في العالم العربي، من الصعب أن نرى حاكماً يعود للحكم بعد أن خرج من قصور الرئاسة، ولكن الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة أسفرت عن فوز القائمة العراقية الوطنية بواحد وتسعين مقعداً، مما يكفل لرئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي تشكيل الوزارة العراقية الجديدة، ويعني فعلياً أن يحكم العراق لمدة أربع سنوات مقبلة. فقد حصلت القائمة العراقية على 91 مقعداً، بينما حصل ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي على 89 مقعداً، والائتلاف العراقي الموحد بزعامة عمار الحكيم ومقتدى الصدر عام 71 مقعداً، إضافة إلى 43 مقعداً ذهبوا إلى التحالف الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني وجلال الطالباني، بينما حصلت جبهة التوافق العراقية على 6 مقاعد فحسب. عودة السياسة على حساب الطائفة عودة علاوي للحكم لم تكن متوقعة، فالرجل زعيم حزب وليس زعيم طائفة، بينما العراقيين صوّتوا خلال انتخابات مجلس النواب عامي 2005 و2006 لأسباب طائفية بحتة، حيث راح الشيعة يصوِّتون للائتلاف العراقي الموحد، وهو تجمع حزبي وعشائري وديني يضم ساسة موالين لإيران، ويحكم هذا الائتلاف فعلياً رجل الدين الإيراني آية الله علي السيستاني المقيم بالنجف الأشرف جنوب العراق. أما السنَّة فراحوا يصوّتون إلى جبهة التوافق العراقية، التي كانت تضم جماعات سياسية ودينية وعشائرية سنية، على رأسها الحزب الإسلامي الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين بالعراق، إلى جانب بعض رجالات الصف الثالث والرابع في حزب البعث. وكان الأكراد يسارعون بالتصويت لصالح التحالف الكردستاني، الذي يضمّ حزب الزعيم الكردي الملا مسعود برزاني، وحزب الزعيم الكردي جلال الطالباني، وبالمثل كان المسيحيون والشبك والتركمان والآشوريون وباقي مكونات الشعب العراقي. ولكن خلال السنوات الأربع الماضية، أدرك الشعب العراقي حقيقة الشَّرَك الطائفي المنصوب له من قبل قوى إقليمية ودولية، من أجل تحويل العراق إلى دويلات طائفية وعرقية، كردية في الشمال، وشيعية في الجنوب، وسنية في الغرب، كما أن العديد من التيارات السياسية أدركت خطورة الانصياع للأمريكان، أو لدول الجوار العراقي مثل إيران وسوريا أو حتى السعودية. في انتخابات 2010، صوت السنَّة لصالح إياد علاوي، ولم يكن السبب أن ائتلافه ضم شخصيات سنية هامة، ولكن لأن وزارة علاوي الأولى (1 يونيو 2004 – 10 أبريل 2005) لم تُطلق سراح ميلشيات سرايا القدس وجيش المهدي وفيلق بدر لإقامة مذابح ضد الشعب العراقي وضد السنة في العراق، كما أن علاوي بعثي سابق، والبعث حتى يومنا هذا يحظى بشعبية كبرى في العراق سواء بين السنة أو الشيعة الذين لا ينتمون إلى التيار الديني. علاوي حارب السنة والصدريين ويحظى بتأييدهم سنة العراق استطاعوا التفرقة بين علاوي السياسي الذى قصف الفلوجة عام 2004 من أجل تهدئة الوضع الأمني وفقاً لحساباته، وبين أحزاب أخرى قصفت المناطق السنية بهدف إبادة السنة في العراق، تماماً مثل السيد مقتدى الصدر، الذي فرَّق بين قيام علاوي بمحاربة انتفاضة الصدر الأولى عام 2004 لتهدئة الوضع الأمني، وبين محاولة نوري المالكي القضاء على الصدر نفسه وعلى جيشه في إطار منافسة سياسية بين التيار الصدري وحزب الدعوة -الذي ينتمي إليه المالكي– على سدة حكم الجنوب العراقي. الفارق بين أهداف علاوي السياسية وأهداف المالكي الطائفية جعلت المقاومة والعشائر السنية من جهة، والزعيم الشيعي مقتدى الصدر من جهة أخرى يدركون أن علاوي أفضل خيار لهذه المرحلة، لذا صوّت له السنّة، بينما أعلن مقتدى الصدر مراراً خلال العام الماضي أنه أصبح قريباً بشدة من معسكر علاوي. وعقب الانتخابات أعلن الصدر تأييده لتولي علاوي الوزارة على حساب المالكي، علماً بأن الصدر عضو في الائتلاف العراقي الموحّد، ولكن لديه 30 عضواً بمجلس النواب الجديد، مما جعله يلعب دور صانع الملوك خلال الفترة المقبلة، ويضع المالكي في مأزق. علاوي الشيعي العلماني يهزم الإخوان المسلمين وكان من نتاج تصويت السنة لصالح علاوي وقائمته، أن قائمة جبهة التوافق العراقية التي سيطرت على الوسط السني السياسي لأربع سنوات قد فقدت هيبتها، وفقدت دورها السياسي، ووضعت هذه النتائج جماعة الإخوان المسلمين في العراق بمأزق خطير بعد فقدان دورهم السياسي وخروجهم من إطار اللعبة السياسية طوال السنوات الأربع المقبلة. لم يكن التيار الإسلامي السني ضحية القائمة العراقية فحسب، ولكن الائتلاف العراقي الموحد الذي اعتاد أن يقدّم نفسه على أنه المتحدث الرسمي باسم طموحات وحقوق شيعة العراق خسر هو الآخر خلال الانتخابات مكانته السياسية، ولم يحظَ إلا بأصوات الجنوب الشيعي، ليتم وضع هذا الائتلاف في إطاره الحقيقي كتيار سياسي يستغل المشاعر الدينية، بل إن الائتلاف العراقي الموحّد يعاني من تصدّع مقبل، يتمثل في رغبة التيار الصدري –أحد مكونات هذا الائتلاف– في نزع زعامة الائتلاف عن عمار الحكيم وإسناده إلى قُصيّ عبد الوهاب، وقد يبدو هذا المطلب ذا واجهة سياسية، ولكنه في واقع الأمر حلقة من حلقات التنافس على الزعامة الدينية السياسية بين آل الحكيم وآل الصدر. الأكراد ينقلبون علي أنفسهم وكما أظهرت النتائج فإن الائتلاف العراقي الموحد أصبح تكتلاً جنوبيا يعتمد على أصوات الموالين لإيران، فإن التصويت في المناطق الكردية أوضح أن التحالف الكردستاني أصبح المفضّل لأكراد الشمال، بينما أكراد وسط العراق أصبحوا يصوّتون لقوائم أخرى، مثل قائمة التغيير (8 مقاعد)، والاتحاد الإسلامي الكردستاني (4 مقاعد)، والجماعة الإسلامية الكردستانية (مقعدان). ماذا بعد الانتخابات؟ بعد هزيمة التيارات الدينية السنية والشيعية، وتفهم الناخب العراقي أن الائتلاف العراقي الموحّد تكتل جنوبي، والتحالف الكردستاني تكتل شمالي، أصبح العراق أمام واحد من خيارين.. إما الأخذ بنتائج الانتخابات وتكليف إياد علاوي بتشكيل الوزارة الجديدة، ووقتها سوف يتم تسمية جلال الطالباني رئيساً للجمهورية، وتشكيل وزارة متجانسة قوية، تعمل مع الإدارة الأمريكية على تنفيذ الانسحاب الأمريكي من العراق، كما أن علاوي معروف بسياسته الأمنية الصارمة والحازمة، والتي تلتقي أصولها مع صدام حسين حينما تزامل الاثنان بحزب البعث خلال فترة صعود صدام، والأهم أن علاوي ذو علاقات حسنة مع سوريا والسعودية ومصر، وهو أمر مطلوب للعراق منذ سنوات، وهو أمر غير مرضي عنه في إيران. الخيار الثاني يتضمن الالتفاف حول النتائج الانتخابية، عبر دمج بعض القوائم الانتخابية، حيث يسعى نوري المالكي إلى الاندماج مع الائتلاف العراقي الموحد، من أجل تشكيل أغلبية برلمانية أكبر من قائمة علاوي، وبالتالي يقوم المالكي بتشكيل الوزارة الجديدة، ليستمر المالكي ذو النزعة الأمريكية في قيادة العراق، ويستمر العراق بعيداً عن محيطه العربي، والأخطر أن المالكي لم يعُد على وفاق مع الاتئلاف العراقي، مما يعني أن حكومته حال تشكيلها لن تكون متجانسة، وسوف تكون مجرد محاصصة سياسية وطائفية بغيضة تجعل العراق يعود إلى ما قبل انتخابات 2010 وكأن شيئاً لم يكن. أوباما هو الفيصل ووسط كل هذا لا يمكن نسيان دور أمريكا الرئيسي على المسرح العراقي، فالسؤال الأهم الآن لا يتعلق برغبة مقتدى الصدر في ترجيح المالكي على علاوي، أو العكس، ولكن السؤال الحقيقي الآن هو مدى استعداد أمريكا لتقبل هذا أو ذاك.. هل تريد واشنطن بالفعل زعيماً مثل علاوي يعيد الأمن إلى العراق؟ أم إن دوامة العنف مفيدة لها؟؟ هل علاقات علاوي الحسنة مع الرياض والقاهرة ودمشق مرغوب بها في واشنطن، أم تريد واشنطن أن يظل العراق بعيداً عن محيطه العربي؟؟ هل تفضّل واشنطن أن يحكم العراقَ ائتلاف موالٍ لإيران، بديلاً عن صحوة الاعتدال العراقي الجارية اليوم؟؟ والأهم.. هل ينتهي هكذا شهر العسل بين حلفاء طهرانوواشنطن في العراق، وتشكّل حكومة تكنوقراطية علمانية بدلاً من المحاصصات الطائفية؟؟ الأيام المقبلة وحدها هي القادرة على الإجابة، خاصة أن واشنطن لم تقُلْ كلمتها حتى الآن.