تشتهر مدينة "ميت غمر" بمحافظة الدقهلية بأنها معقل صناعة الألومنيوم في دلتا مصر؛ فهي تضمّ أكثر من 70 مسبكا لصهر ودرفلة المواد الخام و800 ورشة لتشكيل هذا المعدن وإنتاج أدوات المائدة، وإنتاجها يصل إلى 50 ألف طن سنويا في صورة أدوات طهي ومائدة، يتم توزيعها على معظم أنحاء الجمهورية، ويعمل بهذا المجال أكثر من 40 ألف عامل. وكالعادة.. فالعشوائية تُحاصر هذه الصناعة، وذلك في ظل غياب الرقابة، فمن بين 70 مسبكا يوجد 6 منها فقط تحمل ترخيصا، كما تعمل 600 ورشة من بين ال800 ورشة بدون أي سجلات رسمية، ولذلك فهي تنتشر وسط الكتل السكنية بشكل كبير، وتُقام على مساحات واسعة، فمساحة المسبك أو الورشة الواحدة تتجاوز 300 متر مربع. ولأنها صناعة مُربحة فإن أصحابها لا يهتمّون بأي محاضر تُحرّر ضدّهم من إدارات البيئة أو الأمن الصناعي، علاوة على استخدامهم لمواد خام في صناعتهم عبارة عن خردة رديئة، والتي تخرج بعد صهرها في صورة منتجات غاية في الخطورة على صحة من يستخدمها. المنزل تحوّل إلى كتلة لهب بسبب المسبك انتقلت إلى "ميت غمر" لرصد المشكلة، وفي البداية التقيت مع الأهالي والذي عبر عن مُعاناتهم "محمد عبد المقصود" الذي يشتكي هو وسكان العقار الذي يقيم به من المسبك الذي يشغل الدور الأرضي، وقال: "قام صاحب المنزل قبل 5 سنوات بتحويل الجراج إلى مسبك لصهر الألومنيوم؛ والذي يضم فرن نار، ليتحول العقار إلى كتلة من اللهب تهدّد بانفجار المنزل في أي وقت، ونعاني بشكل مستمر الضوضاء التي تصدر عنه، علاوة على رائحة المازوتّ الكريهة وعشرات السيارات التي تنقل الخردة والمنتجات من وإلى المسبك، والتي تغلق الشارع ومدخل المنزل، وقد تقدّمنا بالعديد من الشكاوى للمسئولين ولكن دون جدوى". صعوبة الحصول على الترخيص تدفع أصحاب الصناعة إلى عدم التطوير الروتين دفع أصحاب الصناعة للعمل العشوائي توجّهت إلى أصحاب الصناعة الذين أكّدوا أن المشاكل تحاصرهم، وتجبرهم على العمل بدون ترخيص، فأوضح "إبراهيم السباعي" -صاحب مسبك- أن التعقيدات الروتينية في الحصول على الترخيص دفعتهم إلى العمل بشكل عشوائي؛ فالحصول على الرخصة يتطلب عدة موافقات، بداية من إدارة البيئة حتى الزراعة مرورا بالأمن الصناعي وإدارة الكهرباء، وكل جهة من هذه الجهات تتضارب اشتراطاتها مع الجهة الأخرى. وأشار إلى أن صعوبة الحصول على الترخيص تدفع أصحاب الصناعة أيضا إلى عدم التطوير، أو شراء ماكينات حديثة تضمن تنقية المادة الخام للألومنيوم من الشوائب، والتي يتمّ تجميعها من تجار "الروبابيكيا"، ومن مخلّفات المصانع. وأضاف: "صاحب المسبك لا يجد أمامه سوى استخدام مولّدات الكهرباء -بكل الضوضاء التي تسبّبها- أو القيام بسرقة تيار كهربائي من أعمدة الإنارة، كما أن محاضر البيئة والأمن الصناعي تحرّر دون معاينة على أرض الواقع، وبعض أصحاب الورش والمسابك يضطرون للعمل ليلا، وأثناء النهار يحوّلونها إلى حظائر للمواشي، كنوع من التمويه على المسئولين؛ فالمحضر الواحد تتجاوز غرامته 3 آلاف جنيه". التعسّف في فرض الغرامات "طلعت الشاعر" -صاحب مسبك- قال: "تكلفة إنشاء المسبك قد تصل إلى مليون جنيه، وبعضها يضمّ ورشا لتشكيل المعدن في نفس المكان، والبعض الآخر يكتفي بالصهر والدرفلة لإنتاج السبائك، وبيعها للورش التي تقوم بتشكيلها إلى أوانٍ وأدوات مائدة". أصحاب المسابك لا يهتمّون بالتأمين على العمال وأوضح أن الجهات المسئولة تتعسّف معهم بدلاً من تقديم المساعدات، وتكتفي بتحرير المحاضر؛ فخلال شهر واحد تمّ تحرير 16 محضر بيئة ضده، ورغم ذلك فهو ملتزم بدفع الضرائب التي تصل قيمتها إلى 25 ألف جنيه سنويا، ولذلك لا يهتمّ بعمل تأمينات للعمال؛ لأن الأمر مكلّف جدا وسوف يعود عليه بالخسارة. وأضاف: "بسبب غياب خطط التسويق فإن إنتاجنا يقتصر على السوق المحلّي، وندرة العمالة الماهرة، وغياب تدريبها جعل أجر العامل يصل إلى 1500 جنيه شهريا، ولذلك نلجأ إلى استخدام الأطفال في العمل بالمسابك؛ لأنهم عمالة رخيصة رغم المخاطر التي يتعرّضون لها". الحلّ في الغاز الطبيعي وقال "جمال العايدي"، صاحب مسبك وعضو اتحاد الصناعات: "إن أكبر مشكلة تواجه صناعة الألومنيوم في "ميت غمر" تتمثّل في عدم توصيل الغاز الطبيعي للمسابك، مما يُعرّض العاملين لخطر انفجار الأنابيب التي تكون ملاصقة لأفران الصهر، ومن ناحية أخرى يوفّر الغاز الطبيعي أموالا كثيرة تُنفق على شراء الأنابيب التي نعاني ندرتها في السوق في أوقات كثيرة، ويضطر صاحب المسبك إلى استخدام "المازوتّ والسولار" التي تضرّ بجودة المنتج النهائي". أصحاب المسابك لا يهتمّون بالتأمين على العمال وفي أحد المسابك وجدت "عبد السلام محمد" أحد العمال والذي أصيب بعدة حروق في جسده، وأشار إلى أنه نظرا لعدم توفّر ملابس وقاية، أو أي حماية للعامل خاصة للعاملين أمام الفرن فقد أصيب بالحروق، وهو يعمل أمامه بعد سقوط "البوتاس" والألومنيوم المنصهر على جسده، ولم يحصل على أي تعويض؛ لأن صاحب المصنع لا يهتمّ بالتأمين على العمال، ولأنه لم يجد أي عمل آخر، فقد تحامل على نفسه، وعاد إلى العمل من أجل توفير نفقات أسرته. المشاجرات لا تنقطع مع السكان بسبب الضوضاء التي تسبّبها الورش الورش تنتشر بشارعي الإسماعيلية والمنشاوي أما بالنسبة لورش تشكيل المعادن فهي تحتلّ شوارع بأكملها في "ميت غمر" مثل شارعي الإسماعيلية والمنشاوي المزدحمين بالسكان، وداخل إحدى الورش التقيت مع "سعيد منصور"، الذي أكد أنه قام بتغيير نشاط المحل الذي يمتلكه من "البقالة" إلى ورشة تشكيل معادن؛ لأنها صناعة وتجارة مُربحة، ولم يحاول الحصول على ترخيص، واكتفى بُرخصة محل "البقالة" رغم تغيير النشاط، مشيراً إلى أن معظم الورش تعمل بشكل عشوائي دون وجود أي جهة تحكم عملها أو تساعد في تسويق منتجاتها، والمشاجرات لا تنقطع مع السكان؛ بسبب الضوضاء التي تسبّبها الورش. 150 محضر بيئة خلال عام الدكتور "صديق عزت" -مفتش البيئة بميت غمر- كشف أنه تمّ تحرير أكثر من 150 محضر بيئة خلال العام الماضي سواء للمسابك المُرخّصة أو غير المُرخّصة، والتي ينتج عنها كل أنواع التلوث. وأكد على وجود عدة اشتراطات يجب توافرها في المسبك؛ منها أن تكون الأفران مُغلقة، وأن تكون بها مداخن لا يقل ارتفاعها عن عشرة أمتار، وتنقية الألومنيوم المنصهر بمواد تجعله مناسبا للاستخدام الآدمي، وضرورة إدخال وحدة غاز ثابتة بالمسبك وإبعادها عن الأفران حتى لا تشكّل خطورة على المحيطين بها، وكذلك ضرورة توفير مهمات وملابس الوقاية للعمال. الأنواع الرديئة من الألومنيوم تعرّض المواطنين لخطر الإصابة بالأمراض السرطانية وأضاف: "المشكلة أن معظم المسابك والورش الموجودة وسط الكتل السكنية تخرج منها انبعاثات وأدخنة ضارة؛ لأن أصحابها يستخدمون زيتا رديئا مستخدما من قبل كوقود، علاوة على استخدام أنواع من خردة الألومنيوم الضارة وغير المطابقة للمواصفات، واستخدامها في صناعة أدوات المائدة التي تعرّض صحة المواطنين لخطر الإصابة بالأمراض السرطانية. واستطرد "محمد خليفة" -مدير إدارة الأمن الصناعي بميت غمر- قائلاً إنه منذ بداية هذا العام وحتى الآن تمّ تحرير 40 محضرا ضد المسابك و350 ضد الورش؛ لمخالفتها لاشتراطات الأمن الصناعي، وعملها بدون تراخيص رغم وجودها وسط الكتل السكنية. الصناعة نشاط اقتصادي لا يختلف عليه اثنان، ولكن يجب أن تُذلّل أمامه العقبات ليتمّ الاستفادة منه بشكل جيد؛ فمدينة مثل "ميت غمر" مُهيأة لأن تكون مركزاً صناعياً لمنتجات مهمة -وهي أدوات المائدة المصنوعة من الألومنيوم- إذا تمّ تقنين أوضاع مسابك وورش هذه الصناعة؛ بتسهيل إجراءات التراخيص، وتخصيص منطقة صناعية بعيدة عن الكتلة السكنية حفاظا على صحة الأهالي.