- "يا باشا دي شُغلتي، وهو أنا كنت لقيت غيرها بمكسب كويس وقلت لا"! - بس دي مخالفة للدين والقانون، وممكن تودّيك السجن. - "أنا باعمل حسابي كويس، وما باروحش محكمة أو نيابة واحدة مرّتين؛ علشان ماحدش يكشفني، وربنا هيغفر لي؛ لأني لازم أجيب فلوس أصرف منها على الست أولاد اللي في رقبتي". لم أكن أتخيل قبل هذا الحوار البسيط، مع شخص كان يجلس على مقعد مجاور لي بأحد مقاهي السيدة زينب، أن هناك من يتخذ "شهادة الزور" مهنة له، ولكن هذا ما فوجئت به، بعدما لفت انتباهي حديث لرجلين -بصوت مسموع- يتّفقان فيه على موعد الذهاب إلى المحكمة؛ للإدلاء بشهادة مقابل حصول أحدهما على 150 جنيه. رضا ترك محلّ الأحذية من أجل الشهادة الزور! الأمر أثار الفضول الصحفي بداخلي، وتبادلت الحديث مع الشخص الذي حصل على المبلغ بعدما تركه الآخر، بعد تأكيده على موعد نظر القضية بالمحكمة. هذا الشخص الذي التقيت به يدعى رضا وهو في الخمسين من عمره. رضا أخبرني أنه من سكان الدويقة، ويحضر إلى المقهى الموجود بالسيدة زينب باستمرار؛ ليكون بعيدا عن أعين أبناء منطقته من ناحية، ومن ناحية أخرى يكون المقهى مقرا لإدارة عمله الدائم الذي يقصده زبائنه. رضا بدأ عمله في هذا المجال قبل 10 سنوات، وكان وقتها يمتلك محلا صغيرا لتصليح الأحذية، ولكن هذا لم يُرضِ طموحه في الحصول على مزيد من الأموال حتى جاءته الفرصة، عندما شاهد مشاجرة بين عدد من الشباب في الشارع الموجود به محله، كانت نتيجتها إصابة شاب بعاهة مستديمة في عينيه، إلى هنا واعتقد رضا أن الأمر قد انتهى، ولكنه فوجئ بأحد الأشخاص يحضر إليه، ويطلب منه الذهاب للمحكمة بعد ذلك للإدلاء بشهادة زور تدين المجني عليه وليس الجاني. سعر الشهادة يتراوح بين مائة وألف جنيه لم يتردد رضا في قبول الأمر، خاصة أنه قد عرض عليه 300 جنيه ثمنا لهذه الشهادة، وبالفعل ذهب إلى المحكمة دون أن تؤرقه ذرة ضمير واحدة، وكان سببا في أن يفلت الجاني من السجن. أدمن رضا الأمر بعدما بات معروفا عنه قيامه بهذا العمل، حتى إنه أخذ يعرض نفسه على بعض المحامين، الذين يرسلون له زبائنهم الباحثين عن شاهد زور، وتدريجيا استغنى عن عمله السابق، ولكنه أوهم أسرته أنه يعمل لدى صاحب ورشة كبيرة بالسيدة زينب، وبدأ في وضع "فيزيتا" لشهادته، تتراوح بين مائة جنيه وألف حسب نوع القضية، فسعر شهادة المشاجرة يختلف عن السرقة وعن جريمة القتل. الغاية تبرّر الوسيلة المشكلة أن رضا لا يرى في عمله هذا شيئا مخالفا، وحجّته أن "الغاية تبرر الوسيلة" فأولاده يحتاجون لدروس خصوصية، وزوجته مريضة يشتري لها علاجا شهريا بحوالي 500 جنيه، وهو ما دفعه إلى البحث عن المكسب السريع، خاصة أنه -حسب قوله- لم يعد قادرا على العمل في مهنته القديمة؛ لأنه مريض بضعف في عضلة القلب. رضا أكد أنه يحرص في عمله على ألا يكون "وجه محروق" في النيابات أو المحاكم؛ فهو لا يتردد على مكان واحد منها أكثر من مرة، وأن زبائنه لا يقتصرون على القاهرة فقط، بل يحضر إليه الزبائن من المحافظات المختلفة، وأشار إلى أنه ليس الوحيد الذي يعمل في هذا المجال، بل يوجد الكثيرون غيره. وعندما طلبت منه أن يدلّني على شخص آخر يعمل في هذا المجال اصطحبني معه إلى مقهى قريب من الذي كان يجلس عليه، وعرّفني على رجل يُدعى إبراهيم. إبراهيم بدأ عمله من أمام المحاكم إبراهيم في الخامسة والخمسين من عمره، ولم يوافق على الحديث معي في البداية لولا أنه شاهد رضا معي، وبدأ يقصّ حكايته؛ فهو في الأساس من أبناء محافظة الشرقية، وجاء إلى القاهرة قبل 8 سنوات بعد طلاقه لزوجته، وهجر بيته وأولاده؛ لأنه عجز عن تلبية نفقاتهم، حيث كان يعمل فلاحا بالأجرة في الحقول. نزح إبراهيم إلى القاهرة وهو لا يعرف له عملا، وبدأ يتسكّع في الشوارع، وذات مرة وصل إلى باب إحدى المحاكم بشارع رمسيس، وهناك تعرّف على بائع مسلّيات متجوّل ليعمل معه لفترة، قبل أن يدله على طريق شهادة الزور، ولأنه كان مثل "الغريق الذي يتعلق بقشة" -كما يقول- فقد وافق على الأمر. كانت أول قضية شهد فيها إبراهيم زورًا تتعلق بجريمة سرقة، قام بها أحد الأشخاص من منطقة بولاق الدكرور، وعندما ذهب أحد أقارب المتهم إلى محامٍ بالمنطقة وجد أن براءة اللص في وجود شخص يشهد بأنه كان يجلس معه وقت السرقة، وبالفعل أوصلهم المحامي إلى إبراهيم الذي حصل على 80 جنيه مقابل أن يفعل ذلك. الأبناء لا يأكلون الحرام يعترف إبراهيم أنه كان خائفا جدا في أول مرة وقف للشهادة بالزور، وكاد أن يُكشف أمره، لولا أنه تمالك نفسه بعدما ساعده المحامي الذي كان حاضرا معه، وبعدها بدأت الأموال تتدفق عليه، واستطاع استئجار حجرة بمنطقة السبتية، ويفكّر حاليا في الزواج مرة أخرى. ولأن ما يحصل عليه إبراهيم من أموال تُعدّ حراماً، فهو لا ينفق منها على أولاده الموجودين بقريته؛ خوفا من لعنتها عليهم، ورغم أنه لا يشعر براحة الضمير من الذي يقوم به، وتطارده الكوابيس كل ليلة، إلا أنه مستمرّ فيما يفعل؛ لأنه -كما يؤكد- لا يريد أن يعود لأيام الفقر مرة أخرى. بائع كشري وشاهد زور! أردت أن أتعرف على المزيد حول هذا العالم، فدلّني إبراهيم على شخص يعمل بمحل كشري بمنطقة الكيت كات، ويُدعى مجدي، ولكنه لم يضمن لي أن يتحدث معي، وطلب مني أن أقول له إنني من طرف عمّ إبراهيم وأريده في شهادة زور أمام إحدى النيابات. عندما وصلت إلى مجدي وجدت أن عمره لا يتجاوز الأربعين عاما، وعندما ألمحت له عن سبب حضوري طلب أن أنتظره بأحد المقاهي البعيدة عن المحل الذي يعمل به، وجاءني بعد حوالي ساعة ونصف، وعندما عرضت عليه حضوره للشهادة في قضية اغتصاب، قام به أحد الأشخاص من منطقة مجاورة للكيت كات، وأن تكون شهادته في أن يقول إنه كان جالسا مع الشخص المتّهم وقت وقوع الحادث طلب مني 400 جنيه مقابل ذلك، بعدما تأكد من أن النيابة التي سيذهب إليها لا يعرفه أحد فيها. العمل من أجل الزواج وبعد فترة من الحديث معه عرفت أنه بدأ العمل في المجال منذ فترة قصيرة، ولم يقم به سوى 4 مرات فقط، وأنه غير متزوج، وأن هذا السبب هو الذي دفعه للقيام بهذا العمل، فهو -كما يقول- من أسرة فقيرة، وخرج للعمل في سنّ العاشرة، بعدما عجز أبوه عن إلحاقه بالمدرسة؛ من أجل الإنفاق على إخوته الثلاثة، والمساعدة في توفير نفقات المعيشة. عندما تقدّم مجدي، وهو في العشرين من عمره للزواج من جارته بالسكن رفض أبوها الأمر؛ لأن مجدي لا يمتلك أي إمكانيات مادية للزواج، وهو ما جعل هدفه بعد ذلك ينصبّ على جمع المال بأي وسيلة، لدرجة أنه لجأ إلى توزيع المخدّرات في بعض الأوقات، حتى دلّه أحد المحامين على مسألة شهادة الزور، وكانت متعلقة بقضية ميراث، ورغم أنه تردّد في قبول الأمر في البداية، إلا أنه وافق عندما علم أن المقابل هو 250 جنيهًا. ويؤكد مجدي أنه سوف يترك هذا العمل بمجرد أن يجمع الأموال التي تمكّنه من التقدم للزواج بأي فتاة من أبناء منطقته؛ لأنه يعي تماما أن ما يقوم به مخالف للدين وللقانون. قبل أن أترك مجدي أخبرني أن هناك سيدات يعملن أيضا في نفس المجال، ومنهن سيدة تقطن بجواره في الكيت كات، وطلبت منه أن أعرف طريقها، بحجّة أنني قد أحتاجها أيضا كشاهدة في القضية. روحية تشهد زورًا من أجل الكتب الخارجية! وبالفعل ذهبت إلى هذه السيدة روحية، حيث تسكن في دور أرضي بأحد العقارات القديمة، ووجدتها تتاجر في بعض الفاكهة والخضروات، وهي أرملة ولديها اثنان من الأبناء، الأول في مرحلة التعليم الثانوي، والآخر في الإعدادية. بعدما جلست مع روحية وعرضت عليها طلبي وافقت على الفور، وقالت لي "إنتَ جيت في وقتك"؛ لأن ابنها يحتاج إلى 200 جنيه لشراء الكتب الخارجية، وكان هذا الرقم هو الذي طلبته مني للإدلاء بالشهادة الزور، وقالت إنها وافقت على هذا المبلغ الزهيد -من وجهة نظرها- لأنها في حاجة ضرورية له، ولو أنها في ظروف غير ذلك لطلبت 600 جنيه. وبعدما أبديت لها موافقتي على دفع المبلغ، عرفت منها أنها لجأت إلى مثل هذا العمل بعد وفاة زوجها، وعدم وجود معاش يعينها على نفقات الحياة. ما سبق ليست هي الحالات الوحيدة التي اتخذت من شهادة الزور مهنة لها، ولكن هناك الكثير مِمّن اتخذوا الفقر والحرمان حجة لارتكاب هذه الجريمة الدينية والأخلاقية والقانونية، وهو ما يتطلب ضرورة وضع إجراءات مشدّدة للكشف عنهم، وزيادة التوعية بمخاطر هذا الأمر، سواء من خلال المؤسسات الاجتماعية أو الإعلامية، قبل أن يستشري كالسرطان بين فئات المجتمع.