المتابع للإصدارات الأدبية التي تصدر عن المؤسسات الحكومية كالهيئة العامة لقصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب مثلاً فضلاً عن عشرات دور النشر الخاصة، يلاحظ حالة الزخم الأدبي التي نعيشها هذه الأيام وسط عشرات إن لم يكن مئات المجموعات القصصية والأسماء الجديدة الموهوبة ونصف الموهوبة التي تشق طريقها بجد وحماس في عالم الأدب.. ولهذا ربما يكون من المثير ومن الصعب في نفس الوقت أيضاً أن نحاول أن نتتبع فروع شجرة القصة القصيرة المصرية الوارفة لنصل إلى بذرتها الأولى، ونتساءل متى كتبت أول قصة قصيرة مصرية.. والحقيقة أنه لا توجد إجابة قاطعة لهذا السؤال، ولكن المؤكد أن شجرة القصة القصيرة المصرية -كأي كائن حي- قد مرّت بمراحل وأطوار كثيرة حتى تصل إلى ما هي عليه الآن.. فكان دور البعض يتوقف على تمهيد الأرض للزراعة، ومنهم من قام بالحرث، ثم البذر، وأخيراً الحصاد.. وسنتحدث هذه المرّة عن المحاولات الأولى لكتابة القصة القصيرة، على أن نتحدث في المرّة القادمة عن بوادر ظهور القصة القصيرة المصرية بصورتها المكتملة الناضجة.. وأول من قام بتمهيد الأرض وإعدادها للزراعة كما يرى العديد من النقاد كان "عبد الله نديم" في مجلته (التنكيت والتبكيت).. والواقع أن "نديم" لم يقصد أن يقدم فناً قصصياً بقدر ما كان هدفه أن يقدم مادة صحفية بطريقة مشوقة تختلف عن الصحافة التي كانت سائدة في عصره والتي كانت لغتها الأساسية تعتمد على السجع والمحسنات البديعية، فإذا به يكتب ما يشبه القصة القصيرة بلغة سلسة وحوار ناضج، ويمكننا أن نقرأ مثلاً ما كتبه "عبد الله نديم" في أول أعداد مجلة (التنكيت والتبكيت) بعنوان (عربي تفرنج)، مع ملاحظة أن "نديم" قد ولد في 1843 وتوفي سنة 1896م، وهي بالضبط نفس الفترة التي عاش فيها الكاتب الروسي الكبير "أنطون تشيكوف"، والفارق بين الاثنين أن "تشيكوف" سبقه عدد كبير من كتاب القصة الروسية، بينما كان "نديم" هو أول من كتب بالعربية شيئاً كهذا.. وبعد أن استمر "عبد الله نديم" ينشر أقاصيصه في (التنكيت والتبكيت)، انشغل عنها بالكفاح الوطني مع "أحمد عرابي" خاصة بعد احتلال الإنجليز لمصر، ولم يعد بعدها لكتابة القصة.. يسلمنا "عبد الله نديم" بعد ذلك إلى قصص إخواننا الشوام الذين هاجروا إلى مصر، واستقروا بها ك"لبيبة هاشم"، و"موسى صيدح"، و"خليل مطران"، وكانت محاولاتهم القصصية ذات طابع واحد يهدف في الأساس إلى تسلية القرّاء ولا مانع من وعظهم وإرشادهم، فنجد مثلاً "لبيبة هاشم" (وهي لبنانية الأصل هاجرت إلى مصر واستقرت بها) تنشر في سنة 1898م أولى قصصها "حسنات الحب" والتي بدأتها قائلة: (ليأذن لي القارئ أن أقص على مسامعه حادثة جرت حقيقة، وهي مع ما فيها من غرابة الواقعة وفكاهة الحديث لا تخلو من فائدة للمُطالع؛ إذ تنبهه إلى التحذر من مثلها مما يمكن حدوثه في كل زمان ومكان). ونرى مثل هذه المقدمة كثيراً في قصص المحاولات الأولى، وكان كتّاب هذه المرحلة يحرصون دائماً على التنبيه على أن حوادث هذه القصة حقيقية تماماً، وأن لهذه القصة فائدة وعبرة، ويبدو أن هذا كان لنظرة الناس حينها للقصة على أنها مجرد فكاهات للتسلية واللهو، فكان الكاتب يحاول بمثل هذه المقدمات أن ينفي عنه تهمة كتابة التفاهات التي لا نفع لها.. وتقص "لبيبة هاشم" بعد هذه المقدمة حادثة تجري وقائعها في إسطنبول، ولكي تؤكد أنها وقعت بالفعل تذكر أنها قد حدثت مساء يوم 15 مايو سنة 1898م، حيث طرقت فتاة جميلة في ثياب راهبة باب قصر إحدى الأسر ففتح لها البواب الذي فتن بجمالها، وقالت لصاحبة القصر إنها راهبة من مصر أرسلتها رئيسة الدير لتؤدي بعض المهام في تركيا، وقد تأخر الوقت وتريد أن تبيت الليلة في القصر لما سمعته عن أهله من كرم الأخلاق، فرحبت بها صاحبة القصر، وأنزلتها في إحدى الغرف، واستبد بالبواب الشوق لرؤية الراهبة التي أحبها من أول نظرة، فتسلل إلى غرفتها ونظر من ثقب الباب فرآها مدججة بالسلاح وقد خلعت ثياب الرهبنة ورآها تشير بالمصباح إلى آخرين في الخارج، فأبلغ البواب سادته، وقبض عليها رجال الشرطة هي وأفراد العصابة، وكان كشف أمر هذه اللصة من (حسنات الحب)..
واستمرت "لبيبة هاشم" تنشر في مجلة (الضياء) قصصاً كهذه، ولما توقفت (الضياء) أصدرت هي مجلة (فتاة الشرق) واستمرت تنشر فيها قصصها، وظل مفهوم "القصة القصيرة" عندها لا يزيد على مجموعة من الحوادث الكثيرة تعتمد على المبالغة والتشويق والوعظ..
وفي نفس الوقت الذي كانت تنشر فيه مثل هذه المحاولات القصصية، كان هناك تيار آخر آخذ في الظهور يريد أن يضع فن القصة موضع الاعتبار في الأدب العربي الحديث، ونشأ هذا التيار كطريق وسيط بين حركة بعث التراث العربي وحركة الاتصال بأدب الغرب وثقافته، ولذلك اصطلح على تسمية هذا التيار بالتيار المزدوج.. وكان كتاب التيار المزدوج متأثرين بالأساس بدعوة الإصلاح التي أثارها "جمال الدين الأفغاني" وحمل رسالتها تلاميذه من بعده، والاتجاه العام الذي هدفت له كتابات هذا التيار هو الدعوة إلى التمسك بالقيم والمثل الموروثة، والأخذ بالصالح من المدنية الغربية ومحاربة الفاسد منه، ومن أعلام هذا التيار "محمد المويلحي"، و"مصطفى لطفي المنفلوطي"..
وقد نشر "المنفلوطي" مجموعته القصصية (العبرات) في سنة 1915م، وبعض قصصها كان من تأليفه وبعضها مترجم عن لغات أجنبية، ولم يكن "المنفلوطي" يعرف أي لغة أجنبية، فكانت القصص تترجم له من لغتها الأصلية، ثم يكتبها هو بأسلوبه دون أن يتقيد بالأصل بل كأنه يكتبها من جديد..
وتدلنا اختيارات "المنفلوطي" لنوعية القصص التي تولى صياغتها على اتجاهه الأدبي الذي التزمه طوال حياته، فقد كانت كلها من الأدب الفرنسي الرومانسي المغرق في الخيال والعاطفة، المؤمن بفضيلة الفقراء ورذيلة الأغنياء، والثائر على النظام الاجتماعي الذي تحكم فيه فئة ضئيلة من المترفين ملايين الفقراء والكادحين.. وقد كان لهذا الأدب الحزين الباكي أحسن الوقع في نفوس معاصريه؛ إذ كان الناس يعانون من ضغوط كثيرة، على رأسها الاحتلال الأجنبي الذي كان يشل كل حركة نحو التقدم، ويعجز الأفراد عن المقاومة فيلجأون إلى التنفيس بالبكاء والدموع التي يحدثنا عنها المنفلوطي، ولهذا نجد أن كل أبطال المنفلوطي دائماً ضعاف لا حول لهم ولا قوة كانعكاس لما كان يعيشه الناس حينها..
أما "المويلحي" فقد سلك طريقاً آخر، حيث اتجه لتطوير كتابة المقامات لتناقش وتعالج المشاكل الاجتماعية التي كان يمر بها المجتمع المصري حينها، ولكن "المويلحي" في العموم لم يخرج عن الشكل الكلاسيكي للمقامة، من حيث الالتزام بالسجع والمحسنات البديعية.. ومهما كانت رؤيتنا أو تقييمنا لهذه المحاولات الأولى، إلا أننا يجب أن نعترف أنها نجحت في خلق وعي قصصي سواء في جماهير القرّاء أو الكتاب الشباب المتطلعين لكتابة قصص قصيرة مصرية كالقصص الأوروبية التي يطالعونها مترجمة أو في لغاتها الأصلية، كما نجحت في التهيئة لفن القصة كي يأخذ مكانه بين فنون الأدب العربي الحديث، وقد كافحت القصة في هذا السبيل كفاحاَ شاقاً وصادف كتّابها عقبات كثيرة، لم يكن أقلها نظرة الناس والأدباء لهم على أن صنعتهم هي التسلية، وأن المكان الوحيد الصالح لنشر إبداعاتهم القصصية في أي جريدة أو مجلة، هو صفحة الفكاهات!!