{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [سورة النصر]. هذه السورة -بالذات- كانت دستور الفاتحين العرب في مختلف الأقطار. الأمر الذي علّق عليه أحد المستشرقين قائلاً إن الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لو كانت طبّقت مضمون تلك السورة على ألمانيا المهزومة -آنذاك- لكان من الممكن تجنب إيجاد ظروف القهر والإذلال التي أفرزت رجلاً مثل هتلر، وفكرًا مثل النازية. فسياسة العرب للبلدان المفتوحة وأهلها تجلّت في سعي هؤلاء الأخارى للتوحد والاندماج مع الإمبراطورية الجديدة الناشئة، لا كشعوب مقهورة خاضعة بل كجماعات بشرية راغبة في الانضمام لتجربة إنسانية راقية. الحقيقة أنني قد احترت في كيفية بدئي الحديث عن تجربة العرب والمسلمين مع العولمة، وأخيرًا رأيتُ أن الأنسب أن أبدأ بأكثر المسائل إثارة للجدل وهي ذلك الاتهام المستمر لأصحاب تلك التجربة بأنهم لم يختلفوا كثيرًا عن الرومان والفُرس والأمم المستعمرة، وأنهم -بدورهم- لم يكونوا سوى غزاة مستعمرين متعطشين للثروات، وأن الفضل في قيام دولتهم كان للسيف والسيف فقط! إذن فلتكن تلك بداية حديثنا حتى لا ينقطع خيطه بعد ذلك بالتطرق لمسائل جانبية قد يفرضها تسلسل الأحداث. مسائل لافتة للنظر تجربة العولمة العربية / الإسلامية هي الأكثر إثارة للتعجب والنظر واستفزازًا للتفكير والتحليل، فبخلاف كونها الأطول عمرًا والأوسع مساحة فقد تميزت بكونها "عولمة عنقودية" بدأت من العواصم الأولى: المدينة - دمشق - بغداد، ثم أصبحت لامركزية، وبعد أن كانت تنتشر بيد العرب المسلمين الأوائل أصبح الكل يشارك فيها سواء كان عربيًا أم لا، مسلمًا أم غير ذلك. والأمر الآخر اللافت هو أن قيادة سفينة العولمة لم تكن دائمًا للعنصر الأول الذي بدأها: العرب المسلمون، بل تم تبادل الراية عبر العمر الطويل للمسيرة بين عناصر عربية وتركية وحبشية وروسية وبربرية، سواء في أوقات اتحاد الإمبراطورية أو عصور تفرّقها. هاتان الميزتان تثبتان أن الفتوح العربية لم تكن مجرد غزوات من جحافل من "البدو الحفاة العراة الجياع" لبلاد ذات خيرات وثروات، فلو كانت كذلك ما كانت تجربتهم لتستمر لأكثر من سبعة قرون، الأمر الذي تحقق بسبب توفر عوامل عدة؛ أهمها تقبّل وتحمّس الناس للمشاركة في ذلك المشروع العالمي الضخم. لم يكن لسيف الفاتح إذن الدور الأكبر في تأسيس تلك الدولة العالمية التي امتدت -في أوسع أشكالها- من الهند والصين إلى المغرب وإسبانيا، كما يحلو للكثيرين القول. حيث يصورون الفاتح العربي رجلاً بدويًا جلفًا يمسك بسيفه ويصيح "أسلِموا تَسلَموا"، في صورة كاريكاتورية مشينة لأي عقل يصدقها! صحيح أن السيف والرمح وجدا لهما مكانًا هامًا في الدولة، ولكن بالعقل: هل تخلو منهما دولة؟ ألم يظهر مينا - نارمر على لوحته الشهيرة وهو يوحّد مصر بالجيش؟ ألم يكن الإسكندر فاتحًا وغازيًا في المقام الأول؟ ويوليوس قيصر الذي تحتفي به الكتابات الغربية ألم يقضِ نصف عمره في حروب وغزوات؟ من المنطقي إذن أن يكون للقوة العسكرية دور في بناء "الدولة"، ولكن ثمَّ فارق كبير بين "تأسيس الدولة" و"إقامة الحضارة"؛ فالأولى بالفعل يكفيها سيف ورمح ويد باطشة، بينما الثانية لا يلعب فيها السلاح إلا أقل الأدوار. ولننظر إلى شهادات أصحاب العقول والأفكار من الغربيين ليكونوا بمثابة "شهود من أهلها". أين السيف؟ "لقد صادَفَت شريعة محمد ترحيبًا لا مثيل له في العالم.. وإن الذين يتخيلون أنها انتَشَرَت بحد السيف إنما ينخدعون انخداعًا عظيمًا". (جورج سيل، مترجم القرآن إلى الإنجليزية) "إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن". "الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب ولا دينًا سمحًا مثل دينهم". (د.جوستاف لوبون، مستشرق فرنسي، كتاب: حضارة العرب) "كان تاريخًا يزخر بالاختراع والإبداع، والأفكار العظيمة، ويعزز قيم التسامح والتعايش". (مايكل هاميلتون مورجان، في حديثه عن تاريخ الحضارة الإسلامية، كتاب: تاريخ ضائع) "الأسلمة والتعريب لم يكونا من النتائج المباشرة والحتمية للفتح. وبدلاً من ذلك كانت عملية التحول تدريجية، وتكاد تكون سلمية تمامًا؛ بسبب الحقيقة القائلة بأن المزيد والمزيد من الناس أرادوا أن يتماهوا مع الثقافة السائدة في عصرهم ويشاركوا فيها". (هيو كينيدي، كتاب: الفتوح العربية الكبرى) "بالنسبة لكثيرين من السكان غير المسلمين في المناطق البيزنطية والفارسية الذين كانوا خاضعين بالفعل لحكم أجنبي، كان الحكم الإسلامي يعني تغييرًا في الحكام، وكان الحكام الجدد غالبًا أكثر مرونة وتسامحًا، ولم يكن ضياعًا لاستقلاله. والكثير من هذه الشعوب بات يتمتع بقدر أكبر من الحكم الذاتي المحلي". (جون ل. إسبوزيتو، كتاب: الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة) "إن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام؛ فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها، سُمِحَ لهم جميعًا -دون أي عائق يمنعهم- بممارسة شعائر دينهم". "هذه الإنسانية وهذا التسامح العربي هما اللذان دفعا الشعوب ذات الديانات المختلفة إلى أن تعيش في انسجام مدهش في هذا الضوء العربي الهادئ، وأن تبدأ نموها وتوسعها وازدهارها. (د.زيجريد هونكه، كتاب: شمس العرب تسطع على الغرب) هذه شهادات من مستشرقين ومفكرين ينتمون لنفس الثقافات التي خرجت منها الاتهامات للعرب بأنهم لم يكونوا سوى أمة غازية مستعمرة. والمتأمل في تلك العبارات الصادرة عن أناس لا مصلحة شخصية لهم تثير الريبة في احتمال انحيازهم للعرب تفسر ذلك العمر الطويل والنجاح الكبير اللذين حظيت بهما تجربة العولمة العربية الإسلامية. وأعتقد أن في تلك الشهادات رداً بليغاً يغنيني عن التعليق على تلك الاتهامات المتكررة للحضارة العربية أنها "دولة قامت على السيف". نقطة نظام ثمة نقطة هامة تقتضي الأمانة ذكرها: إن وصف الدولة العالمية العظمى التي استمرت لأكثر من سبعة قرون بأنها "عربية إسلامية" لا يعني حصر فضل تكوينها لمن توفرت فيهم الصفتان، فإن كان المؤسسون الأوائل لها عرباً مسلمين، فإن من أعطوا عجلتها الدفعة كانوا من حيث العِرْق من المنتمين لأعراق عدة، ومن حيث الدين شهدت الإمبراطورية العربية تعددية دينية كبيرة لم تقتصر على أهل الديانات الثلاث: اليهودية، المسيحية، الإسلام، بل امتدت لتشمل المجوس والصابئة وأتباع الأديان الآسيوية كالبوذية وغيرها. وقد أسهم كل هؤلاء في إشعال وتغذية جذوة الحضارة العربية الإسلامية، فباتت صفتا العروبة والإسلام بمثابة الجنسية المتمتع بها كل من شارك في إقامة حضارتها، ولو لم يكن عربيًا أو مسلمًا. إذن فليكن هذا بمثابة اتفاق بين القارئ وبيني: أني حين أصف تلك الحضارة بأنها عربية أو إسلامية أو كلاهما فإني أعنيها ككل، بكل ما فيها من تنوع عِرقي وديني. الجزية والذمة بقي أن أتحدث عن نقطتين هامتين مستا حياة نسبة ضخمة من أهل الدولة العربية الإسلامية: الجزية والذمة. وربما يحسب القارئ أني بهذا أخرج عن موضوعنا، ولكني أنبهه لأن تلك المسألتين هامتان جدًا في تفسير وتحليل أسباب اندماج الشعوب تحت راية العرب والمسلمين، حيث إنهما مسألتان يسيء البعض استخدامهما لمهاجمة تجربة العولمة العربية. فعلينا فهمهما لنفهم طريقة وشكل تفاعل المسلمين مع غيرهم تحت اسم الدولة الواحدة. "لك الذمة والمنعة، فإن منعناكم (حميناكم) فلنا الجزية، وإلا فلا حتى نمنعكم". (من معاهدة بين خالد بن الوليد ومندوب أحد البلدان المفتوحة) الجزية كلمة مشتقة من كلمة "كزيت" الفارسية، وهي ببساطة مقابل حماية من الأمة الغالبة لأهل البلدان المفتوحة، وهي ليست ابتكارًا إسلاميًا -كما هو شائع- بل هي مما جرت به قوانين الفتوحات في مختلف الأمم. ليست إذن "عقابًا" لغير المسلمين على عدم إسلامهم كما تقول بعض الكتابات المتشددة، فلو كانت "جزاءً لهم على عدم اعتناقهم الإسلام" لكانت قد فُرِضَت عليهم جميعًا، ولكنها كانت مفروضة فقط على من يستطيع القتال، فقد كان يُستَثْنَى من دفعها المعاقون والشيوخ والنساء ورجال الدين والفقراء، أي أنها لم تكن تجب سوى على الرجل القوي المعافى الميسور الحال. الدليل الآخر على كونها لم تعنِ "قهرًا" لأهل البلدان المفتوحة هو أنها كنت تسقط عن الواجبة عليهم في حال اشتراكهم في الدفاع عن البلد إلى جانب جيش المسلمين، وهذا ما حدث بالفعل أكثر من مرة، ثم سقطت تمامًا بعد أن أصبح "الرعايا" "مواطنين"، وأصبح الوضع الطبيعي هو الدفاع المشترك عن الوطن ضد الأخطار الخارجية. أما الذمة فهي -بعكس الشائع أيضًا- لا تعني انتقاصًا من قدر أهلها -وهم غير المسلمين في أي بلد تحكمه أغلبية مسلمة- بل بالعكس، تعني أن حماية غير المسلمين وصون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وحقوقهم بمثابة "فرض كفاية" على المسلمين، وهي ذمة مرتبطة بالله ورسوله -عليه الصلاة والسلام- مما يعني أنها لا تنقضي إطلاقًا بطول الزمن. ختام الجزء السادس هكذا إذن كانت سياسة الفاتحين تجاه أهل البلدان المفتوحة، تلك السياسة الحكيمة التي حققت ذلك الإنجاز المتمثل في صهر عشرات المكونات الثقافية والعرقية -عبر التاريخ- في سبيكة واحدة، وهو أمر يشبه المستحيل في عصرنا الحالي، فما قولنا فيمن حققه في عصور سابقة كان صدام الشعوب هو الأغلب على طبيعتها؟ ولكن إن كان في كل ما سبق إجابة لسؤال: "كيف استمر تجانس تلك الأعراق في ظل حضارة واحدة لقرون كثيرة؟" فثمة سؤال لا يقل أهمية وهو: كيف استطاع أبناء الصحراء أن يُسقِطوا النظام العالمي السابق ليؤسسوا نظامهم الذي تحدثنا عنه؟" (يُتبَع) مصادر المعلومات: 1- الخطر الإسلامي خرافة أم حقيقة: جون ل. إسبوزيتو. 2- الفتوح العربية الكبرى: هيو كينيدي. 3- الأحكام السلطانية: الإمام أبو الحسن الماوردي. 4- البداية والنهاية: ابن كثير. 5- تاريخ ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون. 6- تاريخ الشعوب الإسلامية: كارل بروكلمان. 7- حضارة العرب: جوستاف لوبون. 8- مواطنون لا ذمّيون: فهمي هويدي. 9- تاريخ الخلفاء الراشدين: د.محمد سهيل طقوش. 10- تاريخنا المُفتَرَى عليه: د.يوسف القرضاوي. 11- الإسلام في عيون غربية: د.محمد عمارة. 12- شمس العرب تسطع على الغرب: د.زيجريد هونكه. 13- تاريخ ضائع: مايكل هاميلتون مورجان. 14- الله ليس كذلك: د.زيجريد هونكه. 15- مسلمون وأقباط من المهد إلى المجد: د.جمال بدوي. اقرأ أيضاً: حرب العولمة.. أو أرمجدون الجديدة (1) حرب العولمة.. أو أرمجدون الجديدة (2) حرب العولمة (3).. المصريون طالما بجّلوا مستعمريهم حرب العولمة (4).. عندما استدعى المصريون مصاص الدماء الروماني حرب العولمة (5).. أهل مصر اخترعوا القبطية لوقف انتشار اللاتينية