هذه الرسالة ما عرفت مكانه ابدا.وقع المفاجأة عليك ثقيل ثقل الحجر.. رحت تتحرك في بطء شديد نحوه, وقد تلون وجهك بالوان شتي, بعد ان عقدت الدهشة لسانك وحدك رحت تسبح في بحر فكرك.. وحدك راحت تلاطمك امواج افكارك المتزاحمة المتشابكة, والتي استيقظت لتوها.. قلق وظنون واحتمالات خيول جامعة راحت تدهم صحراء فكرك, بشدة لتعكر صفو منامك..بانفعال مكبوت رحت تحدث نفسك ساخرا: من ذا الذي تذكرني الان..؟! لقد تناساني الاهل والاصدقاء, ولم يعد احد يتذكرني بعد ان اصبت بالشلل النصفي, الذي اخرجني من عملي, ليحيلني الي المعاش المبكر, والذ اقعدني حبيس الشقة لسنوات طويلة, اواجه آلام المر والوحدة التي راحت تقتلني ببطء شديد.. شديد جدا, عجبا انني لا اتذكر آخر مرة سمعت فيها صوت التليفون..!! فالكل تواري خلف ستائر النسيان, ذات اللون الاسود, بعد ان تأكدوا انه لم يعد باستطاعتي فعل شيء, عجبا لهذا الزمان انه كأرجوحة تظل تعلو.. وتعلو.. وتعلو ومهما وصلت الي عنان السماء فحتما سوف تنزل, كان هذا المحمول لا يتوقف لحظة واحدة ابدا دون ان يتصل بي شخص ما يرجوني في عمل شيء ما, تري من ذا الذي مازال يذكرني الي الان..؟!وما نوع هذه الرسالة..؟!! أهي مفرحة..؟! ام علي عكس ذلك..؟! فأنا لم اعد احتمل صدمات اخري, كفاني ان جعلت دنياي مني حائط صد لجميع صدمات وازمات البشرية جمعاء. تري اتكون رسالة تهنئة بمناسبة قدوم شهر رمضان الكريم..؟!ام تكون من احد اقاربي يريدني الاتصال به فور وصول رسالته كي يعرف امازلت علي قيد الحياة..؟! حت يوان كانت هذه الرسالة لن تسرني.. يكفيني سماع صوت تليفوني الذي ما زال يحيا ليشاركني وحدتي.. تلك الوحدة التي اتجرعها صباح مساء.. قبل الاكل وبعده.. ال وح دة تلك الاحرف التي لم اقرأها من قبل في سطور كتاب الحياة, الا بعد موت زهرة بستاني الوحيدة.. زوجتي التي باغتتني ورحلت فجأة دون سابق انذار.. رحلت فسقطت فجأة من فوق الكرسي, كرسي العرش الذي اجلستني عليه, لاصبح ملكا متوجا, كانت رحمها الله تعالي تشعرني اني كل الرجال, رغم شدة ضعفي الظاهرة للجميع. كانت تشعرني اني قادر علي فعل كل الاشياء دون مساعدة من احد.. وانني.. وانني..وانني.. رحلت دون ان احقق رغبتها الوحيدة والفقيرة في هذه الحياة.. ان تصبح اما, ورغم اني كنت السبب الوحيد والرئيسي لعدم تحقيق رغبتها الوحيدة والفقيرة في هذه الحياة.. ان تصبح اما, ورغم اني كنت السبب الوحيد والرئيسي لعدم تحقيق هذا الحلم الا انها لم تشعرني يوما بعجزي, بل انها راحت تحول كل عجز يتملكني الي قوة, ولان الانجاب صار امرا مستحيلا, فقد جعلت مني طفلها الوحيد الذي لا تريد غيره, فراحت تدللني, وتهدهدني, وصارت توقظني من نومي كل صباح باسم جديد, حمادة.. حودة.. دودي..ابو حنفي.. بابا حياتي.. عمري.. قلبي.. توجتني بتيجان الاسماء.. كل الاسماء, حتي شعرت اني في جنة الخلد.. نعم في جنة الخلد تري ن ذا الذي تذكرني فجأة بعد سنوات النسيان المنفية من قاموس الحياة..؟! تري ايكون عبد الرحمن اخي الوحيد..!! لا اعتقد فقد انقطعت رجلاه عن زيارتي فور موت زوجتي, ولكنه والحق يقال يدوم علي الاتصال بالبواب ليعرف منه امازلت علي قيد الحياة..؟!! سوف اري.. سوف اري, بسم الله الرحمن الرحيم.. اللهم اجعله خبرا سارا.. تقولها ويدك ترتعش لالتقاط الموبايل, تأتي بصندوق الوارد, في لهفة رحت تقرأ علي نفسك محتويات الرسالة: القيوم.. الماجد.. الواحد.. الاحد.. الصمد.. القادر.. المالك.. الرحمن.. الرحيم.. الله لا يعجز ابدا..ارسالها ل تسعة اشخاص واسمع خبرا سعيدا بعد خمس دقائق من ارسالها, علما انك لو تجاهلتها يصيبك حظ سيئ ل تسعه سنوات قادمة, وقد ثبت انها حقيقة.. ارجوك لا تخاطر انها من اسماء الله الحسني تبحث عن مصدر الرسالة, ومن صاحبها فلا تجد لا رقما.. ولا اسما.. تتعجب من هذا الامر, تعاود قراءة الرسالة مرة بعد مرة, تهمس في صمت: ارسلها ل تسعة اشخاص واسمع خبر سعيدا بعد خمس دقائق من ارسالها. ياه ه ه ه ه ه خبر سعيد انني لم اسمع خبرا سعيدا منذ رحيل زوجتي قرابة اثني عشر عاما.. يلفك حزن وصمت موحش..رحت تفكر.. وتفكر.. ثم تقرر ان ترسلها الي تسع اشخاص, ولكن من هم التسعة اشخاص..؟! وكل من تعرفهم هجروك, وطردوك من ذاكرتهم شر طردة تعلنها في يأس:ارسلها الي تسعة اشخاص لا اعرفهم ولا يعرفونني, كل ما علي فعله ان اكتب عشرة ارقام وهمية, المهم ان ارسل ال تسع رسائل في عجلة حت يانتظر بعد ذلك ذاك الخبر السعيد الذي لا اعرف نوعه او حتي مصدره.تجلس علي كرسي مكتبك.. تضيء الاباجورة.. تشرع في ارسال اول الرسائل التسع, وكلما ارسلت رسالة قمت بكتابة رقمها علي الورقة, وكلما اقتربت من الرسالة التاسعة والاخيرة تجد قلبك يدق دقات سريعة متتالية علي غير العادة خوفا من نفاذ رصيدك ومن ثم تفشل محاولتك.. احمدك يارب.. لم تخذلني.. احمدك يارب.. لم تخذلني..رحت ترددها في سعادة وانت ترفع يديك الي سقف صالة بيتك بعد ان ارسلت ال تسع رسائل بنجاح.. راحت عيناك تحدقان وبشدة في قرص الساعة الدائرية المعلقة علي حائط حجرتك, تعد الدقائق في شوق, البيت كئيب مهجور من كل حركة او صوت, سوي صوت انفاسك المرتفعة وصوت بندول الساعة, وجدت نفسك تفكر في حيرة شديدة من امرك:تنظر الي صورة زوجتك حبيسة بروازها الخشبي منذ سنوات, والي ابتسامتها اخر ما تركته لك, تلك الابتسامة التي تهون عليك موارة العيش والوحدة داخل هذه الشقة, عدت تسأل نفسك من جديد:تري ما هو ذاك الخبر السعيد..؟! الذي بمجيئه سوف يعيد الي ثقتي بنفسي..وعندما لم تصل الي اجابة رحت تبحث وتفتش بداخلك عما ترجوه ويسعدك.. فكرت ثم قررت ثم قلت: انه المال.. نعم المال الوفير الذي يجعلني اعيش ما تبقي لي من ايام في سعادة, المال الذي يجعل من تفرقوا من حولي يعودون الي مرة اخري, انه المال ذاك السكر الذي يجعل من مرارة ايامي حلاوة, سوف ادفع الايجار المتأخر علي, واشتري الدواء.. كل الدواء الذي ارجأته من قبل, و...و...و...و... الثواني تمر بطيئة تجر خلفها الدقائق وانت.. انت مازلت تنتظر, تخفف من صوت انفاسك الخارجة بقوة, فأنت لا تريد ان تسمع سوي وقع بندول الدقائق وهو يتحرك. جلست تمضغ العجز والفشل ولم يعد علي لسانك غير: الصبر.. الصبر.. الصبر.وشيئا فشيئا تمر الدقائق الخمس سريعا, ومن ورائها خمس اخري, تضيق بنفسك وبصبرك, بدا الشك يتسلل الي نفسك ورحت تحدث نفسك في ذهول: لماذا لا تكون المسألة كلها خدعة.. نعم خدعة من قبل شركة التليفون.. نعم انها خدعة كبيرة.. كبيرة جدا وانا ضحيتها الوحيد علي وجه الكرة الارضية.. في الم وحسرة رحت تنزل ستائر حزنك ذات اللون الاسود, بعدما تصورت ان الدنيا ستصبح ملكا لك.. لك وحدك, ووجدت نفسك تهذي بكلماتك المكبلة بالاغلال كسلاسل قيد حديدية: السماء بعيدة.. بعيدة جدا.. والحلم يعيد.. وزهرة عمري بعيدة هي الاخري..وفي غيظ شديد رحت تضرب كفا بكف.. تلعن ايامك, وذلك االيوم الاسود, وتلك الرسالة التي جعلتك تركب ارجوحة الزمان التي رفعتك عاليا الي عنان السماء تحلق في فضاء حلمك الواسع لدقائق معدودة لتهوي بك فجاة علي رقبتك.. آه ه ه ه ه يخرج صوتك مشروخا.. تمسك بكتابك الوهمي, رحت تقلب صفحات همومك الواحدة تلو الاخري, تحاول جاهدا ان تغلق ذاك الكتاب فيرفض مثل كل المرات السابقة.. يحضر الماضي الي الحاضر عبر مشاهد دالة, متقطعة, متداخلة مع اللحظة الآتية الراهنة.. تقوم من مكانك.. لا لشيء سوي الهروب مما انت فيه.. فجأة.. يدق باب حزنك... تهزك رعشة فرح المفاجأة.. تنتفض كعصفور بلله المطر, تجد نفسك تردد في سعادة غامرة: انه الخبر السعيد المنتظر.. انه الخبر السعيد المنتظر.. تعاود سماع دق بابك مرة ثانية.. الشك اللعين جعلك تصمت بعدما هربت الابتسامة من وجهك, لقد ساورك شك في ان الطارق ربما يكون البواب الذي يأتيك من وقت لاخر لينفذ وصية اخيك كي يتأكد.. اما زلت علي قيد الحياة..؟! او يكون صاحب العمارة وقد اتي لاخذ الايجار المتأخر عليك منذ شهور.. او ربما يكون قاريء العداد, ثورة الشك جعلت راسك يكاد ينشق لنصفين, وللخروج سريعا من هذه الدوامة, خرج صوتك قويا من داخل جوفك المظلم: من.. يأتيك الصوت سريعا.. انا.. يتفتح وجهك اشراقا, بعد ان تأكدت ان هذا الصوت غريب عن كل الاصوات التي تعرفها.. يعاودك النشاط والحيوية.. مبتسما تفتح باب حزنك.. حضرتك الاستاذ مروان محمد اسماعيل.. مبتسما قالها الواقف امامك.. اسكتتك ابتسامته, ونظراته الحادة للحظات, ثم رحت تقول: نعم.. انا مبروك حضرتك ربحت معنا في برنامج المسابقات الشهير كورمبو وقدرها مائة الف جنيه.. عقدت الدهشة لسانك.. تتجمد في مكانك.. تشعر وكأن الدنيا تدور من حولك, بعد ان اخذتك المفاجأة, تجد نفسك تضحك.. وتضحك.. وتضحك في هيستيريا.. الشاب الواقف امامك يتراجع خطوتين خشية ان تكون المفاجأة قد اصابتك بالجنون, رحت تحدث نفسك في صمت: انه الخبر السعيد.. لقد تأخر كثيرا..كثيرا جدا, جدا ولكنه جاء.. جاء باكثر مما حلمت به.. من فضلك اكتب اسمك رباعيا, ورقم البطاقة.. تمسك بقلم الموظف.. تشرع في كتبة اسمك.. يهتز القلم بين اصابعك فجأة.. يعتلي وجهك ذبول وشحوب, وسكنته الكآبة.. بعد ان هوت الصفعة القوية علي وجهك.. وقفت للحظات تعيد علي نفسك قراءة الاسم مرة ومرات لتتأكد من ان الخبر السعيد الذ يانتظرته طويلا لم يكن يقدك انت وانما جاء خصيصا لصاحب العمارة الساكن امامك في الشقة المقابلة, والذي يمتلك نصف مباني الشارع وربما اكثر, التشابه الوحيد فيما بينك وبينه هو الاسم الثلاثي فقط, اما الاسم الرابع فليس من حقك.. امض يا استاذ مروان.. تعطيه الدفتر والقلم, وفي عينيك لمعة من دمع, رحت تقول في هدوء وانكسار: انا اسف هناك تشابه في الاسماء بيني وبين الحاج مروان صاحب العمارة.. وبأصبع ترتعش رحت تشير للموظف علي باب الشقة المطلوب.. وقفت برهة تتأمل الخبر السعيد الذي انتظرته طويلا وهو ينسحب من امامك رويدا..رويدا مع وقع خطوات الموظف يأتيك صوت زغاريد يتبعها قهقهات ليضيف الي اللوحة مزيدا من الاسي والالم ولتكتمل اللوحة السريالية التي راحت ترسمها الايام كأفضل مفن اقصد فنانا علي طريقة الخطأ الشائع علي جدار بيتك.. تغلق باب حزنك علي نفسك.. تجر قدميك المكبلتين باثقال الهزيمة القاسية وخيبة الأمل التي لم تتوقعها قط. محمود احمد علي ابراهيم.. الشرقية