في المقال السابق تعرفنا على عدة مفاتيح يمكن على ضوئها تفسير أحداث 11 سبتمبر فتكلمنا عن: 1- لماذا تم استهداف برجي مركز التجارة العالمي؟ 2- لماذا استُخدِمَت تقنية الهجوم بالطائرات؟ 3- ماذا عن الضحايا المدنيين؟ والآن دعونا ننطلق لإجابة بقية الأسئلة التي أثرناها في المقال السابق السؤال الرابع: ذلك التوقيت.. لماذا؟ الحقيقة أن مسألة التوقيت هذه محيّرة، فمن ناحية قد لا تعني شيئًا، ومن ناحية أخرى قد تعني الكثير، سواء ماديًا أو معنويًا، ولكن من منطَلَق أن عملية احترافية بهذه القوة تعني أن كل شيء -غالبًا- كان محسوبًا بدقّة، أعتقد أن علينا أن نفترض أن التوقيت كان محسوبًا بدوره، سواء من حيث اليوم والساعة أو من حيث الظروف.. ولكني أنبّه القارئ أن هذه مجرد تكهّنات أكثر من كونها تحليلات، حيث إن المعطيات في ذلك الشِق بالذات تكاد تكون معدومة، ولكن بعض التفكير لن يضر أحدًا. فلننظر أولاً للفترة التي وقعت فيها الهجمات، وهي تقريبا الشهر الثامن من الولاية الأولى لجورج دبليو بوش، دعونا نتساءل: لماذا تلك الفترة بالذات؟ المسألة تبدو غريبة، فالإدارة الجديدة كانت تبحث لنفسها عن حرب تخوضها أسوة بكل رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية، وتلك الهجمات جاءت بمثابة الفرصة السانحة للإدارة المتعطشة لمجد شخصي يرفع أسهمها لدى الناخب الأمريكي (مما يعيد طرح نظرية المؤامرة من جديد)، السؤال الآن: هل كانت الإدارة الأمريكية آنذاك تعلم بأمر الحادث، بل وربما تطلبه وتسعى إليه؟ إن مجرد التفكير في ذلك يكاد يبدو خياليًا، ولكن حقيقة أن أمريكا تعتبر أحد أهم صانعي تنظيم القاعدة، وما يعنيه ذلك من وجود اتصالات -ولو سابقة- بينها وبين التنظيم في صورته "المارقة" على القانون، يجعل الرأس يدور.. على أية حال يبقى هذا لغزًا من ألغاز السياسة الأمريكية، وهي ليست بالقليلة!. أما لو أبعدنا يد الإدارة الأمريكية عن الصورة تمامًا، فسنجد أنفسنا أيضًا أمام السؤال نفسه: لماذا وقع هذا الهجوم في بداية فترة بوش الابن؟ الحقيقة أن علم النفس الإجرامي يقدّم لنا الإجابة، وهي أن الفكر الإرهابي قد يهدف من العمل أحيانًا استفزاز الخصم وجرّه لحرب تعيد تسليط الضوء على القضية التي يمارس لأجلها الإرهابي إرهابه، وكذلك لجذب نظر الرأي العام -المحلي والعالمي- للتباين الكبير بين الإمكانات البسيطة عادة للإرهابي في مواجهة الإمكانات الضخمة للخصم الذي عادة ما يكون دولة أو تحالفًا دوليًا. بمعنى أدق، هي محاولة لاستفزاز العملاق ليغضب ويستخدم أعتى مظاهر قوته في محاولة لاصطياد خصم يقلّ عنه حجمًا وقوة، مما يجعل صورة هذا العملاق كاريكاتورية، خاصة لو فشل في القضاء على خصمه الأضعف منه! وهذا ما حدث بالفعل!، والحقيقة أن إدارة بوش اليمينية التي يسيطر عليها فكر "صقور الإدارة الأمريكية" و"المؤسسة العسكرية العتيدة"، كانت الهدف المثالي المراد استفزازه ليتحقق هذا الغرض الإعلامي. ولو أضفنا لذلك العنصر الديني، والذي يتضمن إيمان المحارب باسم العقيدة بفكرة "الحرب الأخيرة بين الحق والباطل" أو "أمّ المعارك" أو "حرب آخر الزمان" لوجدنا أن في مصلحة هذا المحارب -من وجهة نظره- الإسراع بإشعال تلك الحرب؛ لتسريع حركة سير التاريخ، وخلق "الملحمة الأخيرة" التي تتضمنها نبوءات آخر الزمان وعلامات الساعة.. خاصة مع قوة اعتقاد الكثير من البسطاء بقرب نهاية العالم. ولأن تلك النبوءة تتحدث عن حرب بين الإسلام وأعدائه، فإن من يعتبرون أنفسهم آخر المجاهدين لن يروا لأنفسهم خصمًا خيرًا من إدارة متطرفة دينيًا كإدارة بوش الابن.. ليكملوا الصورة التي تُظهر الأمر على أنه حرب صليبية أخيرة. أما عن التوقيت من حيث اليوم؛ فالحقيقة أني حاولت أن أنظر في دلالات 11 سبتمبر، حتى أني بحثتُ في الأحداث التي جرت في مثل هذا اليوم، فوجدتُ فيها من المناسبات المرتبطة بالتاريخ الإسلامي ذكرى فتح مكة، وذكرى أسر عمر المختار على يد الاحتلال الإيطالي لليبيا.. ولكن للأمانة لم أجد في ذلك دلالة قوية للأمر، فضلاً عن أني أعتقد أن القاعدة لن تميل لاستخدام التقويم الميلادي لدلالة معينة، وستفضّل غالبًا استخدام التقويم الهجري، هذا إن كانت لليوم أية دلالات معنوية. والغالب أنه كان يومًا مناسبًا من حيث توافق مواعيد رحلات الطائرات المراد اختطافها والمراقبة الجوية. بقيت ساعة الهجوم، وهي ترتبط غالبًا بالعامل سالف الذكر -مواعيد الرحلات الملائمة- فضلاً لعنصرين آخرين؛ الأول هو ضمان وجود أكبر عدد ممكن من المواطنين في المركز التجاري، وثانيًا لأن التوقيت كان مثاليًا من الناحية الإعلامية، فهو بداية اليوم والنشاط بتوقيت أمريكا، ونهاية اليوم والوقت المعتاد لمتابعة المواطن العربي للتليفزيون بالتوقيتات الجغرافية للدول العربية، ومنتصف اليوم بالنسبة لجزء كبير من أوروبا، أي أن العالم كله تقريبا كان -بشكل أو بآخر- مستيقظًا ومستعدًا حتى يحقق الحدث أكبر "متابعة إعلامية" له على مستوى العالم. من يدري ربما تكون هذه مجرد تكهّنات مخطئة، ولكن دعونا لا ننكر أن الأمر يستحق التفكير. السؤال الخامس: هجمات 11 سبتمبر.. لماذا؟ محاولة تفسير الفعل الإرهابي ليست بالمهمة اليسيرة، خاصة أنها تتطلب من المحلل أن يضع نفسه موضع الفاعل الإرهابي، ويتقمص شخصيته بشكل كامل، وهذا بالتأكيد يحتاج لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عنه، فضلاً عن التأكد من الأساس من أنه هو الفاعل وليس غيره!. وما دمنا نحلل الأمر على أساس الافتراض بحقيقة مسئولية القاعدة بقيادة أسامة بن لادن عن تلك الهجمات، فسأحاول تفسير الأمر من هذا المنطلق. يقول لورانس رايت في كتابه "البروج المشيدة" إن بن لادن كان يهدف من الهجوم على أهدافه الثلاث (مركز التجارة/ تدمير كامل - البنتاجون/ تدمير جزئي - البيت الأبيض/ فشل الهجوم) إلى ضرب الرابط بين عناصر الدولة الأمريكية (اقتصادي - عسكري - سياسي)، وبالتالي إحداث حالة فراغ إداري يؤدي إلى تفكك فيدرالية الولاياتالمتحدة وتحوّلها لدولة فاشلة. والحقيقة أني اختلف مع هذا الرأي -مع احترامي لصاحبه- أولاً لأن بن لادن وإن كان مجرمًا إرهابيًا إلا أنه ليس بالغبي الساذج ليفكر بهذا الشكل الطفولي، وثانيًا لأن ثمة تفسيرًا أكثر منطقية وعلمية يقدّمه لنا الدكتور "ماجد موريس" في كتابه "الإرهاب.. الظاهرة وأبعادها النفسية" عندما يقول إن الإرهابي صاحب العقيدة عندما يخطّط لتوجيه ضربة قاسية لخصمه فإنه لا يهدف إلى النصر السريع بإسقاطه -لإدراكه استحالة ذلك- وإنما يخطط للضربة كجزء من سلسلة ضربات تضعف الخصم رويدًا رويدًا حتى يسقط بالتدريج، خاصة أن معظم الإرهابيين من هذا النوع يجدون في غياب الخصم خطرًا على "شعبيتهم" أكبر من وجوده، فهذا الوجود هو مبرر ممارستهم "الجهاد" من أجل خدمة "القضية".. وهذا التفسير أجده منطقيًا؛ فشخصية كشخصية بن لادن لها ميول ملحمية وشعور بأنها تحمل "رسالة للبشرية"، وأنها مكلفة ب"مهمة مقدّسة" يكون الهدف من أفعال صاحبها إحداث تحرّك في مياه الأحداث الراكدة؛ من أجل البروز على السطح أمام الأضواء من جديد، وبالتالي بروز القضية التي يدافع عنها، وضخامة الهدف وصعوبته لم تكن إلا عملية من عمليات الحرب "الاستنزافية" ضد الخصم، بتوجيه ضربة ضارة له، وكذلك عملية استعراضية تُظهِر الخصم غير أهل لحماية أمنه الخاص، وبالتالي تُفقِده مصداقيته فيما يزعم من لعبه الدور الرئيسي في حماية السلام العالمي. الختام: حدث جلل كهجمات الحادي عشر من سبتمبر، يحتاج بالتأكيد لما هو أكثر من مقال أو اثنين.. ولكني حاولت أن أقدّم تحليلاً مختصرًا بسيطًا، لا أريد منه تقديم إجابات بل مجرد تحريك العقل واستفزاز القارئ ليبحث بدوره عن تحليلات أخرى.. قد تختلف مع تحليلي أو تتفق معه -كليًا أو جزئيًا- ولكنها في كل الأحوال ستكون جهودًا تُحتَرَم تنقل صاحبها من خانة "المتلقي للخبر فحسب" إلى خانة "المتفاعل مع الأحداث".. وسواء أصاب أو أخطأ.. مجرد المحاولة إضافة جيدة لذهنه وخبرته. والآن دعنا نُلقي نظرة على تسجيل لمكالمة مع أحد الضحايا بالبرج قبل انهياره بدقائق، والمكالمة انتهت فجأة بسقوط البرج ودفن صاحبها تحت أنقاضه، على هذه الوصلة..
و
للغوص في محاولة بسيطة للتحليل والفهم هجمات سبتمبر.. اضغط هنا