يمثّل الموقف الذي أعلنه -قبل أيام- الإسلامي الليبي "نعمان بن عثمان"، في رسالة إلى "رفيق السلاح" أسامة بن لادن، دعا فيها تنظيم القاعدة إلى وقف عملياته المسلحة في أنحاء العالم؛ يمثل خطوة جديدة في "الجهاد" الذي يقوم به هذا القيادي السابق في الجماعة الإسلامية المقاتلة. جهاد "بن عثمان" اليوم يبدو مُنصبًّا على الرد على ما يعتبره انحرافاً في فهم تنظيم بن لادن لمبادئ الإسلام؛ إذ يرى عملياته سبباً أساسياً في تشويه صورة الدين الإسلامي؛ على الرغم من أن "القاعدة" تعتبر ما تقوم به دفاعاً عن هذا الدين. "بن عثمان" -أو كما يُعرف في أفغانستان "أبو محمد الليبي"- ليس غريباً عن الموضوع الذي يتكلم عنه؛ فهو مجاهد سابق في أفغانستان، التحق منذ نهاية الثمانينيات بالحرب ضد الحكومة الشيوعية في كابل وداعميها من الاتحاد السوفياتي آنذاك.. وهناك انضمّ إلى الجماعة المقاتلة حديثة النشأة، التي أسسها أفغان ليبيون لمقاتلة حُكم العقيد معمر القذافي، وإنشاء دولة تحكم بالشريعة الإسلامية مكانه. وفي إطار عمله، كان "بن عثمان" على علاقة وثيقة بقادة "القاعدة" خلال وجودهم في السودان في التسعينيات، وبعد انتقالهم إلى أفغانستان عام 1996، بعدما طلبت منهم الخرطوم الرحيل. الجهاد الذي خاضه "بن عثمان" ضد الحكم الليبي بين 1995 و1998 سرعان ما انهار، واضطرت الجماعة إلى التدفق إلى أفغانستان؛ حيث كان بن لادن يحاول أن يستقطب إلى جانبه بقية فصائل الجهاديين الناشطين هناك، كي ينضمّوا إليه في حربه ضد ما يسميهم "اليهود والصليبيين"، كما تجلّى في تأسيسه الجبهة الإسلامية العالمية عام 1998. لكن "بن عثمان" وقادة تنظيمه كانوا من معارضي الانضمام إلى بن لادن في مثل هذا المشروع "العالمي" لقتال الولاياتالمتحدة؛ ليس حباً في السياسة الأميركية؛ ولكن لأنهم رأوا مثل هذه الحرب عبثية تجرّ المصائب عليهم وعلى حكم حركة طالبان، التي كانت تستضيفهم جميعاً ("القاعدة" وبقية الفصائل "الجهادية العربية"). وكما قال "بن عثمان" في حوارات سابقة؛ فقد كان هو معارضاً أساسياً للحرب التي يخطط بن لادن لشنّها ضد الولاياتالمتحدة، وأكّد أنه قال هذا الكلام ل"بن لادن" شخصياً في منزله في قندهار في صيف عام 2000. لكن بن لادن لم يستمع لا ل"بن عثمان" ولا لكثيرين غيره من الجهاديين في أفغانستان، وشنّ "غزوته" ضد الولاياتالمتحدة في 11 سبتمبر 2001. والذي حصل منذ ذلك الوقت -بحسب ما نقله "بن عثمان"- يؤكد مدى خطأ بن لادن في شنّ مثل هذا الجهاد العالمي؛ فحكومة "طالبان" التي كان الجهاديون يحكمون في ظلّها قد انهارت بفعل الردّ الأميركي. كما أن بن لادن -بحسب ما نقله "بن عثمان"- خالف في ذلك تعليمات زعيم حركة طالبان "الملا عمر"، في شأن عدم مهاجمة الولاياتالمتحدة انطلاقاً من أفغانستان.. وهذا الزعم بالغ الأهمية كونه -إذا صح- يؤكد أن بن لادن خالف البيعة التي أعلنها لل"ملا عمر" على السمع والطاعة؛ إلا إذا كان الأخير يعرف من زعيم "القاعدة" طبيعة خططه لشنّ "غزوة نيويورك وواشطن" ووافق عليها سراً، وهو أمر ليس من الممكن تأكيده أو نفيه إلا إذا علّق عليه طرفاه ("الملا عمر" وبن لادن). ويقول "بن عثمان" في هذا الإطار: "إنك -يا بن لادن- لم تدّخر جهداً في تجاوز "الملا عمر" والضرب بتعليماته عرض الحائط، وقررت تجاهل أوامره بوقف استفزاز الولاياتالمتحدة الأميركية؛ مما قد يترتب عليه ذلك من عواقب وخيمة على أفغانستان.. كيف يمكن التوفيق بين قولكم بأنكم تجاهدون لإقامة ما تسمونه بالدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه تتمّ معصية ولي الأمر في تلك الدولة التي بايعها تنظيم القاعدة كولاية شرعية؟ تفتئتون على أهم خصائصها وهي صلاحية إعلان الحرب والسلم؛ مما أدى إلى سقوط دولة "طالبان". وسمّى الإسلامي الليبي قادة في "القاعدة" كانوا معارضين لشنّ عمليات خارج أفغانستان مثل مسئول اللجنة الشرعية "أبو حفص الموريتاني" (قُتل بغارة جوية في باكستان)، ومسئول اللجنة الأمنية "أبو محمد الزيات" (يُعتقد أنه في إيران حالياً). إلا أن تحميل أفغانستان مسئولية ما تقوم به "القاعدة" ليس هو فقط ما يثير حنق "بن عثمان"؛ بل ما يثيره أكثر من أي شيء آخر هو أن "القاعدة" وفروعها المنتشرة حول العالم تبدو كأنها تخوض حروباً عبثية لا تجرّ سوى المصائب على المسلمين. فقد أثارت عمليات هذه الجماعات الخوف في أوساط الشعوب المسلمة التي صارت تخشى في أي لحظة أن يقوم ناشطون مؤيدون للقاعدة بتفجير أنفسهم في أماكن عامة؛ بحجة أن المستهدفين هم من "المرتدون" أو "الكفّار"، كما حصل في دول عربية عديدة. كما أن تصرفات فروع "القاعدة" - كفرع "بلاد الرافدين" بقيادة أميرها الراحل "أبو مصعب الزرقاوي"- تدلّ أيضاً -في نظر "بن عثمان"- على شكل النظام الإسلامي، الذي ينوي هذا التنظيم تأسيسه. وإذا ما قورن هذا النظام بالأنظمة الديكتاتورية "المرتدّة" التي تزعم "القاعدة" أنها تريد إطاحتها؛ فإن غالبية من المسلمين ستفضّل -بلا شك- أن تبقى محكومة على يد ديكتاتور من أن يحكمها أشخاص دمويون كقادة "القاعدة" في العراق مثلاً. وإضافة إلى ذلك، يرى "بن عثمان" أن صورة الإسلام في الغرب عموماً باتت مشوّهة بسبب تصرفات "القاعدة"؛ إذ إن المسلمين بات يُنظر إليهم -خصوصاً من بعض الأوساط اليمينية- بوصفهم تهديداً إرهابياً، كما أن كثيراً من الدول الغربية صارت تتخذ إجراءات يراها المسلمون تستهدفهم، وهي إجراءات ربما كانت حكومات الغرب ما فكّرت فيها لولا تصرفات "القاعدة". ويؤكد "بن عثمان" في هذا المجال، أن مواقف بن لادن وتنظيمه لا تمثّل المسلمين في الغرب، كما أنها لا تمثّل المسلمين في العالم العربي. وهو يراهن على أن انتقاداته لتصرفات "القاعدة" يشاركه فيها كثيرون؛ حتى من قادة الجهاديين، في إشارة إلى "المراجعات" التي قام بها سيل كبير من قادة الجماعات الجهادية، الذين أعلنوا خلال السنوات الماضية وقوفهم ضد الغلوّ في تفسير المفاهيم الجهادية على يد "القاعدة" وبعض فروعها. ولذلك؛ فإن "بن عثمان" يأمل أن تدعو رسالته إلى بن لادن، قادة "القاعدة" إلى إعادة التفكير في تصرفاتهم، علّهم يصلون إلى اقتناع بأنهم لا يمثّلون الشريحة الأكبر من المسلمين؛ بل على العكس من ذلك؛ فإن الشريحة الأكبر من المسلمين تنبذ أفعالهم. هذا على الأقل ما يأمل به "بن عثمان" الذي يجاهر اليوم بالقول: إن "العنف المسلح قد وصل إلى نهايته". فهل يشاركه في هذا الرأي "رفاق السلاح" السابقون في "القاعدة"؟ ربما سيكون جوابهم سلبياً؛ لكن "بن عثمان" يأمل بأن يقرأ هؤلاء -بمن فيهم بن لادن- رسالته؛ علّهم يعيدون التفكير في نتائج أفعالهم. عن موقع الشرفة