بين الحين والآخر ترتفع الأصوات التى تشكك فى أدب قيصر الرواية العربية نجيب محفوظ، وازدادت المقولات الداعية إلى التمرد على كل ما هو كلاسيكى وقديم، وانتشرت كلمات من قبيل التخلص من القوالب الأدبية المستهلكة باسم التجديد، توجهنا بسؤالنا للنقاد، هل أصبح نجيب محفوظ "موضة" قديمة، وهل انتهى أثره فى الأدباء الحقيقيين؟ زمن العجائب الثقافية: أكد الناقد د.محمد عبد المطلب أننا نعيش فى زمن العجائب الثقافية، وهو الزمن الذى يلمع فيه أدباء بواسطة رواية واحدة، فرواية يعقوبيان نجحت ولمعت وهى الأولى للأسوانى، وكذلك "عزازيل" و"تغريدة البجعة". وقال عبد المطلب: "أنا أعتبر كل الروائيين العرب خارجين من عباءة نجيب محفوظ، وما تطور فى كتاباتهم هو التقنيات، فلا يمكن أن تقطع الصلة بين نجيب محفوظ واللاحقين عليه، لأن الإبداع تراكمى". وأشار عبد المطلب إلى أن هناك ظاهرة سردية مؤسفة تحدث الآن وهى تصنيع النص الروائى، فمنذ نجاح رواية "عمارة يعقوبيان" اتجه معظم الروائيين إلى البحث عن الخلطة، والتى تدور كلها حول تيمات معينة هى "الإرهاب"، "الجنس"، "الفساد السياسى"، "الفساد الاقتصادى"، ويقومون بتصنيع نص روائى من إحدى هذه التيمات. وأكد عبد المطلب أيضا أن هناك من يحاولون اختراق السقف السياسى والثقافى والعربى بوضع الترجمة نصب عينيه، والترجمة التى تحدث الآن هى ترجمة للجامعات ولكنها ليست ترجمة ليقرأها الشعوب الآخرى، وأضاف عبد المطلب أن المنجز الروائى الآن لا يرقى إلى نجيب محفوظ، فهو ارتفع إلى العالمية ونستطيع أن نضع معه جيل الستينيين والسبعينيين، أما جيل الثمانينيات والتسعينيات فهذا جيل التصنيع الروائى. وختم عبد المطلب حديثه قائلا: "أنا شخصيا أحترم علاء الأسوانى وثقافته لكنه لم يقدم رواية جيدة بعد "يعقوبيان" وكذلك مكاوى سعيد ويوسف زيدان فكلاهما لم يقدما روايات جيدة بعد "تغريدة البجعة و"عزازيل". نصوص محفوظ ضد التقادم الزمنى: أما الناقد يسرى عبد الله فقد أشار فى بداية حديثه إلى ماهية الكتابة ووصفها بأنها ليست بنتا لأحادية الرأى، وليست بنتا لطريقة واحدة، وإنما هى بنت التنوع والاختلاف، وهذا يفضى بنا إلى أنه لا توجد كتابة واحدة وكتابة نهائية، فالجيل الحالى مختلف عما سبقه من أجيال. وأكد "عبد الله" أن الإبداع سلسلة من التراكمات الإبداعية المعرفية، وبالتالى السابق لا يلغى اللاحق والعكس، فالكتابة الآن لن تقوم بديلا عن الكتابات السابقة، المشكلة أن الذهنية العربية ذهنية إقصائية تتعامل مع الأمور بمنطق إما هذا وإما ذاك. وقال: التشكيك فى دور نجيب محفوظ الإبداعى ينطوى على عدم الوعى بالقراءة الأدبية، أى من يفعل ذلك لم يقرأ أدبا فى حياته، فالحضور الفنى لنجيب محفوظ بوصفه إحدى الحلقات المفصلية فى تاريخ الرواية العربى قويا وظاهرا، كما أنه رافد مهم لكتاب مختلفين أفادوا منه واستطاعوا أن يطوروا المنجز السردى الذى صنعه. وختم عبد الله حديثه مؤكداً أن نصوص محفوظ تقف بثبات ضد التقادم الزمنى لأنها تدور كلها حول هاجس واحد هو الإنسان، فهى نصوص منفتحة عليه، وبالتالى تظل نصوصه عابرة للزمن وقادرة على الوقوف بجدارة ضد الزمن. أكثر جرأة منا فى التجريب: أما الناقد حاتم حافظ، فقد أشار إلى وجود هذه المقولات التى تدعو للتمرد على نجيب محفوظ باعتباره كلاسيكياً، وقال إنه بسبب تأثير مقولات الجيل حرمنا من قراءة نجيب محفوظ حتى قام بنشر "أصداء السيرة الذاتية" فأصابنى الذعر عندما وجدت أننى قد أهملت فى حقه، فمحفوظ استمر فى الكتابة ليس لأنه يريد أن يكسب عيشه؛ لكن لأن مشروعه لم ينته حتى صدور هذا العمل الذى أعده أكثر جرأة فى التجريب من جيلنا. وأشار حافظ إلى أن من تمرد على محفوظ وقراءته لم ينتج عملا جيدا، وليس محفوظ فقط بل كل التراث الروائى، فلا يمكن التمرد على كل هذا المنجز الإبداعى بحجة أنه لا ينتمى إلى الفترة الزمنية الحالية، وهناك بعض الكتاب الجادين الذين يقومون بدعاية على الفيس بوك لأعمالهم، لكن الكارثة أن هناك آخرين يضعون قبل أسمائهم ألقابا كثيرة من قبيل الشاعر والكاتب والروائى وهم لم ينشروا شيئا. وأضاف حافظ أن من ساعد هؤلاء هى دور النشر الكثيرة التى ظهرت وانتشرت وكان يظنها ظاهرة صحية جيدة، لكنها انتمت إلى فئة "النشر فى بير السلم" فهى لا تعتنى بتقديم الأدب الجيد بقدر ما تعتنى بجمع الأموال. وأشار حافظ إلى أن هناك موجة أخرى من العناوين التى تلصق على كتب والغرض منها فقط جذب الانتباه، فما الذى يدعو كاتباً قديراً مثل جمال الشاعر أن ينتج عملا ويسميه "اعمل عبيط"؟ وأكد حافظ أنه ضد تقديس الأشخاص فهو لا يقدس نجيب محفوظ وإنما لا يقبل التطاول عليه وعلى أدبه، فلا يمكن قطع علاقتك بالإرث الثقافى، وأشار إلى روايتى "أبناء الجبلاوى" لإبراهيم فرغلى و"وراء الفردوس" لمنصورة عز الدين مؤكداً أنهما من الروايات التى كرست للإرث وتدوير الإبداع ولم تفقد الصلة مع ماضيها. وختم حاتم حافظ حديثه قائلا: إن كل ما كتب من إبداع بعد نجيب محفوظ هو من فتات أدب نجيب محفوظ، ومن يقول غير ذلك هو مخطئ تماما، فإنجازه فى الرواية أكبر من أى كاتب آخر، والرجل لم يأخد نوبل من فراغ، وما أنجزه فى روايات مثل "الحرافيش" و"حديث الصباح والمساء" و"أحلام فترة النقاهة" يوضع فى المنجز الروائى العالمى، وهو ما لم يحققه أى أديب آخر بعده.