حين شرعت في كتابة أبناء الجبلاوي للمرة الأولى قبل نحو أربع سنوات، توقفت لسبب قدري تمثل في غياب مخطوطة الكتاب فجأة في مرحلة كنت أنتقل فيها من منزل إلى آخر. لا أعرف كيف تجاوزت هلعي، وغضبي، وقلة الحيلة، من فقداني مخطوط رواية كنت أرى فيها تجربة روائية مختلفة على الرغم من أنها اتخذت شكلا مختلفا تماما لاحقا عما خططته لها في البداية.
شغلت نفسي بكتابة "جنية في قارورة"، التي جاءتني كدفقة، وانتهيت منها في أربعة شهور، ودفعت بها للناشر، ودون أن أنتظر كالعادة صدورها، شرعت على الفور في استدعاء الرواية الجديدة (أبناء الجبلاوي) من الذاكرة.
لكن يبدو أنني مررت خلال تلك الفترة بمرحلة انتقالية بين حالتين، فقد كتبت جنية في قارورة على جهاز الكمبيوتر لأول مرة، وأظنني تحفزت، لا واعيا، لحماية كتابتي من مخاطر الضياع، خاصة وأنني لا أمتلك مكانا للكتابة وحتى هذه اللحظة. كما أنني بدأت أعلّم نفسي التحكم في أعصابي وكبح غضبي وانفعالاتي؛ لأنني أدركت أنني أحتاج طاقتي كلها للتركيز في كتابة العمل الجديد.
كنت قرأت كثيرا خلال تلك الفترة عن الرواية، كما قرأت عددا من الأعمال التي جعلتني أشعر أننا في مصر ابتعدنا تماما عن مسار فكرة الرواية بالشكل الذي تطورت به مسيرتها في الغرب، وزاد الطين بلة أن ظهرت بعض التجارب التي جسّدت الارتداد بالرواية مرة أخرى إلى عصر الحدوتة، ولاقت جماهيرية جعلت البعض يتصورون أن مثل تلك الظواهر انتصار للخفة والبساطة.
فكرة أنني بدأت الرواية يعني ضمنيا أنني عثرت على "الصوت" الخاص الذي يمكن به أن أعبر عن الشخصية (كبرياء)، وهذا الصوت هو وحده الذي لا يمكنني أن أشرع في كتابة العمل دون أن أصل إليه.
لا أقصد بالصوت هنا الشخصية وإنما "نبرة روح السرد" إذا جاز التعبير، ووقوعي على هذه النبرة هو ما يتيح لي أن أستمر في العمل.
أردت أن أجد نبرة مختلفة هذه المرة، ليست انفعالية كما نبرة السرد في جنية ولا نبرة البوح الحزين المُتخم بالحنين كما في ابتسامات القديسين، وإنما نبرة قوية ساخرة يمكن أن تطوّع طموحي لما أرغب فيه من مزج لضمير المتكلم بضمير الغائب. مع الوعي بأن السخرية ليست مجرد هزل وإنما لعب بطريقة سرفانتس، عبر نبرة تحرص على البلاغة التي تتمسك بالرصانة والرشاقة معا، وبحيث تستوعب تحولات الشخصيات واختلافاتهم العمرية، بل وأن تستوعب أكثر من نبرة لشخصية واحدة مثل نجوى، وأن تتمكن من التناص مع نصّ محفوظ بإتقان بحيث يصبح نص محفوظ ملتحما بنسيج السرد بلا أية شوائب أو نتوءات.
كنت أرغب في نبرة مثالية لأسلوبي في الكتابة الذي يعتمد على مقولة شهيرة ربما تكون لهنري جيمس وهي Show, don't tell.
وكنت على مدى السنوات الثلاث التي سبقت كتابة هذا النص أقرأ الكثير مما يصدر لجيلي والأجيال الأسبق والأحدث. وباستمرار، لاحظت العديد من المثالب التي تعتور النصوص، إما أنها قصيرة النفَس، وتكاد تكون كتابة ذاتية لا تعبأ بأن النص في النهاية موجه لقارئ أيا كان، أو أنها تتكئ على الحدوتة فقط، أو أنها نصوص ذهنية تماما تفتقر للتخييل، أو أنها نصوص مباشرة تبدو كخطابات سياسية تتخفى في السرد الروائي، وفجعتني بعض النصوص بسذاجة الحوارات فيها، وافتقدت في غالبيتها فكرة المتعة والتشويق، والأهم من هذا كله أنها افتقدت معيار الدهشة والخيال. كانت هناك بالتأكيد نماذج جيدة من النصوص، لكنها دائما في رأيي كانت في أغلبها قماشات جيدة بددت في أعمال قصيرة من أبرز نماذجها كتابات حسين عبد العليم، فهو كاتب جميل لم يأخذ حقه البتة.
ثم قرأت كتابا مهما لديفيد هارفي هو "حالة ما بعد الحداثة" وأدركت بعدها أن كل ما قرأته من نقد تقريبا لا علاقة له بالنقد؛ لأنه قدم لي مفهوما مختلفا عن فكرة النقد ليس بوصفه مجرد إعادة حكي لعمل أدبي، ولا بطريقة بعض النقاد اليوم الذين يقومون بليّ النصوص لكي تناسب القوالب النمطية التي يستخدمونها، أو حتى قراءته نقديا بالطريقة الصحفية أو سياسيا أو اجتماعيا كما هو شأن الكثير مما نقرأ اليوم، وإنما هو عملية إبداعية وفكرية عميقة، وقراءة للنص، أو النصوص، في سياق كامل ترتبط فيه عوامل عدة أهمها حركة رأس المال، وكيف تغير نمط الإنتاج وبالتالي نمط الحياة، ثم كيف تخلق الرغبات لدى المستهلكين من الأفراد وتأثير ذلك كله على قيم المجتمع عبر توجهات رأس المال (انظر اليوم ماذا تنشر بعض دور النشر الكبيرة)، وكيف يستجيب النص الأدبي لهذه القيم وكيف يعي دور رأس المال في تغير القيم. مع احتفاظ كامل بأسلوب لغوي خاص ومتعة رغم صعوبة الكتاب.
والحقيقة أن النقد بهذا المفهوم الراقي لم يتحقق إلا في بعض الكتابات المحدودة مما نشرته الدكتورة ماري تريز عبد المسيح مثلا عن بعض نماذج جيل التسعينيات عبر بحثها عن طبيعة الخطاب السردي في تلك النماذج في تعبيرها عن العلاقة مع السلطة، وفي نبرة الخطاب السردي ومدى إنسانيته أي تخلصه من الحس الذكوري أو الأنثوي الذي يَسِمُ النص العربي عبر تاريخه إجمالا.
أظن أن هذه الأفكار كلها مع إعادة اكتشافي لساراماجو عبر نصين مهمين هما العمى وكل الأسماء، ثم قراءة اسمي أحمر لأورهان باموق، بعد تكاسل، وبعض الكتاب الألمان مثل فريدون زايموجلو، وهو كاتب خاص جدا، ويوليا فرانك، وإنجو شولسه، جعلتني واعيا بما استهدفته في أثناء كتابة أبناء الجبلاوي. وبينها فكرة إعلاء طموح الكتابة لأفق إنسانية وفنية ومركبة عالية جدا، بقدر طاقتي طبعا.
لكني، خلال وبعد الانتهاء من أبناء الجبلاوي، واكتشافي أن أحد أهم عوامل قدرتي على إنجاز هذه الرواية في هذا الزمن القياسي، هو سفري للكويت للعمل في مجلة العربي، حيث أعمل الآن، فقد قضيت السنة الأولى بمفردي بدون زوجتي وبناتي. واكتشفت أن ذلك سمح لي للحياة بكامل طاقتي الذهنية في الرواية، وتقسيم انشغالاتي بينها وبين أعباء العمل فقط.
واستعدت فكرة قراري بأن أصبح كاتبا منذ قررت ذلك في يوم من أيام العام 1986 وحتى اليوم. كنت منذ طفولتي المبكرة مولعا بالقراءة بتشجيع من والدي، المهندس، المستنير الليبرالي، والذي أدين له بالكثير، وبالرغم من ذلك، وبالرغم من أنه كان الشخص الذي أشعل حماسي للاهتمام بالقراءة والأدب منذ الطفولة، لكنه اختلف معي حين أعلنت رغبتي في الالتحاق بالقسم الأدبي في الدراسة الثانوية، ودار بيننا حوار طويل حاول فيه إقناعي بأن أدباء كُثرا وبينهم يوسف إدريس عملوا في مهن أخرى غير الكتابة لكي يوازنوا بين متطلبات الحياة والكتابة.
اقتنعت على مضض، لكني أيضا أصبت بالتشتت، وبالإحباط، فقد كنت أتمنى في أعماقي دراسة الفلسفة والمنطق، والمفارقة أن أصدقائي ممن لم يكن يستهويهم التعليم من الأساس كانوا يلتحقون بالقسم الأدبي بدعوى أنه أسهل من القسم العلمي، بينما أنا الشغوف بالأدب واللغة والفلسفة والتاريخ أدرس مضطرا الرياضيات والتفاضل والتكامل والفيزياء والكيمياء، وأتجرعها بمرارة.
وبسبب فقداني للهدف التحقت بكلية التجارة ودرست إدارة الأعمال بلا هدف أو أمل في شيء، ولم ينقذني سوى قراري بالعمل في الصحافة في روزاليوسف قبل أن أنتهي من الدراسة، وسافرت بالفعل من المنصورة إلى القاهرة منذ عام 1990 من دون رغبة أبي، الذي وافق على مضض حينما أدرك مدى إصراري، بل وساعدني بالتكفل بإيجار الشقة على مدى العامين الأوّلين من وجودي بالقاهرة، وحتى حصولي على البكالوريوس عام 1992 (بعد إنجابي أولى بناتي "ليلى" أدركت أن أبي تحلى بشجاعة كبيرة لقبوله تلك المغامرة ولو على مضض).
تخرجت إذن متأخرا عن دفعتي بنحو ثلاثة أعوام، بالإضافة إلى سنة في الثانوية العامة رسبت خلالها عنادا لأثبت لأبي، لا واعيا، بأنني فقدت طريقي منذ تخليت عن الالتحاق بالقسم الأدبي.
لا أستطيع أن ألوم والدي في النهاية فهو ابن ثقافة مجتمع لا يرى أن الأدب يمكن أن يؤكل أحدا لا عيش ولا غيره. مجتمع ينظر، بإصرار وتعمد، إلى الكاتب بوصفه شخصا غريب الأطوار، يشتري الكتب بدلا من الملابس، ذاهل وشارد عما حوله.
مجتمع يخشى من أي نزعة فردية ويحاربها بجلاء، ويمارس ضغوطا خفية وماكرة على عزلة الفرد ممن يرغب في أن يكتفي بالكتابة معنى لوجوده، وينظر إليه بنفور إذا لم يدخل في إطار المؤسسة الاجتماعية (الزواج).
مجتمع لا يحترم الكتابة ولا الكُتّاب، حتى لو ادّعى العكس، ولا الفردية التي يتطلبها معنى أن يكون الشخص كاتبا مستقلا بكل معنى الكلمة. فهو يريد أن يتأكد من إيمانه بكل ما يؤمن به العقل الجمعي، المغيّب أساسا، حتى لو كانت خرافة، وأن ينتمي لمؤسسة أيا كانت حكومية أو معارضة، وهذه النظرة الثنائية المتأسسة على ثقافة الحرام والحلال، هي أكبر تناقض يمكن أن يقع فيها أي كاتب حقيقي، مهما تشدق بالليبرالية والحرية.
مجتمع يحب التفاهة ويكرس لها وينفر من كل عميق أو مختلف، ويخلط بين الفكاهة والسخافة وقلة الأدب.
مجتمع يقتات الناشرون فيه على دم الكاتب، ويربحون ويستمرون في النشر، ويدّعون للكاتب أنهم يخسرون بسبب كتبه، ولا يكلّون في الوقت نفسه من الثناء على موهبته.
وبالتالي ينبغي له أن يبحث باستمرار عن عمل آخر يدرّ عليه دخلا على حساب الكتابة، وقد تلتهمه دوامة العمل وتوأد أحلامه للأبد، وقد يقاتل إذا كان شديد اليقين بما يفعل.
هذا هو قدر الكاتب في مجتمع مثل مجتمعنا، في حين أن الكاتب في الغرب بإمكانه أن يتفرغ تماما للكتابة بعد أن يُصدر كتابا أو اثنين، وأن ينتج أفكارا مهمة وجديدة بالتالي ليس فقط بسبب التفرغ وإنما لأن المناخ يقتضي مثل هذا الإنتاج المبتكر للأفكار والفلسفة والعلوم والأدب.
يا إلهي، يا لفجاجة الأفكار حين تكتب بهذا الشكل المباشر، لكن ما يسعدني حقا أنني تقريبا أشرت إلى هذا كله في "أبناء الجبلاوي" مستخدما القاعدة الذهبية Show,don't talk, وأظنني فعلتها. أو هكذا أرجو.