جلست أفكر فيما يحدث، كيف تحولت نفسي عن استقرارها، اضطراب كموج البحر، وظلمة كظلمة الليل، كيف قامت جميع الأشياء بمهاجمتي فجأة ولم أستطع المواجهة، واستسلمت أفكر، لقد وقعت في الفخ إذن وبدأت المتاهات تلتف حولي وتضيق بي لتعتصرني، ولا أعرف.. هل سأستطيع الخروج منها؟ هل سيستطيع عقلي التغلب عليها ومعرفة الطريق أم سيظل فيها حتى يحترق؟ في البداية الظلام من حولك، لا تدرك أين أنت ثم يتبدد الظلام شيئا فشيئا، فتجد نفسك في بحر.. بحر عميق جدا وأنت بداخل قارب خشبي متهالك يتهادى بك، تنظر إلى البحر الذي يعكس ظلمة السماء في ليلة صافية وتمسك بالمجداف ثم تسير دون هدى في ظلمات ثلاث.. الليل.. والبحر. .وبينهما ظلمة نفسك الواهنة. تذكرت النجم القطبي رفعت بصرك للسماء ولكنك وجدت الغيوم تتجمع وتتلاشى النجوم التي كانت تلمع منذ قليل... وبدأت العاصفة، هبت ريح شديدة أثارت البحر، وتلونت السماء بوميض البرق البنفسجي ثم صرخت بهدير الرعد المتعالي وبدأت الأمطار تثير غضب الأمواج التي أخذت ترتفع عاليا ثم تنزل على قاربك وأنت بداخله ومازلت ممسكا بمجدافك تصارع وتجتاز كل شئ، تنظر أمامك فتجد موجة عظيمة مظلمة قادمة نحوك فتنظر لها في تحد وتشهر مجدافك أمامها كمن يهدد، ولم تدر إلا وأنت وسط الماء المظلم والأمطار تتصارع على السقوط من حولك والرعد يصرخ فيك منذرا بالويل. وتلقي بمجدافك بعيدا ثم تخرج يدك ولا تراها من شدة الظلام، فتضع وجهك في الماء وتسبح والأمواج تحملك ولا تعرف أين تضعك، ثم تسمع صوتها الواهن قادما من الأعماق ولا تدري من أي ظلمة قادما ولكنك تسمعه جيدا.. لا تستسلم.. لا تجعل آلامك تتغلب عليك، لا تختبئ داخل نفسك وإن كانوا يصرخون عليك. لا تغلق عينيك لهم وإن انتهت أكاذيبهم. لا تطفئ نور قلبك وإن تبدد الظلام. لا يغلبك النعاس وأنت بينهم. فقط لا تمت هذه اللحظات. ولم تدر بعد ذلك إلا والشمس تلفح جبينك بحرارتها على الشاطئ، تحاول النهوض ولكن جسدك متهالك ولكنك تتحامل وتستند بيديك على الرمال ثم تضع قدميك أمامك وترفع رأسك وتستقيم بجسدك واقفا على الأرض ناظرا حولك فتجر قدميك على الرمال الممتدة وترى أمواج البحر وقد استقرت وصارت زرقاء كما تحب أن تراها، فارتسمت على قلبك ووجهك ابتسامة وأخذت تجري ناسيا كل آلامك، سعيدا بالأمواج التي تداعب قدميك ثم تستحي فتعود سريعا إلى البحر وترى آثار قدميك تمتد أمامك لا تعرف كيف، فتسير إلى أن تصل إلى غابة صغيرة يحيط بها أشجار ضخمة مورقة، ينفذ من خلالها ضوء الشمس في خيوط ذهبية ممتدة على الأرض التي تكسوها الخضرة في كل مكان إلى أن تنتهي بجدول ماء عذب يصب في بحيرة صغيرة صافية، فتسرع نحوها وتجثو على ركبتيك ثم تنحنى لتشرب من المياه التي تتلألأ في ضوء الشمس النافذ من الأشجار، تسمع أصوات الطيور التي تسكنها تغرد من حولك في هدوء وتتسائل من هذا القادم؟ فتتلفت حولك مبتسما ثم تغسل وجهك وتنهض ثم تسير متعمقا في أحضان الخضرة والأشجار والزهور والماء والطيور والحيوانات الصغيرة التي تجري هنا وهناك حتى تصل إلى نهر متسع قليلا، فتقفز في المياه وتسبح إلى أن تجتازه إلى الجهة الأخرى. وتسير على قدميك بين الأشجار من جديد حتي تصل إلى المنطقة التي كنت تخاف أن يقتادوك إليها منذ البداية. تصل إليها ويبدأ صوتها يهمس في أذنيك من جديد. لا تستسلم. لا تجعل آلامك تتغلب عليك.. ولكنك لم تدرك حتى تعمقت أكثر وراء الأشجار فرأيت الدخان في كل مكان يتصاعد من الأشجار حتى سقط بعضها محترقا تماما في ماء البحيرة وترى الطيور وهي تتساقط محترقة من حولك على الأرض التي احترق عشبها الأخضر هي الأخرى عن آخره ولم يبق منه إلا الرماد الأسود بعدما ماتت حيواناتها الصغيرة مختبأة في حجورها وهي تطعم صغارها. الدخان يتزايد حتى ضاق صدرك وصَعُب تنفسك واستحالت الرؤية لديك ودمعت عيناك كثيرا حتى إنك ترفع يدك مرة أخرى ولم ترها فسرت هائما لا ترى، ويتراءى لك الدمار كلما تقدمت على طريقك. ولكن يجب عليك أن تعود وتترك كل هذا وراءك، فتستدير سريعا وتجري فتتعثر في أحد الحيوانات المحترقة وتقع على وجهك فتقوم من جديد وتنفض عن وجهك الرماد، فترى الدخان يرتفع قليلا فتجرى مرة أخرى ولكنك ايقنت أنه لا نهاية لهذا الطريق وأن مشاهده تتكرر كلما تصل إلى نقطة معينة. فتثبت مكانك دامعة عينك وتسمع صوتها من جديد... لا تختبئ داخل نفسك حتى ولو كانوا يصرخون عليك.. لا تغلق عينيك لهم وإن انتهت أكاذيبهم.. لا يغلبك النعاس وأنت بينهم، فقط لا تمت في هذه اللحظات.وكلما تثاقلت جفونك أجفلت على صوتها القادم من ظلمات نفسك، وفجأة أجفلت على صوتهم وهم يصرخون، تتلفت حولك ولم تجد أحدا، تتثاقل رأسك هذه المرة ثم تفيق على صوت أقدامهم، وها هم يتراءون لك من بين الدخان..من وراء الأشجار المحترقة قادمين نحوك تتباين وجوههم..هم كل من عرفتهم..كل من شاركوا في إيلامك.. كل من شاركوا في رسم جراح جديدة في قلبك حتى أدموه.وماتت مشاعرك ودُفِنَت أحاسيسك بأيديهم ولم يبق سوى عقلك يدبر لك ماذا تصنع بعد كل هذا الدمار..ها هم قادمون وقد تحولوا إلى مسوخ دميمة يمدون أذرعهم أمامهم ويمشون مشية الموتى، لقد أمتهم جميعا بداخلك ولكنك أحييتهم من جديد بدخولك إلى هنا، لقد نجحوا في اصطيادك إذن، فتنظر في وجوههم وقد عرفتهم جميعا قلوبهم شتى وصراخهم يتعالى مع اقترابهم، فتضع يديك على أذنيك وتجثو على ركبتيك ثم تدفن رأسك بينهما، تسمع صوتها يتردد بداخلك يهزك بعنف..لا تختبئ داخل نفسك....لا..لا..لا!!!ولكنك سوف تهرب الآن، ولكن أين الطريق. إنهم حولك يقتربون.. كلا لن تهرب سوف تمحوهم.. سوف تمحوهم جميعا من داخلك.. تمحو الأحداث وتمحو الأماكن.. الظروف والشخوص وتمحو كل شئ من عقلك الآن. الآن يطبقون عليك ويضعون أيديهم على رأسك.. الآن.. تمحو كل شئ من رأسك. ثم تنهض فجأة وتصرخ في وجوههم رافعا يديك إلى السماء التي يحجبها الدخان ثم تغمض عينيك برهة ثم تفتحهما من جديد وتنظر حولك ولا ترى شيئا لا تراهم وقد تلاشى كل شئ وترى صحراء واسعة مترامية أمامك فتستدير فتراها تقف تنظر لك والدموع تملأ عينيها فتنظر لها وتبدأ تتذكرها وتتذكر نفسك من جديد.
أحمد مصطفى
التعليق قصة جيدة عن أزمة الإنسان المعاصر التي لا يستطيع فيها مواجهة العالم فيهرب إلى داخله مستفزاً قواه الداخلية التي تنجح في النهاية، وهذا أمر نادر في مثل هذا النوع الكابوسي من القصص، وهذا يميز القصة. كذلك تتميز بلغتها السليمة فيما عدا خطأ واحد، وإحكام تسلسلها وجودة نهايتها. لكن القصة قد تبدو طويلة أكثر من اللازم لكني أراه مبرراً بعنف الصراع وحدة المقاومة. وأقترح تعديل العنوان لأنه مباشر ويفضح القصة (الأزمة) أكثر من اللازم. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة