ما زال الجدل مستمرا في أعقاب التفجير الانتحاري الذي جرى في كنيسة القديسين بالإسكندرية.. فما بين متطرف يشكو كم أن المسحيين مضطهدون وبين متطرف في الاتجاه الآخر يتهم المسيحيين بأنهم أخذوا أكثر من حقهم، وبين صوت العقل الذي تبناه مثقفون كبار، حاولوا أن يركزوا الانتباه على وحدة الوطن والسماح بمساحة من الاختلاف واحترام الآخر.. فهل حقا المسيحي آخر؟ أدّعي أن من بين الأسباب المهمة في حدوث الفصل الطائفي في مصر كلمات من هذا القبيل.. "الآخر.. الإخوة الأقباط.. شِقّيْ الأمة".. هذا التقسيم والتصنيف على أساس الدين في غير موضعه.. حين نتكلم عن الوطن فإننا نتكلم عن المكان أو المنطقة التي يرتبط بها "شعب" من الشعوب ارتباطا تاريخيا "طويلا" تولّدت عنه "هوية وطنية مشتركة".. هذا تعريف الوطن فهل في ضوء هذا التعريف يمكن تقسيم المصريين ك"شعب" إلى فئتين على أساس عنصر لم يُذكر أنه عامل في بناء "الوطن". إذا سمحنا باعتبار المسيحي "آخر" بحكم الدين فإنني أعتبر الصعيدي مثلا "آخر" بحكم المكان.. وأعتبر المرأة "آخر" بحكم الجنس! فكما يتكوّن الوطن باشتراك مجموعة من الأماكن تصنع الكيان الجغرافي، واشتراك بين الجنسين يصنع الكيان الاجتماعي، فما المانع أن يتكوّن من مجموعة من الأديان والأعراق تصنع الكيان التاريخي؟ كذلك اسمح لي أن أدعي أنه لو اعتبرنا المسيحي آخر في الوطن باعتبار دينه، فإننا بهذا نثبت أن المسلم هو الأصل الأول بكونه فقط مسلما، فهل معنى ذلك أن يكون الوطن متاحا لكل منتمٍ إلى دين الأصل الأول؟ وهل يصبح كل مسلم مصريا؟ يبدو السؤال ساذجا، ولكن بالفعل جعل الانتماء الوطني راجعا للدين يفتح المجال لكلام مثل هذا، وهو ما تطبّقه إسرائيل كدولة دينية تسمح بضمّ كل منتمٍ للدين اليهودي إليها بغضّ النظر عن الجغرافيا والتاريخ.. ربما يختلف معي الآن بعض الإسلاميين فيرون أن مصر إسلامية بالدرجة الأولى.. فهل كونها إسلامية يعني أنها طاردة لغيرها من القوميات والأديان؟ هذا كلام لم يثبت في أي مرحلة من مراحل تاريخ الدولة الإسلامية.. وهل كونها عربية يدعو إلى إخراج غيرها من الأجناس والعرقيات؟ هذا كلام منافٍ للمنطق ومخالف للفهم السليم.. كيف هذا والإسلام ذاته يحتوي على نصوص واضحة وقطعية تمنح جميع الحقوق لأصحاب الديانات الأخرى، وتعقد معهم عهودا على اعتبار أنهم أهل البلد، وتسمى البلد باسمهم، ويصبح كل دور الجهاد الإسلامي فيها -وربما كانت هذه مفاجأة للكثيرين- أنه فقط يفتح لنفسه مجالا للانتشار الطبيعي دون تقييد أو طغيان على أتباعه.. فما شُرع الجهاد في الإسلام إلا لهدفين: محاربة العدوان عليه، وفتح مجالات جديدة لتقبّله كدين، والسماح له بفرصة الانتشار الطبيعي في رقعة جديدة. المسيحي ليس "آخر"؛ لأن كونه مسيحي الديانة لا يعارض مسمى الوطنية، والمسلم لا يكتسب الوطنية بدينه، ومن هذا نستنتج أن مصطلح الدين غير مناسب لتصنيف أهل البلاد على أساسه، فلا مكان إذن لاعتبار المسيحي "آخر" في سياق الحديث عن الوطن.