{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور: 2].. كانت هذه الآية الكريمة هي كل ما فكَّر فيه الشخص الذي كان يقوم بتصوير سيّدة سودانية يُقام عليها حدّ الجلد لسبب غير معلوم بعد، بينما يقف أمامها مباشرة شرطي سوداني ينزل عليها بالسوط أينما استطاع، قبل أن يدخل شرطي آخر ليُساعده في تنفيذ الحدّ، لتمتزج أصوات لسعات السوط مع صرخات السيدة التي يُنفَّذ فيها حدّ الله؛ وذلك في فيديو مصوَّر يتمّ تداوله على موقع يوتيوب.
"الله أكبر".. "أعوذ بالله".. تعبيران مختلفان كل الاختلاف، صدَرَا عن شخصَيْن مختلفَيْن في نفس التوقيت، تعليقاً على نفس الفيديو؛ فكان التكبير مِن الرجل الأوّل انتصاراً لحدّ الله الذي أصبح يُطبَّق أخيراً كما أمر عزّ وجلّ عباده؛ بينما استعاذ الثاني الله مما رأى حُزناً على حال أُمّة أصبحت تسمع ولا تعقل.
هل انقلب الميزان رأسا على عقب ولم يعد هناك أمل في إصلاحه؟ إنما للصبر حدود.. وللإسلام أيضاً "الله أكبر".. هو تعبير يخرج تلقائياً مِن فئة مسلمة غيورة على دينها يُحزنها انتشار كل المظاهر التي تدلّ على أن "القيامة خلاص هتقوم" مِن: خمور في كل مكان تُباع وتُشترَى دون اعتراض.. فتيات يرتدين -في الطرقات العامة وفي وسائل الإعلام- ما كانت تخجل أهاليهن من ارتدائه في غرف النوم.. شاذين وشاذات جنسياً.. تحرّشات.. اغتصاب متكرّر.. زنا علنيّ في وسائل الإعلام تحت يافطة التمثيل وتصوير واقع الحياة... فما يكون مِن الشباب والفتيات إلا أن يُقلِّدوهم تقليداً أعمى؛ مما يزيد الأمور سوءاً والحياة فساداً.
كلها مظاهر مُنفرّة، وتثير اشمئزاز أي مسلم أو أي إنسان لديه فطرة سليمة، كلها أمور تُجبر كل ذي عقل وبصيرة أن يُطالِب بعودة تطبيق حدود الله في كل شيء؛ في: القتل، والسرقة، والزنا، ورجم المحصنات...
فالمرأة التي تمّ جلدها كما ترى هذه الفئة مِن الناس، وثارت ثائرة أصحاب المشاعر المرهفة من أجلها؛ إما أنها زَنَت، أو ارتدت ما يُثير الفتن والشهوات كحال بائعات الهوى المحترفات، يتجوّلن في الطرقات ليصطدن زبائنهن بملابسهن الفاضحة مِن الشباب المحروم بإثارة مشاعره، والذين لا يملكون ثمن "ليلة برتقالي" وليست حتى حمراء.. وهو ما يجعلنا نسأل ألا يُبرّر ذلك قسوة تطبيق الحد؟!!
تمّ الأمر بوحشية.. نعم وما المانع مِن بعض أو كثير مِن القسوة ليعتدل الميزان الذي انقلب رأساً على عقب ولا أمل في إصلاحه؟ ما العيب في بعض التجاوزات حتى يرتدع البشر ويعرفوا خالقهم وحدوده تعالى مِن منطلق مبدأ "اضرب المربوط.. يخاف السايب"؟ فإذا اعتدل الميزان يمكن أن نطالب وقتها ببعض الرأفة؛ لكن الآن وبينما الانحلال ما يزال سائداً والعقول غائبة؛ فلا مفرّ من استخدام القسوة.
ولا داعي لأن نتّخذ مبدأ الرأفة والرحمة الموجودة في الإسلام ذريعة للاعتراض على تنفيذ الحدود؛ فالرحمة موجودة والرأفة لا جدال؛ لكن أية رحمة تلك التي تستحقها مَن تثير الفِتَن والشهوات؟ وأي رأفة تلك لمن يتّخذ القتل أو السرقة منهاجاً؟
إن هذا الاعتراض إنما هو إذعان لرغبة دول غير إسلامية صارت -مع الأسف- بضعفنا قوية؛ فصارت تتحكّم فينا فخِفناها، ونسينا أن ربهم وربنا -الذي خلق العالم ووضع حدوده- أحقّ أن نخشاه، وأحقّ ألا نخاف في تنفيذ حدوده لومة لائم.. وإذا كانوا يمنعوننا من تنفيذ حدود الله في الأرض؛ فهل يمنعونها في السماء؟
نعم.. إن تطبيق الحد في الأرض مِن شأنه أن يخفّ من العقاب الأخروي ولو قليلاً، وإذا منعناه أرضاً فلن نمنعه سماء، ولن يفيدنا ذلك في شيء سوى أن يحلّ علينا لعنة الله وغضبه؛ لامتناع عبيده عن تنفيذ أوامره على أرضه.
لم توضع الحدود للتعذيب ولكن للترهيب ما أصابنا مِن تخلُّف وجمود في مسألة تطبيق الحدود "مافيش فايدة".. كان ذلك لسان حال فئة أخرى تستشيط غيظاً، عندما تعتقد أن مصر والوطن العربي قد وقعا في بئر التشدّد الذي يلغي بدوره العقل، وهذه الفئة لا ترى بأي حال من الأحوال أنه لا يجب تنفيذ حدود الله التي أمر بها؛ ولكن المشكلة تكمُن في السؤال المؤرّق: كيف نفعل ذلك؟
في حالة جلد الفتاة السودانية، وجدنا الضابط وهو ممسكاً بالسوط، ويضربها في المكان الذي يرتئي، وهي مطلقة السراح تتلوّى وتتأوّه؛ فيسقط السوط فوق ظهرها، وعلى أرجلها، وعلى كتفها، وعلى وجهها، وعلى كل جزء مِن جسدها، وهنا وَجَب علينا أن نسأل أهل الحدود عن: كيفية تنفيذ الحدود؟
في كل الوقائع التي وردت فيما يتعلّق بحد الجلد كان هناك قواعد ثابتة تحكم هذه العملية، وأوّلها أن تكون السيدة التي تتعرَّض للعقوبة مُقيَّدة بشكل ثابت، ويكون الضرب على الظهر فقط؛ منعاً لوصول السوط لأماكن حسّاسة بجسد المرأة الضعيف بالأساس، وهو ما لم يحدث في هذه الحالة؛ بل تمّ الجلد بشكل عبثي مسرحي، فيه سخرية وإهانة، واستمتاع بصرخات الآلام، وتلاعب بحدود الله عزّ وجلّ.
المشكلة هنا ليست مشكلة فتاة سودانية طُبّق عليها حدّ الجلد بشكل خاطئ، المشكلة أكبر وأعمق من أن تكون حالة فردية، المشكلة تكمن في أنظمة كاملة تختصر الشريعة الإسلامية في تطبيق حدود الله؛ فتُبادر بتنفيذها دون فهم حقيقي لهذه الحدود؛ فيُظهرون الإسلام بصورة هو بريء منها.. ومَن لديه عين تقرأ.. وأذن تسمع.. وعقل يُفكّر.. فليتأمّل معي السطور القادمة بهدوء.
إن الحدود التي وردت في الشريعة الإسلامية هي 4 حدود: 1- حدّ الرجم للزاني والزانية المحصن والمحصنة. 2- حدّ الجلد للزاني والزانية غير المحصنين. 3- حد الجلد لشارب الخمر. 4- حد قطع اليد للسارق.
لكن هل فكّرنا للحظة: متى يُمكننا استخدام هذه الحدود؟
لقد اشترط الله عزّ وجلّ في تطبيق حدّ الرجم أو الجلد على الزاني أو الزانية أن يَشْهَدهم 4 أشخاص في حالة تلبّس، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً، وكذلك لم يكن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه -وهو المعروف بالفاروق- ليُطبِّق حدّ السرقة على السارق لو فعل ذلك عن جوع، أو لو كانت تلك هي سرقته الأولى؛ فينذره ويعذره مرة واثنتين وثلاثًا، ثم يكون الحدّ.
دُولنا الإسلامية والعربية العريقة تفتخر بأنها تُطبِّق حدود الله فتقطع يَدَ السارق دون أن تعرف لماذا سرق!! دون أن تحاسب نفسها لو كان فعل ذلك عن تقصير منها
سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو بنفسه عندما أتته امرأة تعترف له بأنها زَنَت وحملت سفاحاً؛ ردّها حتى تلِدَ طفلها؛ فعادت فَرَدّها حتى تفطم طفلها؛ فعادت؛ فأمر بتنفيذ حدّ الرجم عليها، ثم أمرهم فصلّوا عليها؛ فقال عمر: يا رسول الله تصلي عليها وقد زَنَت؟!! فقال: "والذي نَفْسِي بيده لقد تابت توبةً لو قُسِّمت بين سبعين مِن أهل المدينة لَوَسِعَتْهُم".. وهل وجدت أفضل مِن أن جادت بنفسها.
لم يتوقَّف الأمر عند هذا الحد؛ بل إن بعض الروايات تُؤكِّد أن الرسول حاول أن يستبين منها حقيقة ما فَعَلَت؛ لعلها تكون مخطئة خطأ دون الزنا.
هل رأيتم؟ هل لاحظتم؟ هل تأمّلتم؟ أم لم تخرجوا من النص بأكثر من نصّ مجرّد من روحه؟ إن الله عزّ وجلّ يهدف من خلال هذه الحدود إلى الترهيب وليس التعذيب، ولا تنفّذ حدوده إلا في الحالات المحددة لها فقط.. وإذا تأمّلنا في مُسمَّاها سنتبيِّن أن الحدّ هو نهاية الشيء؛ فالحدود هي الخُطوة الأخيرة في العقاب وليست الخطوة الأولى، تُستخدم فقط لحفظ توازن المجتمع، ومنع انتشار الفتن والأوبئة؛ ولكنّ تطبيقها يبقى أمراً جللاً يستحقّ التوقف والتحرِّي والتأكُّد.
لكن دُوَلَنا الإسلامية والعربية العريقة تفتخر بأنها تُطبِّق حدود الله فتقطع يَدَ السارق دون أن تعرف لماذا سرق!! دون أن تحاسب نفسها لو كان فعل ذلك عن تقصير منها، دون أن تُنذره أو تعذره، ومع ذلك فالسرقة مستمرِّة فيها ولم تتوقَّف.. وأخرى تُنفِّذ أحكام الإعدام بالعشرات كل شهر، ومع ذلك فالقتل مستمرّ ومتواصل.
لقد آثروا الحل السهل بالتخلّص من الرعية؛ بدلاً من رعاية الرعية، ما دام ذلك قد تمّ تحت لافتة "تنفيذ حدود الله"؛ مغازلين بذلك مشاعر البسطاء المرهفة في كل ما يتعلّق بدينهم وربهم؛ حتى يخرجوا في مؤتمراتهم الشعبية ويُؤكّدوا -بشكل مسرحي- أنهم يُطبّقون حدود الله على الجميع، وهم في ذلك لا يبتغون وجه الله؛ بل وجه الكرسي الذي يجلسون عليه.. ولِمَ لا؟
ولِمَ لا وهي حكومات تأخذ من الدين ما تريد وتترك ما لا تريد؟ ولِمَ لا وهي تقطع يد السارق الصغير وتفتح الخزائن للسارق الكبير؟ لِمَ لا وهي تُطعم الفساد فساداً حتى نَخَر في عظام الأمة الإسلامية التي يُفترض أنهم يسعوْن لرفعة شأنها؟ لِمَ لا وهم يقبلون أن تُقطع يَدَ فاطمة بنت محمد لو سرقت؛ ولكنهم حقيقة لن يفعلوا بالمثل مع الأميرة فلانية بنت الأمير الفلاني لو سرقت أو زَنَت أو شربت خمراً؟
المهم أن يرفعوا الشعار: نحكم بشريعة وحدود الله؛ بينما هم يتستّرون على المُفسد، وكل من والاه.
لم تُخصّص هذه الصفحة هذا الأسبوع لمناقشة مبدأ تطبيق حدود الله مِن العدم؛ ولكنها خُصّصت لاستخدام الميزة التي كرّمنا بها الله عزّ وجلّ؛ ألا وهي العقل الذي يُحتِّم علينا أن نتساءل: هل يجب تطبيق الحدود كما طَبَّقها السلف؛ باستخدام روح الشريعة، أم نُطبّقها حتى ولو تعرّضت البلاد على إثرها للعزلة والقطيعة؟
جاوب وقول.. يا ترى إنت شايف إن الدوَل اللي بتطبّق حدود الله تفعل ذلك بالشكل السليم؟ ولو قلت آه.. يبقى هل هتوافق على إنها تُطبّق في مصر بنفس الشكل؟ ولو قلت لأ.. تفتكر مش يمكن حال البلد كان هينصلح بفضلها؟ إضغط لمشاهدة الفيديو: