، يكون الحديث عن الجزية نوعا من الحديث عن أمر لا تتوافر شروطه، فإذا افتقد الأمر شرط وجوده فإنه لا يوجد لأن الشرط ما يلزم من عدمه العدم، وإن وجد فإنه يكون باطلا، والباطل فى حكم العدم، فيكون مثل هذا القول محكوما عليه بالعدم من كل وجه. وخلاصة ما قلناه أن الجزية لا مجال لها من التطبيق الفقهى المعاصر، وذلك لأمرين، أولهما : أن مشروعيتها مرتهنة بحالة القتال والمواجهات والحروب، ولهذه الحالة قوانينها التى تختلف - بالقطع - عن قوانين السلم والمواطنة والمعايشة، لأن مبنى الأخير على البر والعدل كما قال الله تعالى : « أن تبروهم وتقسطوا إليهم» وثانيهما : أن تطبيقها حال جوازها عند المواجهات مشروط بأن يتمتع المسيحيون بحماية المسلمين، وهذا ما لا يمكن القول به فى ظل الفهم السياسى المعاصر الذى يحتكم الجميع فيه لسلطان القانون وعدالة الحكم وقوة الدولة، ولأن الحمية تعنى أنهم لا يشاركون فى الدفاع عن بلادهم، فإن ما كانوا يشاركون فى الدفاع أسوة بالمسلمين يكون مما ينافى القسط الذى أوجبه الله لهم، أن يختصوا بحكم مغاير لما عليه غيرهم، ذلك ما أراه صحيحا فى تلك المسألة الشائكة، وأعتقد أنه كذلك.. والله - سبحانه - أعلى وأعلم .