من الذي قال: الثمار تتجاوز وعود الأزهار، في هذه الزاوية الأسبوعية التي حرضتني محبتي لإيهاب كامل علي قبولها، كما حرضتني اختيارات يحيي حقي وغرائبه، فالرجل القصير الطيب صاحب الكناسة وصاحب القنديل، فضّل الكتابة في جريدة التعاون، علي الكتابة في أهرام زمان، أهرام زكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم وحسين فوزي ويوسف إدريس وبنت الشاطئ والشرقاوي، وعلّل تفضيله للتعاون بتفضيله للحرية علي الانتشار، خاصة أن الحرية يجب أن تكون شأنه، أما الانتشار فالصواب منه ألا يكون من شأنه، هذا هو يحيي، وهذه خزانتي، أما بعد، فحظوظي بالتأكيد أدني من حظوظه، صديقي الروائي محمود الورداني دعاني للكتابة في أسبوعية البديل، لكنني خفت واعتذرت، وصديقي الدكتور نبيل عبدالفتاح نصحني بالأهرام المسائي وعرض وساطته، وأيضا خفت واعتذرت، وبينهما كنت قد استجبت ليومية روزاليوسف، خايلني زقاق فاطمة اليوسف، فرح الأنجال سابقا، خايلني إحسان وأمه، خايلتني الأسماء كلها، صلاح عبد الصبور وجاهين، أحمد حجازي، أحمد هاشم الشريف، أحمد بهاء الدين، محمود السعدني، علاء الديب، فتحي غانم، صلاح حافظ، والكتاب الذهبي، قلت لنفسي: هي روزاليوسف إذن، وتخيلت حقي يقولها لنفسه: هي التعاون إذن، وتمنيت أن أنال ما يعادل نصيبه من الحرية التي نالها، من الذي قال: الثمار تتجاوز وعود الأزهار، لعله ماليرب، في هذه الزاوية، سبق أن كتبت عن فاروق شوشة صاحب لغتنا الجميلة، نهلت منه ومنها طوال صباي ومراهقتي وأول شبابي، حتي اعتبرتهما معا مكونين من مكوناتي، هو الدليل، وهي المادة الخام، ولكنه بعد أن تآلفنا، بدأ يقطع طريقي أحيانا، ويوقفني أمام فاترينة مكتبة أو كشك جرائد، وينبهني إلي دواوينه، فأغضّ الطرف، ولما ألحّ، اعترفت لنفسي أن شعره بعيد عن أول نظراتي، وآخر فضولي، بعيد عن أطراف أصابعي، وعن نافذتي، ومع ذلك، وهذه إحدي سجاياي، لم أعتقد قط أنني انتهيت منه، صحيح أنه من الممكن أن نجتهد ونخمن نهاية أي شيء، ومن الممكن أن نصيب، لكننا قد نخطئ، وإذا انطبق هذا علي كل أمورنا، فإنه علي الشعر أصدق، ولا يمكن لعراف أن يتنبأ بما سيفعله شاعر في قادم أيامه، كان نقاد الشعر قد عودونا علي جهلهم بأسرار الشاعر وبجحيمه السري، رأيناهم يقرنون خصوبة الشاعر بكتاباته، ويقرنون جفافه بصمته، فضحكنا، رأيناهم يسحبون منه الجنسية إذا توقف بعض الوقت، فضحكنا، رأينا آخرين يتبعونهم، ويصدقونهم، ويثقون في علمهم الغزير، فأسفنا، حتي أننا عندما أحاطوا صمت الشاعر حجازي بالغمغمة ثم التمتمة، ثم الجهر، ثم الصراخ، وأوعزوا أنه صمت العاجز، صمت الفناء، كأنهم يطالبونه بالاعتذار عن أهليته كشاعر، ويطالبون باعتزاله، ساعتها عرفنا أنه لا نهاية لما سيقودهم جهلهم إليه، لأن الصمت الطويل قد يكون مواسم حمل، قد يكون قصائد لم تتم، قصائد كبيرة تحاول أن تمرق من رحم ضيق، الغريب أن الشاعر حجازي قد ارتج، وتلعثم، أجبره خصومه علي الشك، وذهبوا به إلي منطقة البحر الميت، وهي منطقة الكتابة بالعمد، الشعراء كلهم يعرفون معني الصمت، وبعض النقاد يتصورون أن الشاعر إما شغيل، وإما عاطل، ويضحكون ممن يقول: إن الكلام استراحة من التفكير، عموما مثلما كان شعر حجازي في مدينة بلا قلب وفي مرثية العمر الجمل وفي كائنات مملكة الليل، قريبا من قلبي ويدي ولساني، قريبا من أناملي كان شعر فاروق شوشة بعيداً جدا، قلت لنفسي: ربما الاختلاف، ولم أصدق، قلت: ربما وقوعهم تحت سلطة محفوظاته، ولم أصدق، قلت: ربما تجنبه الخوض في نيران كل شيء وإيثاره السلاقة، ولم أصدق، واكتفيت باليأس والانصراف، كنت أول شبابي أتغطرس وأضع فاروق مع بعض من يحملون اسمه في حزمة أسميها الفواريق، ولكنني اكتشفت أنني أظلمه، وأظلمهم، فهو في مقام لا يمكن أن ننكره، وفاروق الآخر في غير مقام، فمقام العامة ليس مقام، ومقام الركاكة ليس، كذا مقام الجهل، أما المراهقة، فالشعر تحديدا يكره أن يكون قائله مراهقا أو عجوزا، الشاعر سواء كان رامبو أو سعيد عقل، سواء كان التيجاني يوسف بشير أو أحمد شوقي، الشاعر دائما غير مراهق وغير عجوز، بغضّ النظر عن عمره، إنه يملك كل الأزمنة التي سبقته والتي ستليه، عمره من عمرها، وبصيرته من بصيرتها، ليس سوبرمان، لكنه يملك فتوة هذه البصيرة وإن توكأ علي عصا، لذا فإن فارق الآخر بمراهقته لن يحوز مقاماً، ظلمت الفاروقين شوشة وسميه، بأن خفضتُ قدر الأول ليكون مع الثاني، وهو لا يستحق مني الخفض، ورفعت قدر الثاني لإلحاقه بالأول وهو لا يستحق الرفع، ولما انتبهت، تراجعت عن تسميتهما بالفواريق، وآثرت التوبة، وعزفتُ تماماً عن الكلام بشأن شعر هذا ولغو ذاك، راضيا ًبما فعلت، ولكني هاأنذا أنتبه وأفيق علي سجية اعتقادي بأننا لا نستطيع أن نتنبأ بما يمكن أن يفعله شاعر ما في قادم أيامه، ولن يفيد أن يقول أحدهم وهو يشير ناحيتي: خمدت نارك يا أبله، لن يفيد أن يشير آخر ناحيتي وناحية شوشة ويقول: تهاجمه أيام البعاد، وتزهو به أيام الوداد، فالغريب أننا لم نتعارف قط، سوي تعارف الغرماء، كأن أشير إليه بيدي، ويشير هو أيضا، إذا التقينا مصادفة، ربما تصافحنا مرة أو مرتين، وكان كلامنا القصير غمغمة غير مفهومة، أنا في الجحيم حسب اعتقاده، وهو حسب اعتقادي في الأعراف، هو يسيء الظن بي، لأننا أنا وبعض زملائي، عنده وعند معارفه، محض قطيع ذئاب، وأنا أسيء الظن به، إساءتي الظن بالمحايدين الذين بسبب حيادهم وعفاف ألسنتهم، يحصلون من كل نظام، علي كل شيء، ربما قبل غيرهم من ذوي الجدارة، لم أستطع استساغة تقديم شوشة علي حجازي في جائزة الدولة التقديرية، وإن بررته مرة برغبات أمين المجلس الأعلي للثقافة المليئة بما فيها، ومرة باعتقادي أن حياد شوشة يفوق في أمنه وسلامه محاولات حجازي للتعايش السلمي والتي أحيانا تحت وطأة الضجيج يشذ فيها عن الحياد، ولكن شعريهما ظلا عندي هكذا، شوشة شعر أساتذة، وحجازي شعر ضائعين، لم أستطع استساغة كتابة شوشة عن سيف الرحبي، وإن بررتها، أكثر ما أذكره عن لقاءاتي مع شوشة، هو ذلك اللقاء الذي كان أوائل الثمانينيات، أكنت أسير في شارع طلعت حرب بالضبط أمام البن البرازيلي أو أمام سينما راديو، علي يميني ناهد ذات الوجه الخاطف والقوام المخطوف، والليونة التي يجهل حلاوتها من لم يذقها، يدي اليمني علي ظهرها، ناحية الخصر، فاروق يتجه عكس اتجاهنا، عبرني بنظرة سريعة، كأنه يعرفني، كان نجماً بما أنجزه، وكنت نجما بما لم أنجزه، ثم استقرت نظرته علي ناهد كلها، أحسست أنني أردّد معه ما يردّده في سره: ولي نظرةُ لو كان يحبلُ ناظرُ بنظرتهِ أنثي، لقد حبلتْ منّي من الذي قال: الثمار تتجاوز وعود الأزهار، لعله ماليرب، في زاويته بالأهرام، ومنذ شهر تقريبا شرع فاروق شوشة في نشر ما أسماه (وجوه من الذاكرة)، قرأت، وشعرت بالغبطة، "كان الغصن إذا هبت ريح، أو جنّة عاصفة، يلقي في حضن أخيه الغصن أمان السكن ودفء المأوي"، لم ينتبه كثيرون إلي حيلة فاروق، إلي جملة احتيالاته، إلي القالب النثري، إلي السرد الحكائي، إلي شجن الفقد ولوعة الرثاء، إلي الثوب الشفاف الماكر الموزون، ثوب الشكل، "مكتبتي الأولي، كانت بعض الفيض الهامي من حسناته: ديوان الملاح التائه، ديوان الجارم، بعض بلاغات الزيات، وترجمة مذهلة تحمل (آلام فرتر) و(رفاييل)، ينساب لعاب الغصّة مرّاً، غصته صارت ميراثي"، سرقت حيلة من احتيالات فاروق، وذهبت إلي شعراء معروفين وشباب وسألتهم عن مقالات (وجوه في الذاكرة)، ولم أقل قصائد، من قرأها، لم يفطن إلي كونها قصائد، ومن أهملني، لم يفطن، استطاع فاروق أن يحرق جبّته وجلده وقلبه وقلبي، وضع وجوهه في بئر الحياة اليومية، نقعها لينتصر علي من يزعمون شعر الحياة اليومية لهم، ولا يحققون منه إلا الأقل، لينتصر ويحققه بغير زعم، الثمار يا فاروق تتجاوز وعود الأزهار، الثمار يا فاروق، الثمار حلوة المذاق، حلوة الرائحة، حلوة الأسي، دومتَ ودامتْ ودمنا.