هناك أيام تشعر وكأن الدنيا كلها اتفقت على إصابتك بالإحباط والاكتئاب.. الأمور تتعقد في كل الاتجاهات، وكأن هناك اتفاقا سرّيا على جعلك تنهار.. كان ذلك النهار هو أحد هذه الأيام.. للأسف كانت بدايته المباركة هذه مبكراً مع كثير من المصادفات الكارثية، حتى فقدت قدرتي على المقاومة عند منتصفه، وقررت أن أسلم طريقة للحد من هذه الأزمات المتعاقبة الاختيار بين العودة للبيت فالنوم حتى الغد، أو أن أذهب لأي مكان هادئ وكان ذلك هو اختياري.. ألقيت بنفسي على إحدى الأرائك المتناثرة بحديقة النادي ولم يكن هناك سوى القليل من الرواد.. جلست مستمتعة بالهدوء ثم بدأت أتنفس بعمق، وقررت أن أستمع إلى الأغنية التي تهدئ نفسي وتسعدني في أوقات الحزن، وأخجل أن يراني أحد أسمعها وهي أغنية الفراشة لنيللي! بدأ لحنها العذب للعبقري "عمار الشريعي" يسري في أذني، وبدأت أمتزج بكلماتها، وأتابع حركة الغصون مع النسيم.. وإذ فجأة بكرة تصطدم بكتفي!.. وإذ بفتاة في جمال الملائكة ورقّتهم تعتذر بكلمات تنطقها بصوبة لحداثة سنها "ثوري يا تانت"! تقولها وتهرع لتناول الكرة.. أتابعها بابتسامة فأجدها تضع الكرة أمامها وتتأهب لقذفها بقدمها وبعد أن أطاحت بها أطاحت قوة الضربة بالفتاة نفسها فسقطت أرضاً.. قامت وهي تنظر اتجاهي خجلا وتبتسم فتضحكني بقوة.. وبعدها صارت هي شغلي الشاغل هذا اليوم! أخذت أتابع لعبها مع أخيها في الحديقة على خلفية الأغنية كأبدع فيديو كليب. "كان فيه فراشة صغنططة.. مفرفشة ومزأططة" بدأت في لعب الاستغماية وكانت تهرول لتختبئ في أماكن ظاهرة للعيان بشكل مبالغ فيه! بل ولا تكتفي بذلك بل لا تنتظر حتى يبحث عنها أخوها بل تهرع لتفاجئه هي بنفسها فيمسكها حتى صارت "هي اللي فيها" أغلب اللعبة!.. أراها تهرول بفستانها الأصفر القصير وأنا أستمع لنيللي؛ يختفي أخوها في أماكن صعبة ويظهر عندما يشفق عليها من طول البحث أو عندما يلحظ أنها نسيت أنها تبحث وعادت للعب الكرة!.. كانت تلتفت لي بين الحين والآخر تضحك فلم أتمالك نفسي وأشرت لها أن تقترب. "ناديتها بصيت تحتها.. قلت لها تيجي نلعب سوا؟" أتت وهي تمشي مشيتها البريئة، فاقترحت عليها أن تختفي خلفي فلن يجدها أخوها هكذا.. ابتسمت بسعادة وإذ بها تتابع أخاها حتى أغمض عينيه فاختفت خلفي.. أحكمت إخفاءها بما معي من حاجيات.. انتهى أخوها من العدّ وبدأ يبحث عنها في نفس الأماكن التي كانت تختبئ بها ولم تكن تقوم بتغييرها!.. اندهش عندما لم يجدها، ولم يصدق أنه لم يكشفها بعد ثوانٍ معدودة كما في كل مرة!.. كان يتوقع أن ينتهي بإمساكها سريعاً ليختبئ بدوره، وإذ به يبحث طويلاً عنها دون جدوى!.. ألمح نظرة الاندهاش وعدم التصديق وهو بعد لا يزال يعود لنفس الأماكن غير مقتنع أنها ليست هناك! "بصيت بعيني ما لقيتهاش.. من الشجر ما عرفتهاش" أخذ يجري في أطراف الحديقة يفتش بين الأشجار وينظر تجاهي فأتشاغل بالقراءة!.. أشعر بحركاتها خلف ظهري وهي تتابع أخاها الحائر من بين فرجات المقعد.. أسمع ضحكاتها الرائعة تحاول أن تكتمها وهي تتابع بحثه الدءوب عنها غير مصدّق أنها قادرة على هذه البراعة في الاختباء!.. أهز يدي وأحثها على الصمت كي لا يكتشفها فتزيد ضحكاتها علواً لتصل للقهقهة!.. ينتبه أخوها وينظر باتجاهي مرة أخرى فأشعر بالدم يتدافع إلى وجنتيّ، وأعجز عن منع نفسي من الابتسام!.. يقف وينظر بتأنٍّ ناحيتنا فتزداد ضحكاتها.. تلمع في عينيه نظرة الفهم فيضحك هو الآخر ويقترب مهرولاً. "مديت إيديا للغصون وبسرعة هزيتها أوي.. لقيت جناح بألف لون بنفرد وينطوي" خرجت من خلف ظهري صارخة عندما رأته اقترب وأخذ يجري خلفها حتى أمسك بها، وإذ فجأة ضبطت نفسي وأنا أضحك معهن عالياً حتى أصابني الحرج! أمسك يدها وذهبا لوالدتهما للرحيل؛ أجدها ترفع يدها لي وتلوّح بها وتهتف بعذوبة: "باي باي تانت"!.. لوّحت لها وظللت أتابعها حتى ابتعدت والأغنية ما زالت تتردد "فضلت كتير متنططة.. وهي طايرة مزأططة". أعدت سماع الأغنية بعد رحيلها وأخذت أتنفس بعمق راضية رغم أني أدرك أنها ستنساني وتنسى ما جرى بيننا خلال دقائق كعادة الأطفال أصحاب الذاكرة سريعة البخر.. حتى لو كانوا ملائكة "مزأططة"!