بالأمس بدأنا رحلة بحث في كتب الفقه والحديث حول موقف الإسلام من المرتد، ومن هو المرتد أصلا، ولماذا اختلفت الآراء الفقهية حول ما إذا كان هناك عقاب دنيوي للمرتد عن الدين الإسلامي أم لا؟، وعرضنا لموقف الشيخ يوسف القرضاوي من القضية وجزء من رأي الدكتور محمد سليم العوا كصاحب وجهة نظر مختلفة في القضية، تعبّر عن مدرسة فقهية أخرى، وسنكمل اليوم وغدا مع الدكتور سليم العوا والشيخ المرحوم محمود شلتوت والشيخ جمال البنا، ولكن قبل أن نبدأ في الغرق داخل هذه التفاصيل دعني أكتب لك سريعا عن ملاحظتين عابرتين حول ردود أفعالكم على مقال أمس.. - بعض الإخوة المسيحيين انتفضوا وغضبوا لأنني في بداية سطور أمس أشرت إلى أن القتل هو السلاح الذي يستخدمه المسيحيون مع المرتدين عن الديانة المسيحية أيضا.. استنكروا ذلك دون أن يهتم أحدهم بأن يستدعي شريط ذكريات كافة الحوادث التي شهدت إسلام مسيحي أو تغييره للملة، وكيف تعرض لحالة من التعنيف والتهديد والملاحقة من جانب أهله ومن جانب أصدقائه ومن جانب كنيسته، وإلا بماذا نفسّر هروب عديد من المسيحيين الذين أسلموا للخارج، أو هروبهم في كفور ونجوع مصر وطلبهم للتأمين، مثلما يحدث بالضبط مع المسلم الذي يرتدّ أو يعلن اعتناقه للمسيحية.. ولكن هل يعني ذلك أن المسيحية أمرت بذلك؟ أعتقد لا، والإسلام أيضا لم يأمر بذلك، فالأديان السماوية بطبيعتها تحمل في طيات نصوصها الكثير من السماحة بحيث يستحيل أن تجبر أحدا على اعتناقها. - راجع التعليقات وردود الأفعال على سطور أمس وستكتشف بنفسك وبدون أن أخبرك أن أغلب من كلّف نفسه بعناء كتابة تعليق لم يقرأ سطور المقال بعناية تسمح له بإبداء رأي موضوعي، وتلك آفة نعاني منها نحن أهل مصر المحروسة؛ نقفز فوق السطور ونهتم بما هو فوق القشور أكثر مما هو موجود في العمق، وسوف تلاحظ أيضا أن الأمر تحرّك لمعركة دينية متطرفة يدّعي فيها كل طرف أنه الأكثر سماحة وعدلا بينما كلماته المكتوبة تفيض بكل ما هو عصبي وعنصري.. راجع وتأكّد بنفسك.. والآن تعالَ نعود إلى موضوعنا الأصلي.. من الواضح أن الفقهاء حينما حدّدوا عقوبة الردة وأجمعوا عليها لم يستندوا بصفة أساسية إلى القرآن الكريم لكي يثبتوا تلك العقوبة، وإنما استندوا بشكل أساسي إلى أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وأكثر هذه الأحاديث تداولا هي: أ - حديث المحاربين من عكل وعرينة، وقد رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ب - والحديث الذي رواه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: "من بدّل دينه فاقتلوه". ج - والحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة". الدكتور محمد سليم العوا ناقش الأحاديث الثلاثة، وبالنسبة للحديث الأول قال: (روى هذا الحديث الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه: "أن نفرًا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا، فسقمت أجسامهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أفلا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبون من ألبانها وأبوالها؟ قالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحّوا، فقتلوا راعي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأطردوا النعم، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل في آثارهم، فأُدرَكوا فجِيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا". وفي بعض الروايات أنه كان للإبل "رعاة" وأن العرنيين قتلوهم ومثَّلوا بهم. وقد فهم بعض العلماء من هذا الحديث أن العقوبة التي وقَّعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي العقوبة المقررة للمرتد؛ فكرروا الحديث تحت عنوان "حكم المحاربين والمرتدين" أو "باب المحاربين من أهل الكفر والردة". أما الرأي السائد بين جمهور العلماء -وهو الصحيح من وجهة نظرنا– فهو أن النفر من عكل وعرينة لم يُقتلوا لمجرد الردة، وإنما قُتلوا لكونهم محاربين. وفي ذلك يقول ابن تيمية: "هؤلاء قَتلوا مع الردة، وأخذوا الأموال، فصاروا قطّاع طريق، ومحاربين لله ورسوله". وعلى ذلك فإن حديث العرنيين -أو المحاربين من عكل وعرينة– لا يصح أن يكون مستندًا للقائلين بأن عقوبة الردة هي القتل حدًا؛ لأن جريمة العرنيين لم تكن الردة فحسب، وإنما كانت جريمتهم هي الحرابة؛ ولذلك عُوقِبوا بعقوبتهم. أو عُوقِبوا قصاصًا منهم لما فعلوه برعاة الإبل التي سرقوها، حيث إنهم قتلوا الرعاة ومثَّلوا بهم، فاقتُصَّ منهم بمثل ما فعلوا). وبالنسبة للحديث الثاني (بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قتل المسلم لا يُباح إلا في حالة من ثلاث حالات، أو بسبب من ثلاثة أسباب: "النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين المفارق للجماعة". والسببان الأولان لا علاقة لهما بالردة وعقوبتها، إنما فسَّر كثير من الفقهاء "المارق من الدين المفارق للجماعة" بأنه المرتد، وقرَّروا بناء على ذلك أن المرتد يُقتل حدًا بنص هذا الحديث الصحيح. وهذا التفسير ليس محل اتفاق بين الفقهاء. فابن تيمية -رحمه الله- قرّر أن المقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المارق من الدين المفارق للجماعة" يحتمل أن يكون المحارِب قاطع الطريق لا المرتد، وبعبارة أخرى، فإن الحديث الذي نحن بصدده لا يقرِّرُ حكم الردة المجردة، وإنما يقرر حكم المحارب. والمحارب يُقتل سواءً أكان مسلما أو غير مسلم. أما الحديث الثالث: روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينه فاقتلوه". وقد روى هذا الحديث أيضا أبو داود في سننه، والإمام مالك في الموطأ وغيرهم (22). وهذا الحديث هو أقوى ما يؤيد المذهب السائد في الفقه الإسلامي من أن المرتد يعاقب بالقتل حدًا. وقد حاول بعض المعاصرين أن ينفي تقرير الإسلام لأية عقوبة على الردة، أو بعبارة أخرى أن ينفي تجريم الردة، فذهب إلى أن الحديث يشير إلى المحارب المرتد، وهو يعني بالمحارب ذلك الذي يشارك فعلاً في قتال قائم بين المسلمين وأعدائهم. وعندئذ فإن القتل الذي يجيزه هو القتل في القتال وبسبب القتال، ويرى صاحب هذا الرأي أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمنع أن نقع في تناقض حين نقرر قتل المرتد حدًّا، ونقرر في الوقت نفسه حرية العقيدة، التي كفلها الإسلام بقوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، ويتساءل صاحب هذا الرأي: كيف يمكن أن نقبل هذا الحديث على عمومه، الذي يفيد شموله لكل من غيّر دينه، ومن ثم فإن اليهودي الذي يتنصّر، أو المسيحي الذي يعتنق الإسلام يدخل تحت حكم الحديث فيجب قتله حدًا؟! الدكتور "العوا" يقول أيضا: (على الرغم من الاتجاه الظاهر في الفقه الإسلامي إلى تضييق نطاق توقيع العقوبات، والتوسع الملحوظ في مختلف المذاهب في إعمال قاعدة درء العقوبات بالشبهات، فإننا نلاحظ أن اتجاها مغايرًا يظهر في شأن جريمة الردة وعقوبتها؛ حيث ثمة توسع في التجريم، يترتب عليه توسع في حالات تقرير وجوب توقيع العقاب ومع التسليم بتجريم الردة، فإننا نتردد في القطع بأن العقوبة التي قررها لها الإسلام هي عقوبة الإعدام، وأن هذه العقوبة من عقوبات الحدود). وغدا نستكمل البحث في تفاصيل الآراء الفقهية المختلفة حول مسألة الردة.. عن اليوم السابع بتاريخ 19 يوليو 2010 اقرأ أيضاً: هل نقتل المرتدّ عن الإسلام؟ (1)