استمع الرئيس الأمريكي إلى سفير بلاده في القاهرة، في اهتمام، عبر جهاز اتصال رقمي خاص مؤمَّن، قبل أن يتنهد في توتر، قائلاً: - من الواضح أننا قد أسأنا إدارة هذه الأزمة، على نحو كبير.
أجابه سفيره من (القاهرة): - هذا صحيح يا سيادة الرئيس... منطق القوة لم يفلح هذه المرة مع المصريين... لقد دفعنا الإسرائيليين إلى اقتحام (سيناء) بالقوة، وكسر معاهدة (كامب ديفيد)، وتجاوزنا كل المواثيق الدولية، وهاجمنا الأراضي المصرية، واقتحمنا مقارّهم السرية، واستخدمنا أحدث أسلحتنا وتكنولوجيتنا، ووسائلنا للرصد الجوي والفضائي؛ حتى يمكننا الاستيلاء على المركبة الفضائية وذلك الكائن؛ ولكن المصريين كانوا أكثر حنكة وخبثاً.
زفر الرئيس الأمريكي في توتر، وغمغم: - نسفوا المركبة، وقتلوا الكائن، وخدروا وأسروا رجالنا.
أضاف السفير، في شيء من العصبية: - وأجبرونا على إيقاف القتال، ودفع الإسرائيليين للانسحاب الفوري، وتقديم اعتذار رسمي أيضاً.
قال الرئيس الأمريكي بنفس التوتر: - الإسرائيليون أنفسهم كانوا يتمنون حدوث هذا.
وصمت لحظات، قبل أن يسأل، في توتر أكثر: - وماذا عن رجالنا؟!.. أجابه السفير محنقاً: - سيعيدونهم إلى الديار، فور اكتمال انسحاب الإسرائيليين، وإعلان اعتذارهم الرسمي.
غمغم الرئيس الأمريكي: - وكيف سيتم تبرير الأمر للمصريين؟!... أقصد الشعب وليس الحكومة.
صمت السفير لحظات، ثم أجاب في خفوت: - حكومتهم لديها أساليب عديدة لطمس الحقائق.
بدا صوت الرئيس الأمريكي أشبه بالزمجرة، وهو يجيب: - كل الحكومات لديها وسائل مشابهة.
وصمت لحظة، ثم أضاف: - تختلف في سبلها فحسب.
تمتم السفير في توتر: - بالضبط يا سيادة الرئيس.... بالضبط.
جمعت بينهما لحظة من الصمت، وكأن كلاً منهما يعيد ترتيب أفكاره، أو كأنهما يبحثان عن وسيلة لإدارة دفة الحديث، قبل أن يقول الرئيس، في لهجة حملت الكثير من الغضب والغيظ: - ما يدهشني حقاً هو ما فعلوه... كيف يدمرون كشفاً علمياً عظيماً كهذا؟!... كيف؟!..
"سنكون حمقي حقاً، لو كنا قد فعلنا..." نطق رجل الأمن العبارة في ثقة، مع ابتسامة كبيرة، جعلت (جو) يهتف في انبهار: - إذن فقد كان الأمر كله...
قاطعه رجل الأمن، مكملاً عبارته: - خدعة... بالضبط... لقد رتبنا الأمر منذ البداية... كنا نعلم أنهم لن يتورّعوا عن فعل أي شيء في سبيل الحصول على تلك الطفرة التكنولوجية الهائلة، الهابطة من الفضاء؛ لذا فقد وضعنا أحد أكثر سيناريوهاتنا تعقيداً... نقلنا ذلك الكائن ومركبته إلى هنا، وسرّبنا إليهم هذا؛ بل وجازفنا بتسريب موقع مقر الطوارئ السرّي إليهم، على نحو جعلهم يتصورون أن شراء ذمم رجال الأمن هنا، ليس بالأمر العسير، ولأنهم يعيشون غطرسة القوة، منذ سقوط الاتحاد السوفيتي؛ فقد راحوا يرصدون الموقع الذي أخبرناهم به، أو سربناه إليهم، بأقمارهم الصناعية، المختصة بالأبحاث الجيولوجية، والتي نعلم أنها قادرة على كشف ما في أعماق الأرض، ولكي نقودهم إلينا في سهولة، رفعنا الحاجز المانع للاختراق، من سطح المقر، وهكذا أمكنهم رصده.
ارتفع حاجبا (جو) في انبهار، وهو يقول: - وخاطرتم بجلبهم إلى هنا؟!...
رفع الرجل سبابته، قائلاً في حزم: - عندما أكمل، ستدرك أنه سيناريو عبقري.
أشار إليه (جو) في لهفة، قائلاً: - أكمل.
تنحنح الرجل، وقال، مواصلاً حديثه السابق: - في نفس الوقت، استعدينا لاستقبالهم، ولنقل كل شيء إلى المقر الاحتياطي، الذي تربطه بالمقر الأوَّل شبكة من ممرات تحت أرضية معقدة؛ معدة بحيث يتم نسفها، وإخفاء معالمها تماماً، عقب مرور آخر شخص منها، وهذا ما شاهدته بنفسك.
سأله (جو) بأنفاس مبهورة: - إذن فقد كنتم قادرين على منعهم؟!..
أشار الرجل بسبابته مرة أخرى، قائلاً: - ومنذ اللحظة الأولى.
بدت دهشة عارمة على وجه (جو)، وهو يسأله: - لماذا تركتموهم ينسفون كل شيء إذن؟!...
اتسعت ابتسامة الرجل، وهو يجيبه: - هذا هو الجزء الأساسي من الخطة. لعبة... ما فعلتموه ليس لعبة (رسوم: فواز) ثم مال نحو (جو)، متابعاً في نشوة ظافرة: - لقد اقتحموا المكان، وكلهم ثقة في قوتهم وبأسهم وتكنولوجيتهم، وسمعوا بعد اقتحامهم انفجارات مدوّية، ثم عثروا على شظايا المركبة المنفجرة، وجثة الكائن، فما المفترض أن ينقلوه إلى قيادتهم فوراً؟!..
تألقت عينا (جو) في انبهار، وهو يهتف في حماس: - أنكم، في غمرة إحساسكم بالهزيمة، نسفتم كل شيء، واتخذتم خيار (شمشون)[1]
هتف الرجل، مشيراً إليه: - بالضبط... ولقد انتظرنا هذه اللحظة بالتحديد، التي أبلغوا فيها قيادتهم، بأننا قد ضحينا بكل شيء وبعدها أفقدناهم وعيهم، وأسقطناهم في أسرنا... هل فهمت اللعبة؟!..
ظل (جو) يحدّق فيه بضع لحظات مبهوراً، قبل أن يغمغم في صوت مبحوح، من فرط الانبهار: - لعبة... ما فعلتموه ليس لعبة.
ثم ارتفع صوته، وهو يكمل هاتفاً: - إنها عبقرية!..
ابتسم الرجل ثانية، وهو يقول: - ألم أقل لك؟!..
ظل (جو) يهز رأسه لحظات، عاجزاً عن النطق، قبل أن يهتف: - الشظايا يمكنني فهمها؛ فهي مجرد شظايا؛ ولكن كيف يمكنكم خداعهم بشأن كائن غير أرضي؟!...
أشار رجل الأمن، إلى القاعة، التي هي نسخة طِبق الأصل من القاعة السابقة، حيث تسبح مركبة الفضاء في منتصفها، وحولها طاقم العلماء نفسه، في حين يوجد ذلك الكائن الفضائي، داخل قفص زجاجي مماثل في نهايتها، وقال مفسراً: - عندما سقطت المركبة، كان فيها ثلاث كائنات، اثنان لقيا حتفهما مع الاصطدام، والثالث هو ما كنت تتحدث إليه منذ البداية.
انعقد حاجبا (جو)، وهو يندفع نحو الكائن، قائلاً: - من كنت أتحدث إليه يا رجل.... من وليس ما... إنه عاقل مثلي ومثلك.
وتوقف عندما بلغ جدار ذلك القفص الزجاجي، وهو يلهث من فرط الانفعال، مكملاً: - بل ربما كان أكثر عقلاً منا.
اعتدل الكائن في لهفة واضحة، عندما رآه، واتجه في سرعة إلى الجدار الزجاجي من ناحيته، ولمسه بأطراف أصابعه، و(جو) يضيف، ولهاثه يتصاعد مع انفعاله: - بكثير.
بدت نظرة مودة وارتياح واضحة، في عيني الكائن، وغمغم بكلمات خافتة، فابتسم (جو)، وقال في حنان عجيب، وكأنه يحدث ابنه. - (موجال).. كم أصابني القلق والحزن بشأنك.
كان من الواضح أن الكائن لم يستطع فهم كلماته، ولكنه استوعب ملامحه وانفعاله، وذلك الدفء في صوته، فلم يزد عن أن قال: - (جو)... (جو)...
انعقد حاجبا رجل الأمن، وقال في توتر: - لقد تعرّفك!...
أجابه (جو)، دون أن يلتفت إليه: - إنه كائن عاقل... وذكي... للغاية.
لم يحاول رجل الأمن التعليق على العبارة؛ وخاصة عندما أشار (موجال) إلى أجهزة، تشبه تماماً الأجهزة السابقة، وكأنه يطلب من (جو) استخدامها؛ فابتسم (جو) وأضاف في خفوت: - ألم أقل لك... إنه يفهمنا.
واتجه نحو الأجهزة البديلة، وهو يسأل في اهتمام: - ماذا عن الخريطة الفلكية؟!..
تنحنح رجل الأمن، وقال في حزم: - هذا يتوقف على رأي الخبير الثاني.
التفت إليه (جو) في دهشة، متسائلاً: - أي خبير ثان؟!...
وعندما أخبره رجل الأمن، ارتفع حاجباه، واتسعت عيناه عن آخرهما... فهذا آخر ما يمكنه أن يتوقعه... على الإطلاق. يتبع
لقراءة الأعداد السابقة من "أكشن" إضغط على لينك أكشن الموجود بجوار اسم د. نبيل فاروق ------------------------------------------------------------
[1] خيار (شمشون): مصطلح يطلق على مرحلة يطلق عليها اسم التضحية بالجميع، وهو مأخوذ من قصة (شمشون)، الذي أفقدته (دليلة) -في التوراة- قوته، عن طريق قص شعره؛ فطلب من الله أن يعيد إليه قوته لحظة، هدم خلالها المعبد، على رأسه ورءوس من أسروه، وهتف بعبارته الشهيرة (علىَّ وعلى أعدائي).