في تمام السابعة والنصف صباحاً وعقب انتهاء المصلّين من تكبيرات وصلاة العيد، خرجوا هرولة بجلابيبهم البيضاء نحو العجول القابعة في انتظار مصيرها المحتوم على سكّين الجزار المسلولة، وفي لحظات تتحول الحياة كلها إلى اللون الأحمر، ويصرخ الأطفال فرحاً ويباشر الجزار عمله و... و... هناك.. في الأعلى.. في أحد البيوت المطلّة على هذا المشهد الرائع، وقف أب وأم وأولادهما ينظرون في حالة حزن بيّنة.. فنظرت الأم لأولادها أولاً ثم للأب لتسأله.. طب وبعدين؟ هذا المشهد المأساوي مع الأسف ربما يتكرر كثيراً هذا العيد، بعد أن بلغت أسعار اللحمة أعلى معدلاتها، وبات شراء الخروف أمراً يحتاج إلى ميزانية منفصلة، بينما مسألة شراء العجل اقتصرت على الأثرياء بمعنى الكلمة، ليبقى نفس السؤال الذي طرحناه بالأعلى.. طب وبعدين؟ هل تبقى هذه الأسرة داخل منزلها دون حراك، وقد فرغت ثلاجتهم من زحمة اللحمة المعتادة في العيد.. أم يتخذون القرار الصعب.. اللحمة فين يا جزارين دلّوني! البعض رأى أنه من الأفضل التنازل عن تلك الشعارات التي لا بتأكّل ولا بتشرّب، عكس اللحمة التي هي فعلياً بتأكّل، وهذه الشعارات التي ترفضها هذه الفئة هي شعارات من نوعية "كرامتي وكسرة نفسي"... إلخ، ولهم منطقهم في ذلك نعرضه تباعاً كالتالي..
الحل في طوابير اللحمة بالمناطق البعيدة، ساعة ولا ساعتين في طابور مع المساكين، وأروّح ب"لفة لحمة" للعيال وكأني شاريها. فلتتخيل نفسك في مكان هذا الأب -الذي هو بالمناسبة شخص عادي من الطبقة الوسطى ومتعلم ومثقف وجامعي، لكن تجمّد مستواه المادي في الوقت الذي ارتفع فيه كل شيء- فلتتخيل أن ثلاجتك متخمة بزجاجات المياه الساقعة ولا شيء غيرها، وأولادك يرون اللحمة في كل مكان إلا في بيتهم، وقد اعتادوا بينهم وبين أصدقائهم أن يسموا هذا العيد بعيد اللحمة، ولكن ليس هناك أي لحمة.. فكيف سيكون الحلّ وقتها؟! وما دام اللحمة عزّت علينا كما فعل الذهب قبلها، فليكن الحلّ في لحمة الصدقة.. إيه عامل نفسك مش سامعني ولا مصدوم؟ وأين المشكلة، أليست هي سنة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ بالتأكيد هي كذلك ولا مانع من إحياء السنة، ولكننا نحن من أسأنا لسمعة هذه السنة وقصرناها على الفقراء والمساكين تماماً كما سبق وأسأنا للعقيقة.. يبقى فين المشكلة، منها إحياء سنة ومنها اللحمة تبقى في بيتنا. وإذا كانت مسألة الكرامة هي شر لا بد منه، والشكل الاجتماعي والبرستيج تفاهات يجب مراعاتها، فبكل سهولة يمكن تجاوز هذه المشكلة من خلال طوابير اللحمة بالمناطق البعيدة، ووقتها لا حدّ هيعرفني ولا هاعرف حدّ، ساعة ولا ساعتين في طابور مع المساكين، وأروّح ب"لفة لحمة" للعيال وكأني شاريها. بالتأكيد الموقف مش سهل، وبالتأكيد يمكن ما أنساهوش طول عمري، لكن في الوقت نفسه أولادي أيضاً عمرهم ما هينسوا إن عيد اللحمة مرّ عليهم دون أن يأكلوا لحمة، وستظلّ نظرات النقص في عيونهم تجلدني أينما رأيتهم، يبقى بهدلة ساعة ولا ذلّ كل ساعة. وأخيراً تجد هذه الفئة العزاء لنفسها فيما وصل إليه حالها للحكومة التي تُذّل أعزاءها وتعزّ أذلاءها، على الحكومة التي غيّرت أمام العالم أجمع مقولة "لا أحد في مصر ينام من غير عشاء"؛ لتتحول مصر كلها كي تنام بدون عشاء.. وإذا كان هو يتعامل مع وضع غير مسئول عنه بأي حال من الأحوال، فلا يجب عليه إذن أن يخجل من نفسه عندما يقف في طوابير اللحمة.
محاربة الغلاء بالاستغناء.. والجوع أهون من لحمة الصدقة فلنحارب الغلاء بالكبرياء.. هذه الفئة تقف على الشاطئ الآخر المناقض تماماً للفئة الأولى، تعتبر كبرياءها وكرامتها أغلى ما تملكه، ولا استعداد لديها لإهانة هذه الكرامة من أجل "حتة لحمة". هذه النوعية من الناس ترى نفسها "ناس محترمة" رغم ضيق ذات اليد، فهم ينتمون للطبقة الوسطى المتعلّمة المثقفة، هذه الفئة حتى وقت قريب كان أصحاب تلك العجول ينادونهم بالألقاب، فكيف يقبلون الوقوف في طوابير على جثة "الميت عجل" من أجل نفحة من الفخدة أو الريش، قبل أن يعامله صبي الجزار الذي يقوم بالتوزيع وكأنه متسوِّل، وكل هذا من أجل "حيا الله نص كيلو" ولا بالكتير كيلو لحمة، وبالتالي قلته أحسن، خليني محتفظ بالجزء الباقي من كرامتي مش هيبقى لا كرامة ولا لحمة. وإذا كانت اللحمة شيئا ضروريا لا بد منه فممكن نستناها لغاية ما تيجي لنا من غير ما نروح لها، يعني بعد مولد الدبح ما ينفضّ، وبعد توزيع اللي فيه النصيب على الفقراء أكيد هيفتكرونا ولو من باب المجاملة. هذه الفئة أيضاً منطقها في حملتها لمقاطعة اللحمة إن الدنيا مش هتخرب يعني لو ما أكلناش لحمة.. نقاطعها زي ما قاطعنا حاجات كتيييير، انطلاقا من مبدأ محاربة الغلاء بالاستغناء حفاظاً على الكبرياء؛ لأن اللحمة هتتعوّض لكن الكرامة عمرها ما بتتعوّض.
هنرجع تاني ونسأل طب وبعدين؟ ما بين إننا ناخد لحمة حلوة من فلان وفلانة.. أو إنك تعيّد من غير لحمة لكن مصر كلها هتبقى عارفانا.. يقف المواطن غلبان تعبان لا حول له ولا قوة.
طيب قول لنا وما تخافش أسألتنا مش هتكلّفك زي اللحمة! عندك استعداد تقاطع اللحمة في العيد بعد ما بقى الكيلو ب60 جنيه؟ ولا تاخدها ببلاش من ناس متعرفهمش وكرامتك برده محفوظة؟ ومعقولة ممكن تعيش عيد اللحمة من غير لحمة؟