"شوقي كان خليقاً بالنعمة التي عاش فيها من حيث هو رب بيت، ومن حيث هو وجيه قوم، وأنه جمع عبقرية العقل وعبقرية القلب؛ فكان كبيراً في أصغر دعاباته كما كان كبيراً في أسمى مبتدعاته". بهذه الكلمات الجامعة افتتح شاعر القطرين خليل مطران بك كتاب "أبي شوقي"، الذي أعادت طبعه حديثاً دار الشروق في ظلّ الاحتفالات بميلاد أمير الشعراء. كثيرة هي الكتب النقدية التي تناولت حياة أحمد شوقي بالتفصيل.. نشأته، حياته، شعره، تفاصيل حياته، كان مثار حديث الجميع، كيف لا وهو الشاعر الوحيد الذي نصبّه الشعراء أميراً عليهم ببيت حافظ إبراهيم الخالد: أمير القوافي قد أتيت مبايعاً .. وهذي وفود الشرق قد بايعت معي لكن أن يتحدث عن أحمد شوقي ابنه "حسين أحمد شوقي"، فسيكون الطرح بالتأكيد مختلفاً.. ثمة أمور لا يعرفها أحد سوى أهل بيت الشاعر؛ كيف كانت حياته، تصرفاته، معاملته لمن حوله. خاصةً أن الكاتب صاحب الأسلوب الأدبي البليغ كان صريحاً وجريئاً ووافياً لأبعد الحدود. الحديث عن مكان إقامة أمير الشعراء كان مهماً للغاية؛ حيث ذَكَر أنهم كانوا يقطنون قصراً بالمطرية، بإيعاز من الخديوي عباس؛ وذلك لعشقه الشديد ل"شوقي"، ورغبته في أن يظلّ قريباً منه.. هذا القصر الذي حوت حديقته ألواناً مختلفة من الحيوانات الأليفة وغير الأليفة! فكنت تجد بها غزلاناً وسلاحف وقردة وطواويس وببغاوات ومئات من العصافير الملونة. وعلاوة على ذلك عندما طلب "حسين" من أبيه تمساحاً.. لم يرفض "شوقي" ذلك الطلب، وأحضر تمساحاً صغيراً وضعه في حوض بناه له خصيصاً! هكذا كان أميراً في كل شيء؛ حبه لأبنائه، تهيئته لمنزله الكبير الذي حمل اسم "كرمة ابن هانئ"؛ وذلك من فرط حب أحمد شوقي للشاعر الكبير "أبو نواس"؛ الذي كان يراه مظلوماً في تاريخ الشعر العربي؛ حيث يضع الناس صورة له ماجنة وفاسقة. "كرمة ابن هانئ" كانت باستمرار مرتعاً لِكبار الأدباء ورجال السياسة والأجانب والأمراء؛ حيث يحضرون في ولائم يقيمها "الأمير" بقصره؛ حتى بعد أن انتقل بمنزله إلى الجيزة ليكون على مقربة من النيل رمز الخلود، لم يختلف هذا الوضع كثيراً. علاقة أحمد شوقي بالخديوي كانت عامرة إلى الحد الذي جعل الخديوي يحضر بنفسه حفل زفاف ابنة "شوقي"، التي كان يدلّلها بشدّة "أمينة"، وزوجة الخديوي جلست طويلاً مع السيدات، في إشارة بالغة لحجم العلاقة. لكن الكاتب ينحّي كونه ابن الشاعر جانباً، ويتحدّث عن أنانية والده.. رآه أنانياً حتى في علاقته بالخديوي الذي أغدق عليه كل معاني العطف والحب، وقابلها "شوقي" بكل معاني الهروب، وظهر ذلك جلياً عندما لم يرغب "شوقي" بأداء واجب الحج مع الخديوي؛ ولكن الخديوي أصرّ أن يصحبه معه، وأمام إصرار الخديوي لم يجد "شوقي" بُدّاً من السفر معه؛ ولكن عندما بلغ الركب الملكي بنها، هرب أحمد شوقي منه واختبأ عند أحد أصدقائه، ولما لامه أفندنينا فيما بعد؛ عوّض الشاعر الكبير هذا التقصير بقصيدة ترحيب وتهنئة عامرة الأبيات مطلعها: إلى عرفات الله يا ابن محمد ... عليك سلام الله في عرفات فلعب شعره دوراً في صفح الخديوي ورضاه عنه من جديد، صدق من قال إن الشعراء هم الأقرب لبلاط السلاطين. يستشهد الكاتب بشهادة خفية داخلية تحت جانب أنانية "شوقي" وهي والدته؛ السيدة الرقيقة المستسلمة تماماً، التي كانت من أهم أسباب بزوغ نجم "شوقي" وتوهّجه؛ حيث لم تتبرم يوماً أو تشكو من أمر ما؛ برغم أن الشاعر كان له بعض التصرفات الغريبة مثل: ألا يأكل أحد إلا عندما يقرصه الجوع؛ بغضّ النظر عن أهل البيت، يحضر الضيوف ويسهر معهم في أغلب الأحيان، ويأكل معهم ولا يأبه بها، ولا بحقوقها عليه؛ حتى عندما تمّ نفي "شوقي" لإسبانيا، وتعرّضا لبعض المشكلات المالية المتمثلة في عدم إرسال الأموال بانتظام من مصر، لم تشكُ الحال يوماً؛ بل كانت خير عون وسند ل"الأمير". في أحد أجزاء الكتاب يتحدث عن عشق "شوقي" لتركيا؛ لدرجة أنه اشترى منزلاً كبيراً هناك، وإيمانه بالخلافة الإسلامية، كما أن نظافة الشعب التركي ورُقِي أهله كان مثار إعجاب الكاتب ودهشته. كما تحدّث الكاتب في جزء كبير جداً من الكتاب باستفاضة عن نفيهم لإسبانيا، وعن سحر برشلونة، ومدريد وقصورها، وحياتهم هناك، وزيارتهم للعديد من المتاحف والأماكن التاريخية في الأندلس، واستيحاء "شوقي" لروايته "أميرة الأندلس".. عن زيارته لقصر الحمراء وبكائه هناك على غرناطة وأمجاد المسلمين الضائعة، ونسجه قصيدة طويلة منها: لم يرعني سوى ثرىً قرطبيّ .. لمست فيه عبرة الدهر خمسي يا وقى الله ما أصبّح منه .. وسقى صفوة الحيا ما أمسي وكذلك عندما ذهب "حسين" لفرنسا للدراسة كان "شوقي" يزوره أحياناً للاطمئنان على أحواله، ويحكي له باستمرار عن عشقه الباريسي، وذهابه الدائم للمسرح الفرنسي، ومعرفته بالشاعر الفرنسي الشهير "فرلين". كما أن دور أمير الشعراء في الحياة السياسية كان بارزاً؛ حيث كان قريباً للغاية من الزعيم مصطفى كامل، لدرجة أنه عندما اختار مصطفى كامل جملته الخالدة "لا يأس مع الحياة".. "شوقي" هو من أكملها "ولا حياة مع اليأس"، كما أن علاقته بزعيم الأمة سعد زغلول كانت متوطّدة؛ حتى إنه قد شغل منصب نائب بمجلس الشيوخ عن سيناء. من الأشياء التي قد تبدو جديدة وغير معروفة كذلك عن "شوقي" أنه كتب قصيدة عامية غنّاها محمد عبد الوهاب في فرح "علي أحمد شوقي" كان مطلعها: دار البشاير مجلسنا .. وليل زفافك مؤانسنا إن شاالله تفرح يا عريسنا .. وإن شاالله دايماً نفرح بك كما أنه قد كتب العديد من الخطب النثرية القوية، ومن الأشياء المدهشة أنه قد ترجم قصيدة للأمير "حيدر فاضل" من الفرنسية للعربية، ومطلع هذه القصيدة: عفيف الجهر والهمس .. قضى الواجب بالأمس ولم يعرض لذي حق .. بنقصان ولا بخس تناول الكاتب علاقة "شوقي" القريبة بكثيرين أمثال أمين بك الرافعي، شكيب أرسلان، بشارة الخوري، و"النشاشيبي". ومن الجدير بالذكر أن "شوقي" كان بوهيمياً رقيقاً أرستقراطياً يخشى الموت. رحل أحمد بك شوقي في 13 أكتوبر من عام 1932 على عكس ما يذكر البعض بأنه توفي في ديسمبر.. مات في يوم كان فيه بكامل صحته وعافيته، وترك عالم الأحياء بجسده؛ لكنه خُلّد بما يربو على ثلاثين ألفاً من أبيات الشعر نصبّته أميراً، ووضعته في مكانة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. دُفن وكتب أولاده على قبره -بتوصية منه- بيتين من قصيدته نهج البردة في مدح الرسول: يا أحمد الخير لي جاه بتسميتي ... وكيف لا يتسامى بالرسول سمي إن جلّ ذنبي عن الغفران لي أملٌ .. في الله يجعلني في خير معتصم