تُذَكّرني الجدران الرطبة بأماكن بعينها: "القلعة" و"السرابيون" في الإسكندرية، وشقة أمي وأبي في بيت الجيزة والمياه تتسرب من شقة الجار الذي يسكن فوقنا.. أول مرة غرقت الشقة فوضعت أمي "جركن" في غرفة نومها تجمع فيه قطرات المياه، نادينا على البواب، الساكن يقيم في مكان آخر!! جاء السبّاك، وظلّ تسرّب المياه يأتي في مواسم.. أرفع بصري لسقف الحمام فألمح قطرة تتجمع، ترقب عيني التغيّر في ألون الحائط، أشمّ رائحة رطبة، صرت أكثر حساسية، أخبر أمي وأبي بأن الشقة ستغرق قبلها بساعة على الأقل. كنت أرتدي "الكوتشي"، وكنت على استعداد أن أجري وحدي في الكهف، هرولتُ كي أكون خلف المُرشد، كنت أبحث عن كلمة آخذتها في امتحان TOEFL.. في الكهف ترسيبات أفقية وعرضية، أخرجت "البروشور" الذي كنت أحتفظ به في الجيب الخلفي "للجينز".. المرشد يسير بجواري، سألته عن تركيب الكهف؟ سألني عما أقصد، نطقت كلمات شبيهة لما أعنيه، رفعت "البروشور" تجاه عيني كما لو كنت أنظر لشخص أستجدي عونه، سمعتُ صوتاً: هي تقصد "ستالاكتيت" و"ستالجميت"، نظرتُ خلفي، الدكتور "بايرز"، جميل أن يكون الواحد في مأزق فيجد شخصاً وراءه بخطوة أو خطوتين. أنظر للأشياء أحياناً في إطار كوني في المترو في مصر، وقفت أحمل الكتاب بيد واحدة، أمسك باليد الأخرى القائم المعدني، بارداً كما لو كان عليه بلل، أمسكت "الدرابزين" الخشبي في حذر، وجدت ممراً أوسع، قفزت الدرجة الأخيرة بذات الطريقة التي سأقفز بها الدرجة الأخيرة في بيتنا الجديد، تضيق الممرات، أرى جسدي طويلاً على ضيّ المصباح.. هل سبق وقال أي عالم نفس معتبَر أن "النفس البشرية تُشبه الكهف"؟ فرويد؟ نيتشه؟ أو ذلك الذي لا أذكر اسمه.. لا يهم. أنا التي أقول الآن: النفس البشرية تعيش في كهف، ظلام بارد، ضيّ يتراقص، خيالات، أنفاس تتصاعد، جدران بثلاث عيون تُحدّق فيّ.. توقّف المرشد ليشير إلى السقف، تخيّلوا معي كمّ الوقت الذي قضوْه لتسجيل أسمائهم، فكّرت أنها مكتوبة بالفحم، كيف سجّلوها؟ سألته بذات الشعلة التي كانوا يستخدمونها للإضاءة، خفضت بصري.. وأنا صغيرة كانت لديّ فُرَص كثيرة لتسجيل اسمي على "الديسك"، في مدرج 21، أو حتى على أي شجرة.. سرت أُحدّق في الظلام كنائم يسير في الليل، سرنا على جسر معدني، نظرت إلى العمق الضيق بالأسفل، ممسكة بالدرابزين. كيف بدأ الكون؟ كتلة تنفث ما بها، تبرد، تصبح كواكب تدور هائمة كراقص يرفع يديه إلى السماء، تصبح مجرّة، مساحة شاسعة من الكحل الأسود لا حدود لها، قرأت أن هذا حدث منذ ثلاث عشرة بليون سنة؛ لكني أشاهده الآن، جالسة على الأرض الندية، رافعه بصري إلى السماء. أسمع صوتاً مكتوماً كخروج طلقة من مسدس أو ارتطام جسد بالأرض، تتلألأ الأضواء في ظلام السماء، قبل أن أتمكن من التقاط صورة للسماء في لحظة توهّجها، تفصل لحظة بين الانفجار والانفجار الذي يليه.. تتوالى الألوان، الأصفر والأخصر والأحمر والأزرق، يتوه بصري وسط الألوان؛ وأنا أحب أحياناً أن أتوه؛ كأني في مركب، أرقب الوصول، يأتي كلحظة سلام مع العالم الذي كان يضيق بي منذ قليل. في خيالي دوماً أفكّر في الشعور بالتوهة كظلّ يميل على "ترابيزة بلياردو"، يدفع عصا يلمس طرفها بيده، تصصدم الكرات ببعضها البعض، لا تعرف وُجهتها، ثم تستقرّ على أرضية الطاولة؛ يا رب من فضلك لا تُنهِ الكون الآن.. نظرتُ في ساعة الموبايل، إنها الثامنة، الثالث من يوليو، ولما يكون اليوم هو الثالث من يوليو؛ فغداً سيكون الرابع من يوليو، حقيقة ثابتة؛ خاصة حينما يتعلّق الأمر بعيد ميلادي.