في نفس توقيت عرض فيلم (عصافير النيل ) عن رواية إبراهيم أصلان وأيضا بفضل الدعم المقدم من وزارة الثقافة نشاهد فيلم ( تلك الأيام ) للمخرج أحمد غانم . وهوأيضا يعتمد علي رواية أدبية للكاتب الراحل الكبير فتحي غانم . وهكذا عادت للسينما المصرية ظاهرة الاعتماد علي نصوصنا المحلية . وهي مسألة جديرة بالاهتمام والإشادة بعد أن كدنا أن نستسلم تماما للاقتباس من السينما الغربية عموما والأمريكية خصوصا . يمثل ( تلك الأيام ) أيضا تأكيدا علي ظاهرة مهمة أخري تشهدها السينما المصرية اليوم وهي ظهور وجوه جديدة بغزارة في مختلف فروع الفيلم السينمائي عموما والإخراج والسيناريوعلي وجه الخصوص . فالفيلم هوالعمل الأول لمخرجه أحمد غانم الذي اشترك في كتابة السيناريومع الكاتبة الجديدة علا عز الدين حمودة . وهوبذلك يعبر عن رؤية اثنين من أبناء جيل جديد من السينمائيين للأدب وتصورهما لكيفية تحويله إلي الشاشة . يواجه صناع هذا الفيلم اختبارا صعبا مع رواية مليئة بالأحداث ، عامرة بالشخصيات المرسومة بإتقان . وهي أيضا جريئة في نقدها للواقع وعميقة في مغزاها السياسي والاجتماعي . تتوالي عناوين الفيلم مع لقطات متنوعة وممتزجة لقطع الشطرنج المتجسدة في شكل الفرسان في حركة دائرية وموحية مع موسيقي تصويرية لعبدة داغر مثيرة للتأمل ومعبرة عن أجواء الصراع . وتوحي بداية الفيلم بقدرته البارعة علي الربط الدرامي بين خطوطه وأفكاره الأساسية بإحكام . فالكاتب الكبير - سالم - يحتفل بحصوله علي جائزة الدولة في حديقة بيته مع رفع الستار عن تمثال له بالحجم الكامل . وسرعان ما يتلقي سالم وعدا بمنصب وزاري مع تهديد بسحب هذا الوعد في حالة استمرارمقالاته التي ينشرها في الخارج وينتقد فيها النظام . وسرعان ما تتداخل مع مشاهد الحفل لقطات لزوجته داخل الفيلا لتعبر عن حالة انفصالها الروحي عنه . ومع ظهور ضابط الشرطة السابق علي النجار - أحمد الفيشاوي - يكتمل الثلاثي المحوري للفيلم . لغة سينمائية وهكذا يكشف المخرج في توقيت مبكر عن قدراته علي تقديم شخصياته الأساسية بطريقة ملفتة ومعبرة دراميا وسينمائيا سواء عن طريق الزوايا والتكوين العام للمشهد مع د. سالم وزوجته أومن خلال الدخول بطريقة مميزة في الكادر أوبأداء الممثل البارع أحمد الفيشاوي وطريقة ردود أفعاله مع الحرس الخاص بالدكتور سالم . في هذه المشاهد القليلة السريعة تتأسس الشخصيات بقوة . ونتعرف علي الكثير من الخلفيات ونتهيأ للعلاقة التي سوف تنشأ بين الزوجة الضائعة وعلي الذي يسعي سالم للاستعانة به في إحدي دراساته عن الإرهاب بحكم خبرته العملية السابقة في هذا المجال . وتتضح بشكل قوي حقيقة د. سالم وعلاقته بالنظام كأحد خدامه ورجاله المخلصين سعيا وراء منصب وزاري يبدوأنه علي وشك الوصول إليه . ويبدوأيضا أنه علي استعداد لأن يفعل أي شيء من أجل أن يناله وأن يتجنب أي فعل قد يعوقه عن الوصول إليه . وهويبدوكلاعب الترابيز بالسيرك الذي لا يعني أي خطأ يرتكبه سوي الموت . يتضح من البدايات أيضا سعي المخرج نحوتوظيف عناصر الصورة بشكل تعبيري متميز . وهوما يبدوفي استخدام اللقطات المخصوصة بأسلوب مؤثر مثل التركيز علي أثر الجرح البارز في يد علي . يلعب المكان دورا أساسيا في ترسيخ صورة الشخصيات ورسم واقعها وهوما يتجلي في أجواء فيلا سالم بما توحي به من انقباض علي الرغم من الثراء والتناسق اللوني . كما تتأكد هذه القدرة عبر تفاصيل ديكور تامر إسماعيل في بيت علي في الطلاء القديم المتشقق والبراويز المتكسرة والأثاث الفقير . وفي إجادة اختيار وتوظيف الصور والتماثيل والمشاهد الدرامية المعروضة علي شاشة التليفزيون . يتمكن أيضا المخرج والمونتير أحمد داود من تحقيق انتقالات سريعة واختزال جيد للمقدمات بأسلوب جريء في كسر حدود الزمان والمكان بتداخل اللقطات والمشاهد المعبرة عن تواصل الحالة الشعورية بعيدا عن الشكل التقليدي للتتابع . بين الواقعية والتعبيرية كما تلوح محاولات أحمد عبد العزيز في السيطرة علي الضوء واللون لإعطاء التأثير المطلوب طبقا لرؤية المخرج للموقف خاصة في المشاهد الداخلية . ولكن المشاهد الخارجية عانت من الانفلات الضوئي خاصة في مشهد اللقاء الأول الثلاثي بين سالم وزوجته وعلي في المطعم حيث أدي الضجيج الضوئي إلي حالة من التشتت وضياع التأثير . كما شاب الرسم الضوئي للمشاهد داخل السيارات ليلا نوعا من الافتعال مع ثبات الضوء علي وجوه الممثلين بهدف الإنارة بنفس النسب علي الرغم من حركة السيارة . أما مشهد سالم مع أسرة زوجته في فيلته بإضاءة معتمة مبالغ فيها فهومن أكثر مشاهد الفيلم التي تتعارض فيها واقعية المشهد مع تعبيريته . فالتردد بين استخدام الأسلوب الواقعي تارة والتعبيري أوالتأثيري تارة أخري هي مشكلة يعاني منها الفيلم بوجه عام علي مستوي مشاهده أوفصوله الدرامية التي تحولت في نصفه الثاني إلي اسكتشات منفصلة لكل منها أسلوبيتها وطابعها الخاص. فحالة القوة والتماسك التي بدأ بها الفيلم لا تستمر كثيرا . فسوف تنشغل الدراما بمتابعة الشخصيات من كل جوانبها علي حساب حركة الدراما . ولن يكتفي السيناريوبالتلميح لأي شيء ولكنه سيحرص علي التصريح بكل شيء. وما نعرفه كمعلومة من خلال الحوار نراه كصورة من خلال الفلاش باك ثم نعود لنتعرف عليه من جديد في الحوار المصحوب بمشاهد الفلاش باك التوضيحية. وهي مسألة لا يكتفي بها مع شخصية البطل سالم في ماضيه وأسباب تحولاته ، بل نراه أيضا مع زوجته وحكايتها مع حبيبها الراحل وأسرتها وقصة زواجها وتفاصيل اكتشافها لخسة زوجها . ويحرص السيناريوأيضا علي كشف تفاصيل التفاصيل في حياة علي النجار ويكرر مشاهد صراعه مع المتطرفين ويسهب في تفاصيل قصة انتقامه لزميله بقتله لاحدهم . إن أهم شيء في إعداد السيناريو عن نص ادبي هوحسم الاختيار بين الأهم والأقل أهمية . وبسبب هذه الترهلات تفقد القصة جمالها وطرافتها وتركيزها علي أجمل مافيها أوهذه التعرية لهذا الرجل المتسلق الذي يواصل تنازلاته حتي آخر نفس للوصول إلي القمة التي يتمناها . ولكنه يسقط وهوفي ذروة نجاحه وقد وصل إلي أقرب نقطة من الهدف . يقع في هذا السقوط علي مشهد من الجميع وهويعلن عن كذبه وكذب من يعمل لصالحهم علي شاشة التليفزيون علي الهواء دون أن يدري . فهويفتح هاتفه المحمول لا إراديا أثناء بث البرنامج وهويلوم وزير الداخلية لإلقاء رجاله القبض علي زوجته إثر مشاجرة مع عشيقها علي الطريق . وعبر كلماته الغاضبة ينكشف المستور عن كل الخبايا والأكاذيب . ويكشف الرجل المتأنق ذوالوجه اللامع واللسان الذرب عن حقيقته الكريهة وعن حقيقة رأيه في النظام الذي يسعي إلي تجميله وعن نظرته المتعالية بل والمحتقرة للمواطن العادي الذي يزعم في كل خطاباته وأحاديثه أنه يعمل من أجله . بداية ونهاية في رأيي الشخصي أن نهاية الفيلم الحقيقية هي مع افتضاح أمر المسئول ونظامه وان ما يأتي بعدها هو Anti climax. بل إنه يحيل الفيلم إلي تراجيديا تقليدية حول مثلث الزوج والزوجة والعشيق . بل ويدخل به إلي مناطق أفلام الإثارة والمطاردات . ومن الغريب أن يستهل احمد غانم فيلمه بقوة وسرعة ثم ينهيه بتراخ وتكاسل وإيقاع رتيب خاصة في مشهد قبل النهاية الذي يطلب فيه سالم من زوجته أن تقشر له البرتقالة. ومن الغريب أن حالة التناقض في مستوي الفيلم بين بداياته ونهاياته تنعكس علي مستوي الحوار أيضا . فالمشاهد الأولي تتضمن حوارات ذكية ومكثفة ولماحة ومعبرة . ثم يأتي النصف الثاني من الفيلم لتغلب روح المباشرة علي الحوار الذي يفتقد دراميته ويعتمد علي العبارات الإنشائية من نوع "مش مهم تبقي عظيم في عيون الناس المهم تبقي عظيم بجد." أما أهم إيجابيات الفيلم التي تجدر الإشادة بها فهي قوة رسم الشخصيات الرئيسية التي تميزت بالعمق واستفادت كثيرا من الثقل الدرامي للرواية وهوما أعان بطلي الفيلم بشكل كبير وخاصة أحمد الفيشاوي الذي حقق حالة من المعايشة الكاملة مع الشخصية بكل مراحلها وتطوراتها واستطاع أن يشكل ملامحها وأن يرسم انفعالاتها ويصعد بها إلي ذروتها الدرامية ليعود بها إلي أصلها الذي قدمها به في مشاهد الفلاش باك وكأنها تحطمت لتتشكل من جديد . وكانت ليلي سامي في دور الزوجة وجها جديدا وجذابا ومعبرا ولكن الاختبار كان أصعب من إمكانياتها وخبراتها . أما صفية العمري فلم أصدق أنها فلاحة ولم أصدق أنها أم محمود حميدة فلا لهجتها ولاملبسها ولا ماكياجها ولا أداءها ولا إحساسها تناسب مع الشخصية . ربما تبدوفي ملحوظاتي السلبية ضد الفيلم درجة من القسوة في التعامل مع فنانين جدد يسلكون الطريق الصعب ويختارون نوعا من السينما الجادة والجريئة علي مستوي الفكر الذي تطرحه أو الأساليب التي تنتهجها . ولكني في حقيقة الأمر أري أن صراحتي معهم وتحليلي لهذا العمل بهذا الأسلوب التفصيلي هوالتعبير الحقيقي عن تقديري لجهودهم ولمحاولاتهم الجادة والجريئة في التجريب والتجديد بمعناه البسيط في حدود السينما المصرية .