منذ صغري وأنا أعاني تشوّهاً في حرف الراء لديّ! وهو ما يُعرف باللثغة؛ فعند نطقي لحرف الراء أجد في كل مرة نطقاً مختلفاً له، إما يتحول لخليط من الراء الصحيحة وحرف آخر جديد على الأبجدية أو يتحول إلى غين!، في صغري قبل الدراسة لم أكن أشعر أن هناك فارقاً ما بيني وبين الأطفال الآخرين؛ لذلك لم أُعِر الأمر انتباها. أتذكر أن والدتي كانت تحاول جعلي أنطق بشكل صحيح وهي تردّده أمامي لأدرك مخارجه، فكنت أظنها لعبة، وأضحك عندما أرى حركة اللسان السريعة بين الفكين فكنت أظنها تلاعبني! بعد دخولي المدرسة اختلف الأمر قليلا؛ اكتشفت أني أنطق الراء بطرق وليس بطريقة واحدة! وأن الغالبية يفعلون ما كانت والدتي تفعل من نفس حركة اللسان السريعة تلك! وأيقنت حينها أن الأمر لم يكن مزحة إذن!، الأكثر سخرية أن اسمي يحمل في وسطه حرف الراء كأوضح ما يكون! وهو ما كان يفتح الباب أمام تندّر الكثير من الصديقات في صغري؛ فما إن تسألني إحدى المعلمات عن اسمي حتى أنطلق في الرد عليها بكل الطرق التي أدركها عن هذا الحرف عدا نطقه الصحيح! وينطلق اسمي بخليط غريب من الراء الأصلية مع اللام لا يوصف بالكلمات إنما يُسمع فقط! وبحكم أني كنت في مدرسة فرنسية لم يكن الأمر يشكّل أهمية كبرى لي إلا في مادة اللغة العربية؛ فالفرنسية لا تعرف حرف الراء كما نعرفه، بل ينطقه الفرنسيون غيناً، وهو ما يُعرف ب"اللهجة الباريسية" حيث طريقة حديث أهل المدن في فرنسا، لكن ما زالت الراء كما هي في بعض مناطق فرنسا التي تُعرف بالضواحي؛ لذلك كانت الفرصة سانحة كي أقوم بإخفاء تلك اللثغة في حرف الغين الفرنسي! ولعل هذا ما ساعد في تشوّه حرف الراء أكثر لديّ وعجزي عن إصلاحه حتى يومنا هذا! فالآن صار خليطاً غريباً من الراء واللام والغين معاً!
لم يكن يثيرني الأمر ولم أكن ألاحظه كثيراً في صغري؛ فقط موقف واحد شعرت فيه بالضيق في سن الحضانة حيث كانت الصديقات يلعبن لعبة اسمها "ترررن ترررن"! وهي أن تقوم بإصدار صوت الجرس هذا، فيفتحن لك الباب لتسأل بعض الأسئلة، وكنت لا ألعبها؛ لأنه لا بد من البدء بصوت الجرس هذا وإلا فلن تبدأ اللعبة!، وهكذا كنت أشعر بالحرج فكنت أترفّع عنها وألعب "الاستغماية"؛ ف"خلاويص" لا يوجد بها حرف الراء!!
لكن أخذ الأمر يزداد حدة مع ازدياد سنوات عمري ورحيلي عن المدرسة، فأحيانا تفلت مني عن غير قصد بعض الكلمات بالراء حيث أنطقها بالغين الفرنسية، ويحسبه الناس ترفعاً وتعالياً؛ ورغم محاولاتي ضبط الأمر فإني عجزت عن السيطرة عليها خاصة حين يصدر الحديث عفوياً وهو ما يشكل نسبة 90% من حديثي! أجدني في غمرة حماستي أنطق بعض الكلمات التي بها حرف الراء بالغين فأقول "مسطغة" و"النهاغدة"! وأنتبه حين ألحظ امتعاض مَن أمامي فأعيد نفس الكلمات بالحرف الأصلي الخاص بي، وهو ما يزيد الأمر سوءاً! وهنا أكف عن المحاولة وأترك الكلمات تخرج كيفما أراد ذلك الحرف المراوغ! وفي أحد الأيام بينما كنت مندمجة في حوار أتت كلمة تحمل حرفي راء في آن واحد! وكان الأمر مضحكاً للغاية، فلم يفهم أحد ما أقول للوهلة الأولى إلا بعد ترديدي للكلمة مرات عديدة! بل وأخذوا يلحّون عليّ أن أردد كلمات أخرى بها راء كي يسمعوا طريقة نطقي الفريد له! وبعد عودتي للمنزل انتابني الحماس وقررت أني سأعمل على إصلاح الأمر بشتى الطرق، فكنت أجلس أمام المرآة أقلّد الحركة التي كانت والدتي تقوم بها في نطقه بمفرده كصوت جرس. بدأت محاولات مستميتة ومضحكة شبيهة بتعليم لغة صينية لرجل مكسيكي!، جذبت تلك الأصوات الغامضة المخيفة أحياناً أبي ليراني أمام المرآة أقوم بتلك التدريبات الصوتية كأخرس يحاول النطق! ابتسم طويلاً ولم يعلّق، ثم حذرني من عدم إطالة النظر للمرآة مشيراً بحركة سريعة إلى رأسي! وهو ما بدأت أصدقه بالفعل؛ فكدت أفقد عقلي حقاً لعجزي عن إصلاح ذلك الحرف الصغير. نجحت في إصدار ذلك الصوت كالجرس عندما أنطقه منفرداً، لكن عندما أدخله في إحدى الكلمات يعود لسيرته الأولى!، وفي نهاية الأمر كدت أفقد شعر رأسي وليس نطقي للحرف فقط بعد شدّي المستمر له!. الغريب أن معظم أسماء أفراد العائلة تحمل حرف الراء؛ فاسمي واسم والدتي واسم أختي وابنتها جميعاً يحملون حرف الراء في أوله أو وسطه! وكأنها مؤامرة من هذا الحرف؛ أن يملأ عالمي من كافة الاتجاهات؛ ليخرج لي لسانه بنفس الحركة السريعة ذات الجرس التي يجيدها الجميع ما عداي!، وأدركت أنه يجب أن أرفع الراية البيضاء أمامه لأعلن استسلامي، ولم أعدْ أعير الأمر اهتماماً فليتحول لغين أو للام ممتزجة براء أو حاء حتى، لا يهم!، ما دمت لن ألعب لعبة "ترررن ترررن" أبدا مع أبنائي في المستقبل!