رغم قيام الصهيونية بمئات المذابح قبل وبعد قيام دولة إسرائيل، ولكن الاعتداء الأخير على "أسطول الحرية" فاق كافة التوقعات، ويعيد على طاولة الحوار قضية قوة إسرائيل الحقيقية على الساحة الدولية. على الرغم من ضعف إسرائيل في هذه المرحلة التاريخية، ومن الضغوط الأمريكية المتتالية، سواء فيما يخصّ ملف الاستيطان بالضفة الغربية، أو الملف النووي الإسرائيلي، إضافة لاختلاف وجهات النظر بين واشنطن وتل أبيب حول شكل الدولة الفلسطينية المزمع إعلانها، ولكن إسرائيل أثبتت خلال 17 شهراً من حكم الرئيس باراك أوباما أنها قادرة على أن يكون لها رأي مستقل عن الإدارة الأمريكية، وقادرة على الاختلاف سياسياً مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي. ولكن هل إسرائيل وحدها هي تلك الدولة القوية؟؟ هل يمكن أن تصبح يوماً قطباً دولياً يخلف الولاياتالمتحدةالأمريكية؟ في الواقع إن قوة إسرائيل تكمن في أن صانعي ومؤسسي هذا البلد رغم كافة الحجج الدينية والسياسية التي استندوا إليها فإن هنالك عاملاً حقيقياً تمثّل في أن إسرائيل هي أكبر سند واستثمار لليهود سياسياً واقتصادياً على مستوى العالم أجمع، مما يجعل جماعات اقتصادية تنتفع بوجودها، أو اتصالاتها مع رأس المال الصهيوني في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومن هنا نتوقع أن الدول الأوروبية وغيرها سوف تصمت على ما جرى حيال "أسطول الحرية". فإسرائيل شركة علاقات عامة كبرى، تستفيد منها أوروبا بأسرها، وتحصل إسرائيل في مقابل ذلك على صمت أوروبا والعالم حيال جهود زعماء إسرائيل في توسيع نفوذ شركتهم بالشرق الأوسط. ولعل السبب الثاني في تلك العلاقة، والذي يجعل العالم الغربي يصمت حيال إسرائيل بشكل دائم، هو أن إسرائيل والقضية الفلسطينية تمثل عامل انقسام للعالم العربي، وهذا الانقسام يعطّل قيام سوق عربية مشتركة، أو حتى وحدة سياسية أو كونفيدرالية بين عدد من الدول العربية، ومن السذاجة الظن يوماً أن هنالك طرفاً غربياً رسمياً سوف يقوم بالضغط على إسرائيل من أجل موقف عربي ما، وحتى الخلافات الأخيرة بين واشنطن وتل أبيب فتأتي في إطار سعي واشنطن لتأمين مصالحها في الشرق الأوسط، وتأمين خروج مشرف لقواتها من العراق وأفغانستان. ولكن وعلى مرأى من هذا العنف البشع حيال المدنيين العزّل في "أسطول الحرية"، يأتي السؤال الأهم.. لماذا؟؟ لماذا قامت إسرائيل بهذه المذبحة؟؟ فقد كانت قادرة على إيقاف السفينة في المياه الدولية وإجبارها على العودة، أو عدم السماح لها بدخول المياه الإقليمية الفلسطينية المحتلة، بل وكان يمكن مصادرة ما في السفن دون دماء، فلماذا؟ في الواقع هنالك أكثر من سبب، ففي الفترة الأخيرة تعالت أصوات بعض الشعوب الغربية بخصوص ما يجري في الأراضي الفلسطينية من انتهاكات إسرائيلية مستمرة، وتكلل الأمر بهذا الكم من النشطاء الأوروبيين الذين شاركوا في "أسطول الحرية"، مما استلزم إرسال "كارت إرهاب" إلى تلك الشعوب، بأن مساندة القضية الفلسطينية ليست مهرجاناً خيرياً، ولكنها حرب حقيقية تجري، تُسفك فيها الدماء علناً، أمام شاشات العالم أجمع، وتحت حماية حكومات بلادهم. والسبب الثاني هو الدور الذي يحاول رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لعبه الفترة الماضية، سواء عبر وساطته مع البرازيل فيما يخص الملف النووي الإيراني، أو ما يحاول أن يُقنع به الشعوب العربية من دور تركي في القضية الفلسطينية، وهي الجهود التي أسماها البعض المشروع التركي للمنطقة، ووضعه في موقف مجابه للمشروع الأمريكي - الإسرائيلي للشرق الأوسط. وأمام ما يحاول أن يقوم به "أردوغان"، كان مطلوباً أن يتم إحراجه بهذا الشكل العلني الفجّ، فالسفينة التي ضُربت تركية، ترفع العلم التركي، وضُربت في المياه الدولية، وبقرار رسمي من وزارة الدفاع الإسرائيلية، بل وخرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يبارك هذا الفعل المجرم فور حدوثه، وهو ما يعني وفقاً للقانون الدولي إعلان حرب رسمي من قِبَل الدولة الإسرائيلية. كل هذا من أجل إحراج تركيا؛ لأن ردة الفعل التركية الهزيلة أمر متوقع في تل أبيب، ولكن تل أبيب كانت تريد أن يخرج هذا الرد الهزيل للنور، إلى جمهور الأمة العربية. والسبب الثالث لضرب "أسطول الحرية" بهذه الهمجية أن تل أبيب تتأهب لحرب قريبة، من الصعب حتى الآن التكهّن بوقت حدوثها ومكان وقوعها، وإن كانت التوقعات تشير إلى عملية مفاجئة ضد إيران أو في الشام ضد سوريا ولبنان معاً، وفي كل الأحوال فإن القيادة الإسرائيلية تجسّ نبض المجتمع الدولي ومجلس الأمن والولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الأوروبية حيال المذابح المتوقع حدوثها في الحروب المقبلة، فما جرى ل"أسطول الحرية" ما هو إلا بروفة لما سوف يجري يوماً في إيران أوسوريا أو لبنان أو قطاع غزة في المواجهة العسكرية المقبلة. وتأتي النتائج إيجابية من وجهة النظر الإسرائيلية، فالمجتمع الدولي لم يقدم على خطوات فعلية لمعاقبة إسرائيل، بل اختفت أطراف عربية وإقليمية عن الأنظار تماماً حتى الآن، رغم أن تركيا دولة عضو في حلف الأطلنطي "الناتو". ولا تخشى إسرائيل من سوء صورتها أو سُمعتها عقب ما جرى؛ فالمذابح الأمريكية تجري في العراق وأفغانستان واليمن وباكستان، ومع ذلك الكل ينسى؛ فلا خوف من تلك المذابح، فمن يتذكر اليوم في أوروبا أو أمريكا شيئاً عن مذابح الانتفاضة الثانية؟؟ مخيم جنين الذي تمّت تسويته بالأرض عام 2002؟؟ ولعل أخطر نتيجة حصدتها إسرائيل من هذه المذبحة هي المواقف الهزيلة التي صدرت من تركيا أو إيران، وحتى "حزب الله" وحركة "حماس"، إضافة إلى صمت أطراف أوروبية، مما يقوي شوكة الجناح السياسي داخل إسرائيل، الذي ينادي بضرورة التخلص عسكرياً من مخاطر إيران وحلفائها على إسرائيل.