عندما يسمع الجمهور عن فيلم سياسي، فالأمر لا يختلف عن سماعه لنشرة الأخبار أو برنامج تحليلي لأزمة الشرق الأوسط، التي يفضّل المُشاهِد حلها على طريقته الخاصة، بضغطة زر على الريموت كنترول تنقله إلى "ميلودي" أو "مزيكا" أو "روتانا كليب" حيث رقصات هيفاء وهبي، أو دلع نانسي عجرم، أو إعلان فيلم تامر حسني الجديد. لذا بات مصير فيلم "تلك الأيام" معروفاً من إعلاناته قبل حتى أن يعرض بدور العرض، رغم أنه يحلّ أزمة الشرق الأوسط فعلاً بطريقة صحيحة، وواقعية، بعيداً عن الرقص الجسدي، وإن كان يعتمد على رقص من نوع آخر. أدب السينما من جديد في نفس المكان تناولت الشهر الماضي بمقالي عن فيلم "عصافير النيل"، عودة ظاهرة "تأديب" السينما، وصنع أفلام بنكهة الروايات الشهيرة لكبار الكتاب، بعد ذلك النجاح الذي حققته رواية "عمارة يعقوبيان"، مؤكداً أن غالب الأعمال الأدبية الجيدة عندما يتم تحويلها إلى عمل سينمائي تفقد بريقها؛ ذلك لأن العمل السينمائي في الأساس مبني على عملية تجارية.. يخاطب المواطن العادي، وملزم بوقت معين، وليس كالرواية، كما أن تحويل الرواية لفيلم سينمائي يرتبط بتقديم "نص سينمائي" منفصل، لا يشترط أن يكون نسخة كربونية من الرواية، ليس فقط على المستوى البصري ولكن حتى على زاوية التناول، ومن هنا تنشأ المجازفة؛ ذلك لأنك أثناء قراءتك لرواية ما فأنت تُخرجها بصرياً في خيالك.. تتخيل الأثاث الذي تعيش حوله الشخصيات, والملامح الشكلية لكل شخصية، وحين يقوم مخرج بتحويل الرواية التي قرأتها أنت إلى فيلم سينمائي، فهو بطريقة أو بأخرى يتحدّى خيالك, عارضاً عليك خياله الخاص ورؤيته البصرية، والضمنية، لما قرأه كلاكما, وبالرغم من أن فيلم "تلك الأيام" قام بتغيير العديد من الأحداث الأصلية في الرواية التي حملت الاسم نفسه، للمبدع الكبير فتحي غانم -رحمه الله- بدءاً من الزمن الذي كان يدور في الستينيات، فأصبح يدور في الألفية الثالثة، مروراً بالبطل "عمر النجار" أحد أفراد الإخوان المسلمين الذي أصبح "علي النجار" الضابط السابق في قوات مكافحة الإرهاب، وصولاً للمؤرخ "سالم عبيد" الذي أصبح محللاً سياسياً وأستاذاً أكاديمياً، وهو مرشح لمنصب وزراي، فإن التغيير جاء هذه المرة لصالح الرواية، ربما لأن المخرج هو الابن "أحمد غانم" الذي بذل جهداً كبيراً ليحافظ على روح رواية والده وتراثه، وفي الوقت نفسه يُثبت ذاته وموهبته في أولى تجاربه الإخراجية، فربطت تغييراته الماضي بالحاضر، وجعلت من الرواية تحفة أدبية صالحة لعصور عبد الناصر، والسادات، ومبارك.
أراجوزات السياسة في كل عصر، هناك حفنة من الأراجوزات التي تتراقص، وتغني، وتلعب على كل الحبال على خشبة الكباريه السياسي، لتحقيق أهدافها الشخصية على أكتاف الأمم وأحلام الشعوب، تارة تسبّح بحمد الحكام والمسئولين الكبار، وتارة أخرى تستقوي بالقوى العظمى الخارجية، وتارة ثالثة تتشدق بالحريات ومناصرة الفرد ضد الديكتاتورية المستبدّة التي تحاصره، ولا مانع من تغيير هذا كله وتبني وجهة نظر جديدة إذا كان صاحبها سيدفع أكثر.. هذا هو د."سالم عبيد - محمود حميدة" الذي يطلب من الضابط المتقاعد "علي النجار- أحمد الفيشاوي" مهمة خاصة من أجل تدعيم مركزه في الترشيح لمنصب وزراي مهم، قبل أن تكشفه زوجته الشابة "أميرة - ليلى سالم" التي وقعت في حب الضابط ورأت فيه الأمل الأخير لإنقاذها من ظلم واستبداد زوجها.. فكيف تسير اللعبة بين ضابط متقاعد، وسياسي محنك يؤمن تماماً "أن الخسارة في السياسة تعني الموت"، وامرأة شابة تغامر بحياتها للفرار من السجن الذهبي الذي سجنها فيه زوجها العجوز؟
تصفيق حاد رغم إيقاع الفيلم البطيء نسبياً خاصة في بدايته، فإن حرفية ربط ماضي كل شخصية من أبطال الفيلم بواقعها المعاصر من خلال عدد كبير من ال"فلاش باك" جاء موفّقاً للغاية، ليرسم لنا كلا السيناريستين علا عز الدين وأحمد غانم، شخصيات متكاملة من لحم ودم، تشعر بها وتتوحد معها، دون أن تشعر أنها مجرد شخصيات درامية "بتاعة وقتها"، بخلاف استخدام المخرج الموهوب أحمد غانم أرقى أدوات الإخراج، لشرح الأحداث وتفسير طباع كل شخصية وطريقة تفكيرها، بعناصر بسيطة للغاية، فنرى لوحة معلّقة على الجدار لامرأة شابة وقط أعمى ذي عينين سوداوين، لتفسير العلاقة بين "أميرة" الزوجة الشابة و"سالم" السياسي المحنّك، كما أن رقعة الشطرنج الكلاسيك الفخمة التي يلعب بها السياسي "سالم" تستخدم مع كل خطة يحيكها لتحقيق مصالحه الشخصية، حتى بات المشاهد يدرك مع الوقت أن رؤيتها في أي مشهد تعني حدثاً جديداً، قبل أن يسقط الملك وعدد من العساكر في نهاية الأحداث، بخلاف استخدام الأضواء الخافتة والظلال العميقة؛ للتأكيد على معنى الصفقات السياسية التي تُحاك في الخفاء، وغيرها وغيرها من الرموز والجمل البصرية، التي أعطت معاني ودلالات عميقة بعد أن غزلها المخرج بحرفية عبقرية مع الجمل الحوارية والأحداث التي تسير ببطء محسوب، بشكل أجبرني على التساؤل: هل من الممكن أن تكون أولى التجارب الإخراجية لمخرج شاب بهذه العبقرية؟! كما ساهمت الموسيقى التصويرية الأكثر من رائعة للفنان "عبده داغر" على تأكيد معاني الفيلم وإسقاطاته في نفوس المشاهدين، رغم عدم تنوّع مقاطعها وجملها، إلا أنها صارت جزءاً لا يتجزّأ من الفيلم. أما عن التمثيل، فحدّث ولا حرج عن شهادة ميلاد جديدة للفيشاوي الابن الذي أحسست وكأنني أشاهده لأول مرة، في هذا الدور الصعب المليء بالانفعالات الداخلية، لشخص يحاصره الماضي ويسجنه بين جدرانه، والحق يقال إنني ما كنت لأتوقع أن يؤدي أحمد الفيشاوي دوراً بهذه الصعوبة على هذا القدر من الاحتراف والعبقرية التي شاهدتها، فشعرت أن "تلك الأيام" شهادة ميلاد جديدة له، لا تجُب ما قبلها من أدوار، ولكن تصعّب ما بعدها من اختيارات، كما بهرني الوجه الجديد ليلى سالم في دور "أميرة" الزوجة الشابة، بكل ما حملته من موهبة عالية في عكس ما يدور داخلها من بقايا فتاة ذبل شبابها مبكراً، ورغبة حبيسة في الانطلاق والتحرر، بعد أن أيقنت فشل زواج الثروة والسلطة ما لم يرتبط بالاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة، أو النظام الحاكم والدولة التي يتزوجها، أو الحكومة والشعب، لتجسد "أميرة" دور مصر التي باعت نفسها لنظام مستبدّ متلوّن عجوز، لم يعد جديراً بها، وصارت من حق شاب صاحب ضمير يقظ، يملك الرؤية لغدٍ أفضل! وليبقى التصفيق الأخير للنجم المخضرم محمود حميدة، الذي ظلمته الظروف، ولم يأخذ حقه كنجم ثقيل، معجون بالموهبة، والقدرة على التشخيص، ولو كنا في وسط فني عادل، لوقف حميدة على قدم المساواة مع نور الشريف وعادل إمام إن لم يتفوق عليهم، بثرائه الفني، ونظراته الرهيبة التي تخترقك، وتتغلل في أعماقك.
كلمات أخيرة: • "تلك الأيام" تحفة فنية ظلمتها نشرات الأخبار الكئيبة، وفضائيات "الردح" السياسي التي شوهت معنى السياسة في نفوسنا، وصنعت من السياسة "نكتة بايخة"، ما إن يرتبط بها شيء حتى ينصرف عنه الجمهور، حتى وإن كان عملاً فنياً عبقري الفكر والأداء. • طالما تساءلت عن سر اختيار هذا الاسم سواء للقصة أو الفيلم، قبل أن أكتشف أن القرآن الكريم جاء في آية منه قوله تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} في سورة "آل عمران"، تماماً مثلما تتداول الأمم والحضارات على كرسي القوة والسلطة، ومثلما يُتداول أراجوزات السياسة على مقاعد المصلحة.