بعد مرور عام علي الثورة، ربما تصبح كلمات مثل "الشهداء" و "اسر الشهداء" كلمات للاستهلاك اليومي، وتسقط منها تفاصيل كثيرة.. تفاصيل الحياة نفسها، فالشهيد قبل ان يصبح "شهيدا" كان انسانا لديه حياة ويملأ حيوات اخرين أيضا، وبموته يسقط جزء من هذه الحيوات، ومع الوقت ربما ننسي نحن أيضا ان كلمة "شهيد" تعني أيضا حياة، حياة من رحل، وحياة من سيأتي بعد الشهيد وبسببه ليجد وضعا أفضل. "ذكريات الثورة" مشروع كتاب مشترك بين المصور الفرنسي الكبير "دوني ديو" وكاتب السيناريست الشاب محمود فرج،سينشر بالعربية والفرنسية، يتناول العمل حيوات عدد من الاسر التي فقدت أحد أفرادها فأصبحت "اسرة شهيد". يحاول المشروع التقاط تفاصيل من حياة الاسرة بشكل عام، وحياة الشهيد، وكيفية استشهاده، وحياة الاسرة من بعده. لكن بعيدا عن الكلمات الكبيرة والشعارات، فهناك حزن أباء، ومواجع أمهات، وفجيعة زوجات..حيوات فردية يحاول المشروع التقاطها بالكتابة التي ترصد تفاصيل ما قبل الاستشهاد وبعده، وبالصورة "العادية" هي الاخري، إذ لم يحاول دوني المصور استعمال تقنيات تصوير حديثة أو أن يلعب بالإضاءة ليصنع صورة فوتوغرافية "جميلة" أو "فنية". ولكن حاول صناعة صورة تقليدية بطلها هم الافراد وليس الكاميرا أو المصور. "دوني" الذي أصدر من قبل كتابا مصورا عن القاهرة بالتعاون مع الكاتب الفرنسي "جيلبرت سينويه" يعمل عادة بكاميرا فوتوغرافيا عادية وليست رقمية، ويلعب علي مفارقات الضوء والالوان لكنه هنا وأمام عادية الناس قرر أن يتخلي عن جمالياته لصالح عاديتهم. ومع كل أسرة من الأسر الذين يلتقيهم الكاتب والمصور يلتقط ثلاث صور أساسية واحدة للاسرة نفسها للأب والام بشكل أساسي- واخري لصورة الشهيد داخل البيت، تظهر كيف يكرم الاهل ابنهم المقتول، والثالثة للمشهد الذي تطل عليه نافذة منزل الشهيد.. الداخل والخارج ومن في المنتصف هم ابطال الصورة، وليست الصورة في حد ذاتها. ننشر هنا جزءا من المشروع الذي لا يزال قيد العمل، حيوات ثلاث أسر من مجموع ما يقرب من ثلاثين أسرة يود الكاتب والمصور الكتابة عنهم، وبالاضافة إلي صور الاسرة ننشر ايضا عددا من الصور الاخري لشهداء اخرين من داخل بيوتهم بالشكل الذي يري ذووهم انه الافضل داخل البيت. "ذكريات الثورة" محاولة لأنسنة الثورة، ولرؤية تفاصيل سرعان ما ستنسي تحت ضغط سرعة الاحداث، وسيطرة الشعارات الكبيرة التي تختزل حيوات من صنعوا الثورة في كلمات لا توافيهم حقهم. تزوجت وفاء السيد المرة الأولي و هي في السادسة عشرة من عمرها بجارهم "حسني"الذي يكبرها بعام واحد وعاشت معه في حجرة صغيرة ببيت أهله و أنجبت له ولدين بينهما عامان "حسام"و"ولاء الدين" وبعد أقل من ثلاث سنين من زواجها أراد حسني الزواج بأخري ولأنه لا يمتلك سوي تلك الحجرة طلق وفاء التي أخذت طفليها و حقيبة ملابسها وعادت إلي بيت أمها وفي هذه اللحظة قام سمير شقيق وفاء الأصغر بالتقاط صورة فوتوغرافية بكاميرا عتيقة كانت لأبيهما.. فقط أراد أن يريها كم هي جميلة و صغيرة علي أن تكون أما لطفلين. قاومت حزنها وانكسارها وبمساعدة سمير. بدأت وفاء بالعمل كموظفة استقبال في فندق جديد وهكذا بدأت تشارك لأول مرة في مصاريف البيت.كانت حريصة علي تعليم أبنيها و تربيتهم علي الحب و الاحترام و تحمل المسئولية . وبقيت الذكري الوحيدة لوفاء من زواجها الأول هي جلسات قراءة الفنجان مع حماتها ومع الوقت أتقنت وفاء تلك اللعبة و اشتهرت بها بين صديقاتها. و بمعدل ثابت كانت تتلقي وفاء طلبات الزواج من كل جانب شقيق واحدة من زميلاتها أو ابن واحد من الجيران، لكنها لم تكن لتفكر في الزواج يكفيها أطفالها و أمها و عملها و ترتب علي ذلك أنها قررت ارتداء الحجاب ربما أبعد العيون عنها وبالفعل حدث ولم يمر كثيرا حتي وافقت أخيرا علي الزواج مجددا. فكانت في الساسة و العشرين و هو كان تاجر فاكهة يكبرها بأعوام قليلة انتقلت للعيش معه في شقته الصغيرة بطفليها و لم يدم الزواج كثيرا و اكتشفت أنه متزوج بأخري وفي صمت وبدون أي جدال عادت وفاء إلي بيت أمها بالرغم علي عدم طلاقها منه يزورها فقط ربما مرة كل عام واعتادت هي علي بقائها هكذا كواحدة من زوجاته. ماتت أمها و تزوج أخوها وعاشت وفاء بطفليها في نفس البيت الذي عاشت فيه وهي طفلة ليس لها دخل سوي خمسين جنيها تأتيها كنفقة من زوجها الأول و بعض المساعدات من سمير . كبر الأبناء و تطوع حسام ابنها الأكبر بالقوات المسلحة و ظل يعمل بها حتي تزوج و استقر في إحدي مدن الدلتا. أما ولاء الدين فكان هو السند الحقيقي لأمه وفاء بدأ يعمل في أجازات الدراسة واستمر في التعليم حتي حصل علي شهادة فوق متوسطة اعتاد ولاء علي العمل في مقاهي أو مطاعم و بعد نهاية الدراسة سافر إلي جنوبسيناء للعمل هناك في نفس المجال وتدريجيا وقع في غرام فتاة بدوية وعرض عليها الزواج و لم تكن وفاء مرحبة بتلك الفكرة فما الذي يجبره علي الزواج الآن و هو بعيدا عنها. لكنه أصر و أتم الزواج وعاش معها في شقة صغيرة هناك و استمر في عمله. أنجبت له ولده الأول بعد أقل من سنة ومع الوقت ضاق ولاء من تدخلات أهل زوجته في حياتهما و اتباع زوجته لهم حتي لو خالف هذا رغبته وبالتالي ساءت العلاقة بينهما وما زاد الطين بلة أنها كانت حاملا وهنا كانت وفاء قد فتحت حضنها لولدها و طلبت منه أن يعود ليعيش معها فزوجته لا تحتاجه ولا تحبه أصلا كما تفعل هي. في نفس الحجرة التي كانت لولاء مع أخوه حسام أصبحت له وحده بصعوبة وجد عملا مناسبا بأحد المقاهي بمركز تجاري كبير توطدت علاقته أكثر بأمه أصبح كلا منهما الأقرب للآخر. كانت تري فيه العوض الذي منحته الدنيا لها و أعطت له نفس ملامحها وهو ينهي عمله كل مساء ليعود مسرعا إليها بالعشاء ويوم الأجازة الأسبوعية يخرجان سويا. ومنذ فترة أتي ولاء بابنه الأكبر ليعيش معهم و بدأت وفاء تشعر من جديد شعورا كادت أن تنساه و هو الونس و الفرح امتلأت حياتها من جديد انتعشت ساعات يومها قامت بتصليح الراديو و كل شهر تذهب للإطمئنان علي ابنها الآخر حسام دائما بصحبة حفيدها و ابن حبيبها ولاء. جددت علاقتها بقراءة الفنجان وعادت لأحاديثها مع الجيران لكنها كانت خائفة ..بداخلها يقين أن الدنيا ستفاجئها قريبا فهي ليست معتادة علي العيش هكذا بدون معوقات من مواليد برج القوس و تعتقد أن سوء الحظ أهم مواصفات هذا البرج و بكل ما أوتي من قوة و صبر و طاقة وهب ولاء نفسه وكل ما له لأمه وكان أول ما تعلمه منها هو الرضا بالقليل و التسليم بالأمر لم يذكر يوما أنه تعارك أو دخل في أي مشادة تماما كأمه. له أصدقاء قليلون يأتون للسهر في حجرته كل فترة ووفاء كانت تقرأ المعوذتين في سرها لأن ابنها هو الأجمل بينهم لكنه أيضا الأكبر سنا.جميع زملاءه بالعمل حصلوا علي مؤهلات عليا كما يسمونها ولم تتوفر لهم أي فرصة للعمل بها فاستقر بهم الأمر في المقهي مع ولاء ومنهم عرف ولاء بمظاهرات الخامس والعشرين من يناير لكنه تحجج بورديته في العمل وفي داخله هاجس يدفعه للذهاب، مجرد هاجس لذا لم يذهب ولاء ذلك اليوم و تابع ما جري بالتلفاز مع أمه التي راحت تسترجع ذكرياتها عن فترة عبد الناصر و ثورة 1952 وفي نهاية كلامها نصحت ولدها بعدم الذهاب فالثورة للمرفهين القادرين علي التخلي عن وظائفهم بسهولة أما الفقراء فليس لهم سوي الدوران في الساقية للحصول علي لقمة العيش إلا أن ولاء كان أكثر تفاؤلا من أمه وقال لأمه أن قيام الثورة هو انتصار للفقراء وهل الشرطة لا تستحق الوقوف في وجهها بعد كل هذا التاريخ من الجرائم و السرقة و النصب ، لم يتجادل معها لكنه انتوي الذهاب مع أصدقائه يوم الثامن و العشرين من يناير ليس إلي ميدان التحرير و لكن إلي الشارع الرئيسي في المنطقة. ألحت عليه وفاء بعدم الذهاب فالمظاهرات يمكنه أن يراها من نافذة البيت لكنه ذهب و بعد أقل من خمس ساعات عاد لها مقتولا برصاصة في صدره كان مقر البوليس بالمنطقة ليس بعيدا عن شارع الأربعين حيث اندلعت المظاهرات و ارتفعت الهتافات ضد النظام و الفساد وجاء الرد عنيفا داميا قضي علي أحلام وأمنيات و حكايات العشرات بل المئات من بينهم ولاء الذي لم يعرف معني الحلم الذي عاش بين السطور مكتفيا بأمه من بين كل البشر و الكافي بالكاد من الدخل . كل ذنبه أنه انتبه لما لديه من فرصة لبناء حلم صغير لأبنائه ربما كان لهم حياة أفضل مما كانت لديه.لم يوجد الكثير ليواسي وفاء فابنها الآخر متورط في الأحداث الجارية بما أنه بالقوات المسلحة و أخوها لديه ما لديه من زوجة مريضة و بيت مكدس بالأبناء. (الموت مالوش عزيز)قالت وفاء لنفسها وفي غضون أيام عادت لوحدتها حيث استردت زوجة ولاء ابنها و رفضت أن تتركه يعيش مع جدته كما أن الراتب الشهري و المكافأة التي فرضها المجلس العسكري كانت من حق الزوجة والأبناء فقط 300جنيه من اجل الأم. (وفاء السيد) أشرف عمرها علي الستين، أسنانها بدأت في التساقط جسدها النحيل صار كجسد طفلة, تونس وحدتها بسماع الراديو و قراءة الفنجان أغلب الوقت لنفسها فلم يعد يزورها أحد. كانت آخر هدية لها من ولاء هي غسالة كهربائية لكنها ظلت تغسل بيديها تاركة الغسالة في صندوقها الكرتوني تمجيدا للذكري ووضعت عليها بعض الورد البلاستيكي و صورة صغيرة له. تشتاق لولاء الدين ..لضحكته و صوته و حكاياته..للعشاء معه ومشاهدة فيلم سويا..لفنجان القهوة معه بالصباح.ترك لها ولاء رائحة لا تغيب عن البيت أبدا هي رائحة الموت التي تحجب شعاع الشمس و تبتلع أي بهجة. في يوم 12أكتوبر عام1992 وقع زلزال و أخل في اتزان كل أرجاء البلاد كان ظهر يوم خريفي بمنتصف الأسبوع.وتصادفت هذه الواقعة مع وجود (أحمد الطوخي-سائق تاكسي بأوائل الأربعين)وحيدا بالمنزل و نظرا لحالة الرعب و الفزع اندفع أحمد نحو النافذة ملقيا بنفسه و كأن قد مسه سحر! ليسقط علي سطوح البيت المجاور لهم مما يعني أنه سقط ثلاثة ادوار وهكذا أصيب بكسر في العمود الفقري وبالمناسبة، ان هو المصاب الوحيد بالبيت من أثر الزلزال حتي البيت نفسه لم يصبه أي شرخ، نصحه الأطباء بالبحث عن عمل آخر و بترك قيادة السيارات فلم تعد مناسبة لوضعه الصحي الحالي لكنه لم يتوقف و ظل يعمل" متوهما" أنه قد عولج تماما مما أصابه. أحمد الطوخي متزوج من عزة عبد السلام في نفس السن تقريبا لديهم ثلاثة أبناء سعيد و نهي ووفاء، والثلاثة أنهوا تعليمهم المدرسي بالدبلوم. و بالنسبة لسعيد الابن الأكبر والذي لم يكن غائبا عنه حالة أبوه المرضية فقط بدأ بالعمل مبكرا (نصف يوم وقت الدراسة ويوم كامل في الأجازات)بدأ كبائع بمحل ملابس و من ثم كهربائي حتي أنهي الدبلوم وبدأ بتعلم القيادة بالتوازي مع عمله نقاش بشركة مقاولات صغيرة، وبالتحايل والواسطة نجح سعيد في استخراج رخصة قيادة و قرر العمل كسائق تاكسي وتدريجيا تحول سعيد قبل أن يكمل العشرين إلي عائل لأسرته حيث اضطر أبوه أن يتوقف تماما عن العمل لعدم تعرضه لشلل تام. يقضي سعيد أغلب وقته خارج البيت إما في عمله أو مع أصدقائه وكان الأقرب إليه منهم حسين ابن الجيران و مازالت صورتهم سويا معلقة في فاترينة الأستوديو الصغير علي ناصية شارعهم. وكانت الصورة هدية حسين لسعيد في نفس مساء اليوم الذي قرأ فيه سعيد الفاتحة مع والد الفتاة التي ستصبح بعد عامين زوجته و أم ولده أحمد. لدي سعيد أسلوب ذكي في الحديث دائم المرح ومندفع دائما و لا يرفض شيئا وهو مقنع لمن حوله وبالتالي كان يفلت من ألسنة أمناء الشرطة إذا أوقفوه أو اختلقوا له تهمة نعم، مرات قليلة دفع لهم"رشوة" لكنه لم يكن يخشي البدلة الميري ويؤمن باستحقاقه و أسرته عيشة أفضل و أن النظام القائم لا يحكم بالحق ويعمل علي نشر الفوضي جعل الناس عبيدا له وهناك الكثير من الأموال المنهوبة بالدولة ومسكوت عنها و كعادة سائقي سيارات الأجرة كان سعيد دائم الحديث مع زبائنه بل أن مصدر معلوماته الوحيد أصبح زبائنه. خلال تلك الأحاديث عرف سعيد بأن هناك شابا تم قتله في مدينة أخري علي يد قوات الشرطة و بعدها بشهور عرف بأن هناك دعوة للنزول إلي ميدان التحرير-الأكبر و الأهم بالعاصمة-يوم عيد الشرطة في الخامس و العشرين من يناير و رغم معارضة حسين لذلك إلا أن إلحاح سعيد جعل حسين يوافق ولو علي الأقل لإرضاء صديقه!تساءل سعيد بينه وبين نفسه هل هو جبان و خائف من الذهاب وحده؟ لم يجد إجابة إلا أنه لم يتنازع عن قراره بالذهاب من أجل ابنه كما قال لأحد زبائنه في نفس اليوم.و لأول مرة يسمع سعيد كلمة ثورة بل أنه في آخر اليوم كان يرددها في كلامه.الجميع تابع الأخبار كل حسب إمكانياته وبناء عليه فلم تكن هناك رواية واحدة لما حدث و أحقية وصفه بثورة أم مجرد تظاهرات فئوية! وسواء تلك أو تلك نصح أحمد الطوخي ابنه سعيد بعدم الذهاب مجددا و الابتعاد عن منطقة وسط البلد حتي تهدأ الأمور فمن ذا الذي سيقف في وجه الشرطة حجر الأساس في الحكومة وابنة النظام المدللة، لم يعتد سعيد علي معارضة والده و لنقل لم يعتد الأب أن يقول ما يستلزم أي معارضة سوي هذه المرة التي كان سعيد غير موافق تماما علي ما يقوله أبوه وكان يضرب الأمثلة بما رآه بعينه من جرائم و انتهاك-تولدت لدي سعيد بذور الإيمان بما يحدث و أصاب جسده زلزال شعوريا حين سمع كلمة" مصر" ترتفع إلي السماء بحناجر الألوف- طمأن أبيه مؤكدا له انه سيحصل علي أجازة في الأيام التالية و كذلك أيضا لم تنجح دموع زوجة سعيد في إبعاده عن قراره بالخروج ظهر يوم الجمعة 28يناير للمشاركة في المظاهرات في نفس المنطقة"حدائق الزيتون"مع حسين ومجموعة قليلة من جيرانهم وكان طبيعيا أن يكون هدف المتظاهرين الوصول إلي قسم الشرطة الممثل الأول لهيبة الحكومة و سريعا بدأ الهجوم وتفرقت الكتلة البشرية فالقنابل المسيلة للدموع كالمطر و أعيرة الرصاص المطاطي تأتي من حيث لا تعلم.وجد سعيد نفسه وحيدا لا يوجد حوله من كانوا معه لكنه انهمك في مساعدة الجرحي و المصابين يحمل هذا و يساعد تلك لتنهض- بواسطة حواسه كلها يخزن في دماغه الحكايات ليرويها علي أسرته و زوجته حين يعود -و لكن أثناء مساعدته لأحدهم جاءته الطلقة كالبرق و استقرت في جبينه. مات سعيد علي بعد أمتار من أسرته. ابنه مازال رضيعا و أبوه مازال مريضا لكنه عاد للعمل و إلا من سيتحمل المصاريف، له وجه بلون التربة الصالحة، قليل الحديث و الابتسام فكلامه هو الصمت و النظرات و كلمات قليلة يلقيها عليك كأنها وحي يوحي .وإذا كان المثل يضرب في البكاء بمن يبكي علي فقدان ابنه فهكذا كان الأب أحمد الطوخي يدلف لحجرة النوم و يغلق بابها و يبكي بحرقة و أحيانا يختلط بكاؤه بكلمات وعهود منها أنه أقسم أن يحفظ كل الأموال التي تم صرفها باسم الشهيد سعيد الطوخي من أجل ولده الرضيع .فزوجة سعيد مازالت تعيش معهم في نفس الحجرة التي كانت لها مع سعيد الأم ,عزة,لم ترتدي غير اللون الأسود اعتادت أن تذهب إلي الميدان مع بناتها وفاء ونهي بعد الاستئذان من أزواجهم، قامت بتعبئة حزنها في زجاجة و حفظتها في دولاب حجرة النوم أو بمعني آخر كانت زجاجة ماء زمزم التي جاءت بها بعد رحلة عمرة، كانت مدفوعة الأجر مقدمة لأمهات الشهداء-بالنسبة لها تكمن فيها روح سعيد- طالما حلم بإهداء أمه رحلة عمرة وهاهي قد أدت عم "مجدي" سائق التاكسي رجل طيب و لأنه كذلك بالفعل فقد تصادف أنه في أحد الأيام ركب معه موظفا مهما بأحد السفارات الأجنبية قد تخلي عن سائقه لسبب ما و اضطر لأخذ تاكسي و هكذا تعرف علي عم مجدي و لما وجده هذا الموظف من خلق طيب و معاملة أمينة فقد عرض علي عم مجدي أن يعمل كسائق خاص له و براتب شهري ثابت.كانت نقلة في حياة عم مجدي مادية و اجتماعية حيث كثر تواجده مع هؤلاء من الطبقة الرفيعة أصحاب التعليم العالي و الوظائف الحساسة و من هنا كان حلم عم مجدي الأول أن يتمم أبناؤه تعليمهم. زوجته ماجدة كانت بنفس طيبته لكنها امتازت عنه بالتدبير و الحكمة ، الابتسامة لا تغيب عن وجهها و لسانها لا يكف عن عبارات الترحيب و الدعاء. لديهم أربعة أولاد توأمان طارق و أحمد و مصطفي و عمرو وقد حصل جميعهم علي مؤهلات عليا عدا عمرو الصغير اكتفي بالدبلوم وقد اعتاد كل من الأخوة الأربعة علي العمل ليتحمل مصاريفه وبالتالي فإن عم مجدي بعد أن انتهت فترة عمله مع الموظف الأجنبي لم يرهق نفسه في البحث عن عمل آخر. عاد ليعمل علي تاكسي ثلاثة أو أربعة أيام في الأسبوع فقط. كان طارق هو الأكثر هدوءا واناقة ورزانة عقل بين إخوته وكذلك أكثرهم تميزا فلم يرض أن يعمل بائعا أو مندوبا كما فعل أخوته، لكنه أحب الحاسب الآلي و علم نفسه بنفسه كيف يقوم بفكه و تركيبه و بدأ بشراء قطع غيار و تجميع أجهزة و بيعها للمعارف و تدريجيا أصبح هذا عمله و قدر المستطاع كان يحاول طارق التوسع فيه و أيضا علي عكس أخوته كان طارق الأكثر بقاء في البيت نظرا لما يتطلبه عمله من وجود مكان (ورشة)كما بدأ مؤخرا بعمل وصلات الإنترنت لبعض سكان شارعهم، اشتري قطة وقال مازحا أنه يتدرب علي الأبوة لكنه لم يكن يفكر في الارتباط، ويري أن أمامه الكثير قبل تلك الخطوة. حريصا جدا علي مظهره و هندامه يحمل هاتفا خلويا عصريا جدا. كان متابعا جيدا و عضوا عاملا بالكثير من مواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية. كان علي يقين أنه لو كان هناك تطبيق حقيقي لمبدأ تكافؤ الفرص لما كان هذا وضعه. يؤمن تماما بأن عدم حصوله علي فرصة عمل جيدة ليس لتقصيره و إنما للخلل و الفساد اللذين تعاني منهما أنظمتنا وبدون تخطيط ذهب طارق مع إخوته الثلاثة إلي ميدان التحرير يوم الخامس و العشرين من يناير أول أيام الثورة المصرية و قام بتصوير مقاطع فيديو كثيرة من هنا و هناك قتلي و جرحي ..هتاف و صراخ و طاقات مكبوتة. وحالة الحماس الموزعة بين طارق و إخوته انتقلت إلي البيت كله كما قام طارق بتحميل كل ما قام بتصويره علي تلك المواقع الإلكترونية التي لديه حساب فيها.و في صباح الثامن و العشرين من يناير ذهب الأخوة الأربعة سويا ليس بأبعد من عشرين مترا من بيتهم حيث يقع ميدان السيدة زينب و أيضا مقر البوليس فيها وانهمك طارق في التصوير.. غرق في شاشة هاتفه الخلوي و انقطع عن العالم الخارجي كل ما يراه فقط خلال شاشته هو الحقيقي وما عدا ذلك فهو افتراضي و يصبح حقيقي فقط حين يأتي داخل كادر الشاشة الصغير وخلال لحظة الغياب هذه استقرت الرصاصة الحية في رأس طارق لتوقعه ميتا مغطي بدمائه في أقل من دقيقتين.و لم يكن يدري طارق أن هناك آخر مهووسا بالتصوير مثله لكن هذا المهووس الآخر كان يقوم بتصوير طارق نفسه وهو يلفظ آخر أنفاسه حيث التقط مشهد تدمير رأس طارق و تطاير عينيه و خروج فكي أسنانه من أماكنها. وقام المصور بإعطاء هذا المقطع لعم مجدي ربما أراد الاحتفاظ به شاهد عم مجدي هذا الفيديو عشرات المرات و عرضه علي كل من جاءه للتعزية- أكثر من قضية قامت أسرة طارق بتحريرها ضد وزارة الداخلية و الرئيس المخلوع و بعد أول جلسة من محاكمات النظام تلقي عم مجدي مكالمة من محام من بلد عربي يعرض عليه مليون جنيه مصري مقابل التنازل عن قضاياه لكنه رفض بدون تفكير و أنهي المكالمة قبل أن ينفعل. قرر ترك المكافأة التي صرفها المجلس العسكري للمستقبل و المعاش الشهري صار كافيا مما جعل عم مجدي يتوقف عن العمل تماما ومازال يرعي قطة طارق ويقدم لها لبنا كل صباح كما قام بالاشتراك في موقع facebook و كون مجموعة من آباء الشهداء. ... في أحد الليالي استيقظت ماجدة علي صوت غريب لم تعتده أذنها، كان صوت بكاء زوجها مجدي الذي أخبرها أنه رأي في الحلم ما يشبه يوم زواج طارق.. العمرة كنوع من العزاء علي موته- الذي غاب عنها وجهه إلي الأبد