افتتحها وزير التعليم العالي.. أبرز المعلومات عن جامعة كفر الشيخ الأهلية (صور)    هآرتس: نتنياهو يعتزم طرح خطة لضم أجزاء من غزة لإنقاذ حكومته    مقتل شخصين وإصابة آخرين في هجوم طعن في لندن    هل تصدق رواية الزمالك في تقديم لاعبه معالي.. وما علاقة بنشرقي؟ (فيديو)    أول تعليق من محافظ سوهاج على حرائق برخيل (صور)    وزير الثقافة يعزي ويؤازر خالد جلال من كواليس عرض "حواديت" بعد وفاة شقيقه    السيسي يوجه بتوفير الرعاية الصحية اللازمة والاهتمام الطبي الفوري للكابتن حسن شحاتة    عودة انقطاع الكهرباء في مناطق بالجيزة وخروج كابل محطة محولات جزيرة الذهب عن الخدمة    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في المريوطية    رابطة الأندية: بدء عقوبة "سب الدين والعنصرية" فى الدوري بالموسم الجديد    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    الكشف الطبي على 540 مواطنًا بقرية جلبانة ضمن القافلة الطبية لجامعة الإسماعيلية    بمناسبة اليوم العالمي.. التهاب الكبد خطر صامت يمكن تفاديه    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    سميرة صدقي: عبلة كامل أفضل فنانة قدمت دور المرأة الشعبية    علاج الحموضة بالأعشاب الطبيعية في أسرع وقت    برومو تشويقى ل مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو".. سبع حكايات ومفاجآت غير متوقعة    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    هندسة المنوفية الأولى عالميًا في المحاكاة بمسابقة Formula Student UK 2025    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    أمانة الشؤون القانونية المركزية ب"مستقبل وطن" تبحث مع أمنائها بالمحافظات الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    السفارة الأمريكية: كتائب حزب الله تقف وراء اقتحام مبنى حكومي ببغداد    قنا: القبض على شاب متهم بالاعتداء على طفل داخل منزل أسرته في قرية الدرب بنجع حمادي    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    12 راحلا عن الأهلي في الانتقالات الصيفية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    منال عوض تتابع ملفات وزارة البيئة وتبحث تطوير منظومة إدارة المخلفات    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيدور دوستويفسكي ورؤيته إلى العالم والإنسان
نشر في صوت البلد يوم 26 - 05 - 2018

نيقولاي برديائيف (1874-1948) هو من أبرز الفلاسفة «المؤمنين» من بين رؤوس التيار الوجودي، وتبلورت ميوله الثورية من ناحية والفلسفية من ناحية أخرى في نوع من «العشق» لفكرة الحرية الفردية. ووفقاً لبرديائيف، فقد لعب الروائي الروسي فيدور دوستويفسكي دوراً حاسماً في حياته الروحية، كما أثار فيه من الحماسة والنشوة ما لم يثره كاتب أو فيلسوف آخر، وأنه إذا كانت المشكلات الفلسفية تمثّلت لوعيه في وقت مبكر جداً فما ذلك إلا بفضل تلك «الأسئلة اللعينة» التي أثارها دوستويفسكي بكل تأكيد. لذلك، لم يكن غريباً أن يضع برديائيف كتاباً عنوانه «رؤية دوستويفسكي إلى العالم»؛ ترجمه إلى العربية فؤاد كامل (دار آفاق 2018).
ويوضح برديائيف أن دوستويفسكي اكتشف عوالم جديدة، لا تكف عن الحركة، ولا تتضح من دونها المصائر الإنسانية، ولا يمكن دخول هذه العوالم إذا اقتصرنا في بحثنا على الجانب الشكلي من الفن أو حصرنا أنفسنا في علم النفس. وهذه العوالم هي ما أراد برديائيف النفاذ إلى أعماقها حتى أسماه تصور دوستويفسكي للعالم. وماذا يكون تصور أي كاتب للعالم، إن لم يكن هو نفاذه الحدسي Intuitive تماماً إلى الماهية الحميمة لهذا العالم، إلى كل ما يكتشفه المبدع في الكون وفي الحياة: فالأمر لا يتعلق هنا بمذهب مجرد، لا يمكن أن نطلبه – على الأقل – من فنان، ولكن ما نطلبه عند دوستويفسكي هو حدس عبقري للمصير الإنساني والكوني. حدس فني، ولكنه ليس فنياً فحسب، وإنما هو حدس عقلي أيضاً، حدس فلسفي.
ويقال إن كل عبقرية لا بد وأن تكون قومية National بالذات بقدر ما تكون إنسانية. وهذا حق لا مراء فيه إذا قصدنا به دوستويفسكي. فهو روسي حتى أعمق أعماقه، بل هو أكثر روسية من كل كُتَّاب روسيا مجتمعين؛ ولكنه في الوقت نفسه أكثرهم إنسانية، سواء كان ذلك بنفسه أو بالموضوعات التي اختارها. وأعمال دوستويفسكي الروائية، تؤلف المأساة الباطنية للمصير الإنساني. فهو ينتمي إلى ذلك الجنس من الكتاب الذين يضعون أنفسهم في مؤلفاتهم. فقد عبّر عن الشكوك جميعاً، وعن متناقضات روحه كلها، وربما كان قادراً - لأنه لم يُخف شيئاً مما يعتمل في وجوده العميق- على أن يصل إلى هذه الكشوف المذهلة عن الإنسان. فمصير أبطاله هو مصيره نفسه، وشكوكهم وازدواجيتهم هي شكوكه وازدواجيته. وأصالة عبقريته كانت على نحو جعله قادراً في تحليله لمصيره الخاص إلى أقصى مداه؛ على التعبير في الوقت نفسه عن المصير الشامل للإنسان. فهو لم يُخف عنّا شيئاً من مثله الأعلى المزدوج: المثل الأعلى للشر، لسدوم، وعلى القمة تتربع المادونا Madone المثل الأعلى للخير.
هذا التمزق الدائم هو الكشف العظيم الذي قام به دوستويفسكي. وحالة الصَّرع عنده ليست هي نفسها مرضاً عارضاً: ففيها تتكشف الروح عن أعماقها. كان ذكاء دوستويفسكي خارقاً، ويعد بين الأرواح أكثرها حدة، وأدعاها للانبهار في العصور كافة. ولا يعادل ذكاؤه موهبته الفنية فحسب، ولكنه ربما كان متفوقاً عليها. وهو في هذا يختلف اختلافاً شديداً عن تولستوي الذي يعد – بكل تأكيد – فناناً أكثر منه مفكراً. اكتشف دوستويفسكي إذاً عالماً روحياً جديداً، واسترد للإنسان العمق الروحي الذي سُلب منه لوضعه على مستوى متعال. وهذا هو ما يميزه عن ليف تولستوي الذي أدركته عدوى العدمية. ولم يكن الإنسان في نظر دوستويفسكي مجرد ظاهرة طبيعية، من النظام الذي تتبعه سائر الظواهر أياً كان ارتفاعها في سلم الكائنات، إنما كان الإنسان بالنسبة إليه عالماً مصغراً Un microcosme ومركزاً للوجود وشمساً يتحرك حولها كل شيء. وفي الإنسان يكمن لغز الكون؛ وحل مسألة الإنسان معناه حل مسألة الإله. وكتب سنتراخوف Strakhov الذي كان يعرف دوستويفسكي معرفة وثيقة، في معرض الحديث عنه: «كان انتباهه كله موجهاً صوب الناس وكان سعيه منصباً فحسب على إدراك طبيعتهم وشخصيتهم. كان معنياً بالناس، بالناس وحدهم، وبتركيبة نفوسهم، وطريقتهم في الحياة، وبمشاعرهم وأفكارهم».
كان موضوع الإنسان ومصيره هو عند دوستويفسكي - قبل كل شيء- موضوع الحرية. ذلك أن مصير الإنسان وجولاته الأليمة تتحدد بواسطة حريته، وتوضع الحرية - عند دوستويفسكي- في مركز تصور العالم نفسه: وشجنه المحتجب هو شجن الحرية نفسها. هذا هو المصير الفاجع للحرية الذي أوضحه دوستويفسكي عند أبطاله: الحرية تتحول إلى تصرفات عشوائية، إلى توكيد متمرد للذات وعندئذ تتحول إلى شيء عقيم، بلا موضوع، وتجعل من الفرد شيئاً أجوف. وبحسب ذلك التصور؛ يعتقد الإنسان أنه يستطيع خلق عالم أفضل، يختفي فيه الشر والعذاب، ولا تنسكب فيه دموع الأطفال الأبرياء. فلا وجود لكل هذا الشر وهذا العذاب في العالم إلا لأن الحرية تقوم في أساسه. بيد أنه في الحرية أيضاً تستقر كرامة العالم، وكرامة الإنسان. وليس من شك، أننا بإنكارها، نستطيع أن نتجنب الشر والعذاب. وحينئذ يصبح العالم خيِّراً وسعيداً على نحو إجباري. ولكنه يفقد في هذه الحالة صلته بالإله. والحق أنه في مؤلفات دوستويفسكي كان يُفهم لماذا يتمرد الناس على نظام كوني قائم على أساس الآلام الرهيبة، ودموع الأبرياء المعذَّبين. وهو الذي أجاب على لسان «آليوشا» عن سؤال «إيفان» الذي طلب من أخيه أن يوافق على تشييد صرح المصير الإنساني على أساس غاية نهائية هي إسعاد الناس ومنحهم السلام والسكينة في نهاية المطاف.
وظل دوستويفسكي يتساءل طيلة حياته، كما حدث في حلم «ميتيا»: لماذا يوجد آباء التهمت النيران كل ما يملكون، لماذا يوجد أناس مساكين، طفل بائس، لماذا هذه السهوب المقفرة، لماذا لا يتعانق الناس جميعاً، لماذا لا يحضنون بعضهم بعضاً، لماذا لا ينشدون أغاني مرحة، لماذا اسودت أفئدتهم بالشقاء على هذا النحو، لماذا لا يطعمون الطفل؟
كان دوستويفسكي روسياً صميماً، كما كان كاتباً لروسيا، فلا نستطيع أن نتخيله خارجها. ولغز النفس الروسية يمكن أن نفك رموزه فيه؛ فقد كان هو نفسه هذا اللغز، وفيه تتركز متناقضاته. والغربيون يفهمون روسيا من خلال دوستويفسكي. بيد أنه لم يفعل أكثر من أن يعكس الجو المحيط بالنفس الروسية، والتعبير عنها، كما كان مبشراً بالفكرة الروسية، وبالوعي القومي الروسي، متسماً هو نفسه بكل نقائص هذا الوعي القومي وانحرافاته: بالتواضع والصلف، بالتعاطف العالمي، وبالوطنية المتزمتة. وعندما ألقى دوستويفسكي خطابه الشهير عن بوشكين، استخدم هذه العبارات، موجهاً كلامه إلى مواطنيه: «تواضع، يا أيها الإنسان المتكبر». ولم يكن هذا التواضع الذي يدعو إليه مجرد تواضع، فقد كان يعتبر الشعب الروسي أشد شعوب الأرض تواضعاً، بيد أنه كان فخوراً بهذا التواضع. وكان هذا في الواقع هو موطن الكبرياء عند الروس. وعند دوستويفسكي كان ينبغي على كل شعب عظيم – إذا أراد أن يستمر طويلاً في الحياة، أن يؤمن بأن فيه، وفيه وحده، يستقر خلاص العالم، وبأنه يحيا لكي يظل رأس الشعوب، لكي يربطهم جميعاً حوله، ويقودهم في جماعة موحدة صوب غاية نهائية؛ عليه أن يعهد بها إليهم جميعاً. وعنده أيضاً، ربما كانت النفس الروسية وعبقرية الشعب الروسي أقدر من غيرها في سائر الشعوب الأخرى على احتضان فكرة الاتحاد العالمي والإخاء.
نيقولاي برديائيف (1874-1948) هو من أبرز الفلاسفة «المؤمنين» من بين رؤوس التيار الوجودي، وتبلورت ميوله الثورية من ناحية والفلسفية من ناحية أخرى في نوع من «العشق» لفكرة الحرية الفردية. ووفقاً لبرديائيف، فقد لعب الروائي الروسي فيدور دوستويفسكي دوراً حاسماً في حياته الروحية، كما أثار فيه من الحماسة والنشوة ما لم يثره كاتب أو فيلسوف آخر، وأنه إذا كانت المشكلات الفلسفية تمثّلت لوعيه في وقت مبكر جداً فما ذلك إلا بفضل تلك «الأسئلة اللعينة» التي أثارها دوستويفسكي بكل تأكيد. لذلك، لم يكن غريباً أن يضع برديائيف كتاباً عنوانه «رؤية دوستويفسكي إلى العالم»؛ ترجمه إلى العربية فؤاد كامل (دار آفاق 2018).
ويوضح برديائيف أن دوستويفسكي اكتشف عوالم جديدة، لا تكف عن الحركة، ولا تتضح من دونها المصائر الإنسانية، ولا يمكن دخول هذه العوالم إذا اقتصرنا في بحثنا على الجانب الشكلي من الفن أو حصرنا أنفسنا في علم النفس. وهذه العوالم هي ما أراد برديائيف النفاذ إلى أعماقها حتى أسماه تصور دوستويفسكي للعالم. وماذا يكون تصور أي كاتب للعالم، إن لم يكن هو نفاذه الحدسي Intuitive تماماً إلى الماهية الحميمة لهذا العالم، إلى كل ما يكتشفه المبدع في الكون وفي الحياة: فالأمر لا يتعلق هنا بمذهب مجرد، لا يمكن أن نطلبه – على الأقل – من فنان، ولكن ما نطلبه عند دوستويفسكي هو حدس عبقري للمصير الإنساني والكوني. حدس فني، ولكنه ليس فنياً فحسب، وإنما هو حدس عقلي أيضاً، حدس فلسفي.
ويقال إن كل عبقرية لا بد وأن تكون قومية National بالذات بقدر ما تكون إنسانية. وهذا حق لا مراء فيه إذا قصدنا به دوستويفسكي. فهو روسي حتى أعمق أعماقه، بل هو أكثر روسية من كل كُتَّاب روسيا مجتمعين؛ ولكنه في الوقت نفسه أكثرهم إنسانية، سواء كان ذلك بنفسه أو بالموضوعات التي اختارها. وأعمال دوستويفسكي الروائية، تؤلف المأساة الباطنية للمصير الإنساني. فهو ينتمي إلى ذلك الجنس من الكتاب الذين يضعون أنفسهم في مؤلفاتهم. فقد عبّر عن الشكوك جميعاً، وعن متناقضات روحه كلها، وربما كان قادراً - لأنه لم يُخف شيئاً مما يعتمل في وجوده العميق- على أن يصل إلى هذه الكشوف المذهلة عن الإنسان. فمصير أبطاله هو مصيره نفسه، وشكوكهم وازدواجيتهم هي شكوكه وازدواجيته. وأصالة عبقريته كانت على نحو جعله قادراً في تحليله لمصيره الخاص إلى أقصى مداه؛ على التعبير في الوقت نفسه عن المصير الشامل للإنسان. فهو لم يُخف عنّا شيئاً من مثله الأعلى المزدوج: المثل الأعلى للشر، لسدوم، وعلى القمة تتربع المادونا Madone المثل الأعلى للخير.
هذا التمزق الدائم هو الكشف العظيم الذي قام به دوستويفسكي. وحالة الصَّرع عنده ليست هي نفسها مرضاً عارضاً: ففيها تتكشف الروح عن أعماقها. كان ذكاء دوستويفسكي خارقاً، ويعد بين الأرواح أكثرها حدة، وأدعاها للانبهار في العصور كافة. ولا يعادل ذكاؤه موهبته الفنية فحسب، ولكنه ربما كان متفوقاً عليها. وهو في هذا يختلف اختلافاً شديداً عن تولستوي الذي يعد – بكل تأكيد – فناناً أكثر منه مفكراً. اكتشف دوستويفسكي إذاً عالماً روحياً جديداً، واسترد للإنسان العمق الروحي الذي سُلب منه لوضعه على مستوى متعال. وهذا هو ما يميزه عن ليف تولستوي الذي أدركته عدوى العدمية. ولم يكن الإنسان في نظر دوستويفسكي مجرد ظاهرة طبيعية، من النظام الذي تتبعه سائر الظواهر أياً كان ارتفاعها في سلم الكائنات، إنما كان الإنسان بالنسبة إليه عالماً مصغراً Un microcosme ومركزاً للوجود وشمساً يتحرك حولها كل شيء. وفي الإنسان يكمن لغز الكون؛ وحل مسألة الإنسان معناه حل مسألة الإله. وكتب سنتراخوف Strakhov الذي كان يعرف دوستويفسكي معرفة وثيقة، في معرض الحديث عنه: «كان انتباهه كله موجهاً صوب الناس وكان سعيه منصباً فحسب على إدراك طبيعتهم وشخصيتهم. كان معنياً بالناس، بالناس وحدهم، وبتركيبة نفوسهم، وطريقتهم في الحياة، وبمشاعرهم وأفكارهم».
كان موضوع الإنسان ومصيره هو عند دوستويفسكي - قبل كل شيء- موضوع الحرية. ذلك أن مصير الإنسان وجولاته الأليمة تتحدد بواسطة حريته، وتوضع الحرية - عند دوستويفسكي- في مركز تصور العالم نفسه: وشجنه المحتجب هو شجن الحرية نفسها. هذا هو المصير الفاجع للحرية الذي أوضحه دوستويفسكي عند أبطاله: الحرية تتحول إلى تصرفات عشوائية، إلى توكيد متمرد للذات وعندئذ تتحول إلى شيء عقيم، بلا موضوع، وتجعل من الفرد شيئاً أجوف. وبحسب ذلك التصور؛ يعتقد الإنسان أنه يستطيع خلق عالم أفضل، يختفي فيه الشر والعذاب، ولا تنسكب فيه دموع الأطفال الأبرياء. فلا وجود لكل هذا الشر وهذا العذاب في العالم إلا لأن الحرية تقوم في أساسه. بيد أنه في الحرية أيضاً تستقر كرامة العالم، وكرامة الإنسان. وليس من شك، أننا بإنكارها، نستطيع أن نتجنب الشر والعذاب. وحينئذ يصبح العالم خيِّراً وسعيداً على نحو إجباري. ولكنه يفقد في هذه الحالة صلته بالإله. والحق أنه في مؤلفات دوستويفسكي كان يُفهم لماذا يتمرد الناس على نظام كوني قائم على أساس الآلام الرهيبة، ودموع الأبرياء المعذَّبين. وهو الذي أجاب على لسان «آليوشا» عن سؤال «إيفان» الذي طلب من أخيه أن يوافق على تشييد صرح المصير الإنساني على أساس غاية نهائية هي إسعاد الناس ومنحهم السلام والسكينة في نهاية المطاف.
وظل دوستويفسكي يتساءل طيلة حياته، كما حدث في حلم «ميتيا»: لماذا يوجد آباء التهمت النيران كل ما يملكون، لماذا يوجد أناس مساكين، طفل بائس، لماذا هذه السهوب المقفرة، لماذا لا يتعانق الناس جميعاً، لماذا لا يحضنون بعضهم بعضاً، لماذا لا ينشدون أغاني مرحة، لماذا اسودت أفئدتهم بالشقاء على هذا النحو، لماذا لا يطعمون الطفل؟
كان دوستويفسكي روسياً صميماً، كما كان كاتباً لروسيا، فلا نستطيع أن نتخيله خارجها. ولغز النفس الروسية يمكن أن نفك رموزه فيه؛ فقد كان هو نفسه هذا اللغز، وفيه تتركز متناقضاته. والغربيون يفهمون روسيا من خلال دوستويفسكي. بيد أنه لم يفعل أكثر من أن يعكس الجو المحيط بالنفس الروسية، والتعبير عنها، كما كان مبشراً بالفكرة الروسية، وبالوعي القومي الروسي، متسماً هو نفسه بكل نقائص هذا الوعي القومي وانحرافاته: بالتواضع والصلف، بالتعاطف العالمي، وبالوطنية المتزمتة. وعندما ألقى دوستويفسكي خطابه الشهير عن بوشكين، استخدم هذه العبارات، موجهاً كلامه إلى مواطنيه: «تواضع، يا أيها الإنسان المتكبر». ولم يكن هذا التواضع الذي يدعو إليه مجرد تواضع، فقد كان يعتبر الشعب الروسي أشد شعوب الأرض تواضعاً، بيد أنه كان فخوراً بهذا التواضع. وكان هذا في الواقع هو موطن الكبرياء عند الروس. وعند دوستويفسكي كان ينبغي على كل شعب عظيم – إذا أراد أن يستمر طويلاً في الحياة، أن يؤمن بأن فيه، وفيه وحده، يستقر خلاص العالم، وبأنه يحيا لكي يظل رأس الشعوب، لكي يربطهم جميعاً حوله، ويقودهم في جماعة موحدة صوب غاية نهائية؛ عليه أن يعهد بها إليهم جميعاً. وعنده أيضاً، ربما كانت النفس الروسية وعبقرية الشعب الروسي أقدر من غيرها في سائر الشعوب الأخرى على احتضان فكرة الاتحاد العالمي والإخاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.