للمرة الثانية على التوالي، خالد عامر نقيبا لأطباء أسنان الشرقية    أسعار النفط ترتفع عند التسوية وتنهي سلسلة خسائر استمرت أسبوعين    أخبار الاقتصاد: البورصة في فترة تصحيح وضريبة الأرباح الرأسمالية سبب تراجع المؤشرات، والأسهم الأوروبية تتلون بالأحمر في ختام حركة التداولات    ذوي الهمم والعمالة غير المنتظمة وحماية الأطفال، وزارة العمل تفتح الملفات الصعبة    وزيرة التخطيط تشارك بمنتدى التمويل من أجل التنمية    زلزال قوي يضرب تايوان    رئيس بعثة الزمالك في غانا يجتمع مع طبيب الفريق ودكتور التغذية (صور)    مصرع شخص وإصابة 8 آخرين في حادث تصادم سيارة بعمود بالطريق الزراعي بأسيوط    بدرية طلبة تكشف سر حضور "حسن" صاحب واقعة عزاء شيرين سيف النصر لزفاف ابنتها    أخبار الفن اليوم: مي فاروق تحرر محضرا ضد طليقها.. ومها الصغير تعلق على أنباء طلاقها من أحمد السقا    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    برلماني: استرداد سيناء ملحمة وطنية تتناقلها الأجيال    الزراعة: إصلاح الفدان الواحد يكلف الدولة 300 ألف جنيه    وزيرة التخطيط: الفجوة التمويلية في الدول النامية تصل إلى 56%    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    اختفاء دول.. خبير أبراج يتوقع مرور العالم بأزمات خطيرة    سميرة أحمد: بحب منى زكي أوي .. وأنا ضد مصطلح السينما النظيفة    جماعة الحوثي تشن 5 هجمات ضد السفن في البحر الأحمر.. فيديو    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    أحمد فايق يقدم نصائح لطلاب الثانوية العامة عبر «مصر تستطيع»: «نجتهد دون قلق»    الأونروا: قطاع غزة يشهد موجة حر غير عادية فاقمت الأزمة المعيشية    وكيل صحة الشرقية يتفقد مستشفى فاقوس المركزي ويحيل مشرف التغذية للتحقيق    صلاح ضمن التشكيل الأفضل للدوري الإنجليزي    طائرة الزمالك "سيدات" يفوز على أسيك ميموزا الإيفواري بنتيجة 3-0 في البطولة الإفريقية للأندية    الغيابات تضرب الاتحاد قبل مواجهة الجونة    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    حياتى أنت    تعرف على أهداف الحوار الوطني بعد مرور عامين على انطلاقه    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    اقرأ في عدد «الوطن» غدا.. مصر تجري اتصالات مع كل الأطراف لوقف الحرب في قطاع غزة    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    مصرع طفل سقط في مصرف زراعي بالفيوم    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    محافظ المنوفية: 25 فاعلية ثقافية وفنية خلال أبريل لتنمية المواهب الإبداعية    قائمة الزمالك المشاركة في بطولة إفريقيا للكرة الطائرة «سيدات»    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    45 ألف فلسطيني يؤدون صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    أول تعليق من كلوب على إهدار صلاح ونونيز للفرص السهلة    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سويسرا تؤيد خطة مُساعدات لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفوس تتوق للخلاص في رائعة دستوفسكي "الجريمة والعقاب"
نشر في محيط يوم 01 - 08 - 2007


في رائعة دستوفسكي "الجريمة والعقاب"
"إنني مقتنع بأن الإنسان لن يتخلى أبداً عن العذاب الحقيقي، أي عن التخريب والفوضى. فالعذاب هو العلة الوحيدة للوجدان".
لم يكن دوستويفسكي هو كاتب القرن العشرين الأكثر عصرية ومتعة فحسب، بل ثمة مبررات للافتراض بأن القرن الحادي والعشرين سيجري تحت رايات " الجريمة والعقاب" حسب رأي الكثيرين من النقاد والمحللين. كما يرى توماس مان أن دوستويفسكي هو "أول مبدع نفساني في الآداب العالمية على مر العصور"...
قراءة وعرض: سميرة سليمان

يحظى الكُّتاب الروس بمكانة مرموقة بين صفوة الكتاب العالميين، فقد تميزوا بقدرتهم على التعبير عن مكنونات النفس البشرية وما يعتمل بداخلها من عواطف ومشاعر كما عرف عنهم اهتمامهم بالأسلوب الذي بلغ معهم أرفع مستوى، وقد عمقوا بأعمالهم الأدبية الرائعة صلات التواصل بين البشر، إذ بحثوا أموراً ومواضيع مشتركة تهم جميع الناس مهما اختلفت مشاعرهم، فلقد عالجوا قضايا الوجود الكبرى التي تشغل بال الناس والتي يبحثون لها عن حلول.
ودوستويفسكي ليس استثناءً من هذا فقد عرف بتوجهه الإنساني وبنزعته الفلسفية التي بدت واضحة في أعماله الأدبية حيث يتجلى في هذه الرواية "الجريمة والعقاب" التزاوج بين الصنعة الفنية والبعد الفكري الذي يضفي على الرواية ملمحاً رسالياً إن صح القول، ولعل هذا العمل هو صورة عن مصيره الذاتي ولربما عبر فيه عن نفسه أكثر مما فعل في كتب أخرى، فالبطل هنا بلغ به الحال أن ارتضى بما أحاطه من شظف وجوع بعد أن كان يشعر بمرارة وألم، وهذا ما يميز دوستويفسكي إذ عاش طفولة بائسة حيث كان أبوه طبيباً عسكرياً
كان ديستوفسكي يملي علي سكرتيرته "آنا جريجورييفنا" التي كانت في مقتبل الشباب رواية "الجريمة والعقاب" والتي تحكي قصة الطالب راسكولينكوف الذي ذابت ارادته في الصورة الوهمية التي رسمها خياله للإنسان المثالي، فإذا جسده يصبح عبدا لعقله.. وإذا الوهم يبرز للحياة، والحي يتلاشي في الأوهام، وإذا بسلطان العقل يسير الجسد إلي الجريمة ليختبر آرائه فيها.
وكانت الفتاة تكتب ما يمليه عليها وهي تتطلع في عجب واعجاب إلي النابغة الذي كان يكتب تحفة كهذه إلي جوار سرير زوجته وهي تحتضر.. وما أن أوشك الكتاب علي نهايته حتي بدا يعتري فيودور اضطراب غريب.. ولكن آنا استجمعت يوما جرأتها لتقول له: "قد لا يقدر لأي جيلين أن يجتمعا معا.. ولكن أي انسانين يستطيعان ذلك"، وكان أن تزوجا.. بعد موت زوجته طبعا.
وأخذت نوبات الصرع تهاجمه أثناء شهر العسل ولكنه أمضي في اتمام الرواية التي بلغت تطوراتها إلي أن اكتشف أن " المرء قد يجد نفسه مسوقا إلي الجريمة، لا من أجل الجريمة ذاتها وانما.. من أجل العقاب التي يتلوها".
ويمضي دوستويفسكي في القصة فيكشف جريمة راسكولنيكوف ويرسله إلي سيبريا.. وهناك وهو يتلقي العقاب يشعر لأول مرة بالبراءة والطهر.. لأنه عرف الحقيقة وعرف الله.
الجريمة والعقاب : القصة التي عاشها مؤلفها
"من الصحيح ياسيدي ان الفقر ليس رذيلة ... ولكن ارتضاء الهوان رذيلة .. وقد تكون فقيرا ولكنك تظل محتفظا بكبريائك الطبيعية .. أما إذا فرطت في كرامتك، فلن تجني شيئا، بل أن الذي يرتضي الهوان هو أول من يحتقر نفسه".
هل تريد التحقق من التناقضات الشائكة في أرواح الناس و في عقولهم؟ هل تريد أن تعبث و تعبث بك الشخصيّة الديستوفسكيّة الممزّقة؟ اقرأ إذا الجريمة و العقاب .
يقول دوستوفسكي "أن الجمال لينقذ البشرية" أن هدف كل إنسان ان يجعل إنساناً آخراً سعيداً، لقد وصف "فيودور دوستوفسكي" هذه المقولة بعبقرية في قصته "الجريمة والعقاب" لقد بنى قصته على هذه الفكرة وجعل بطل روايته "روديون راسكولينكوف" يقتل المرابية العجوز كي ينقذ حياة إنسان، وفيها أيضا تصبح "سونيا مارميلادوف" عاهرة كي تطعم أفواه أطفال جوعى.
لقد ارتكب الاثنان الجريمة ومن ثم فإن شبح خطاياهما يتبعهما بلا رحمة.. عندما يدرك البشر جوهر الشر والعمل الآثم الذي أرتكبوه فإن هذا يعني أنهم قادرون على محو الخطيئة من نفوسهم.
ان أزقة بطرس سبورج واحياءها القذرة وبيوتها الضيقة وحاناتها هي مسرح أحداث رواية الجريمة والعقاب، ومنها نتطلع الى صور مرعبة للتعاسة والشقاء والبؤس التي يعيشها فقراء العاصمة، فالبيوت التي يعيش فيها أبطال القصة مثل ( راسكو لينكوف ومار ميلادوف وسونيا ) ضيقة ومعتمة وتقع في أحياء مكتظة بالسكان ، غير أن ازدحام الناس في البيوت وتجاورهم لايخلق عندهم روح التقارب والتعاون، بل نلمس التباعد والتنافر والبغضاء تهيمن على علاقاتهم .
فالفرد يشعر بالغربة والوحدة بين الآخرين إذ يحاط الانسان عادة في روايات دوستوفيسكي بجو بارد يجمد اوصاله ويشوه حياته .
إن دوستويفسكي يعرض من خلال هذه الرواية وكما تبين من عنوانها لموضوع الجريمة وقضية الخير والشر التي ترتبط بالجريمة، فهو يصور ما يعتمل في نفس المجرم وهو يقدم على جريمته، ويصور مشاعره وردود أفعاله، كما يرصد المحرك الأول والأساس للجريمة حيث يصور شخصاً متمرداً على الأخلاق يحاول الخروج عليها بكل ما أوتي من قوة، إذ تدفعه قوة غريبة إلى المغامرة حتى ابعد الحدود لقد اكتشف بطل الرواية راسكولينوف أنه إنسان متفوق لذا شرع بارتكاب جريمته ليبرهن تفوقه، لكن العقاب الذي تلقاه هذا الرجل كان قاسياً إذ اتهم بالجنون وانفصل عن بقية البشر وقام بينه وبين من يعرف حاجز رهيب دفعه إلى التفكير بالانتحار.
في رواية (الجريمة والعقاب) للكاتب الروسي الكبير (فيدور مخيائيلوفيتش ديستوفسكي)، يتساءل البطل الأول في الرواية، عن المعايير المتبعة في معرفة المجرم وما يستحقه من عقاب، ويبدأ بإخضاع هذه الفكرة لمنطق يصدر عن مأساة وضعه الإنساني، ومدى وطأة الألم الذي يعانيه من فقره المدقع، والكيفية التي يمكن بها أن (ينبذ قدره البائس) ويعيش كما يعيش الآخرون من الميسورين.
إن (راسكو لينكوف) بطل (الجريمة والعقاب) بتخطيطه لفعل الجريمة، بعد أن سوغها منطقياً، يحاول وفق وجهة نظره أن يصحح خطأ الواقع؛ فالعجوز الغنية البخيلة لا تستحق العيش، إنها بلا فائدة ولا فعالية، بل هي عبء على الحياة، كما وقر في عقل (راسكو لينكوف)، ومن ثم فإن عملية قتلها تعد عملاً مبرراً ومعقولاً، إنه ليس عنفاً، بحسب استدلالاته المنطقية كطالب يدرس القانون!!.
إسألوا الظروف ولا تسألوا الناس
تتطرق رواية " الجريمة والعقاب " لمشكلة حيوية معاصرة ألا وهي الجريمة وعلاقتها بالمشاكل الاجتماعية والأخلاقية للواقع، وهي المشكلة التي اجتذبت اهتمام دوستويفسكي في الفترة التي قضاها هو نفسه في أحد المعتقلات حيث اعتقل بتهمة سياسية، وعاش بين المسجونين وتعرف على حياتهم وظروفهم ، وتتركز حبكة الرواية حول جريمة قتل الشاب الجامعي الموهوب رسكولينكوف للمرابية العجوز وشقيقتها والدوافع النفسية والأخلاقية للجريمة.
ثم يعاني بطل الرواية راسكو لنيكوف بعد قتل المرابية من تأنيب الضمير ومن التمزق الداخلي والحيرة والقلق. ومما يزيد في تعقيد الحالة النفسية انه لم يقتل المرابية وحدها بل أضطر الى قتل شقيقتها التي لم يكن ينتظر وجودها في البيت ، وذلك لاخفاء آثار الجريمة ، وهكذا فقدت الجريمة احدى أركانها، فقد أراد راسكولينكوف قتل المرابية بالذات لأنها تستغل الآخرين وتستنزف قواهم ، غير أنه قتل انساناً بريئاً آخر .
من هنا بدأت الكوابيس المرعبة تسيطر عليه ونوبات الحمى والهذيان بالاضافة الى الأزمات النفسية التي هزت كيانه وقادته في النهاية الى الاعتراف بجريمته امام المحقق بافيري بتروفيتش الذي أتسم بقوة الحدس واليقظة والحساسية فهو قد تتبع خيوط الجريمة وأمسك بتلابيبها بكل دهاء وذكاء فريدين.
فهو ادرك منذ البداية أن راسكولينكوف ليس هو القاتل فحسب بل ابدى في سير التحقيق معه فهما عميقاً لمشاعره ونزعاته وآرائه الفلسفية وقد استطاع المحقق _بتروفيتش الإحاطة بمختلف الملابسات والدوافع والاحداث التي دفعت راسكو لينكوف الى القتل.
وعندما قرأ مقالته ( حول الجريمة والحالة النفسية للمجرم أثناء ارتكابه الجريمة ) والتي قال فيها راسكولنيكوف "إن الشخص ذي المواهب الفذة ، له الحق – بصفة غير رسمية طبعا – في أن يسمح لضميره بأن يتجاوز بعض الحدود، إذا كان تحقيق رأي من آرائه يتطلب ذلك ... ومثل هذا قد يكون لخير البشرية أحيانا .. فلو افترضنا أن بعض الاكتشافات – كنظريات نيوتن – ما كانت لتظهر دون تضحية واحد، أو عشرة، أو مائة، أو أكثر، من العوائق الآدمية لحق لنيوتن أن يتخلص من هذا العدد من الناس لتغزو اكتشافاته الآفاق" ، وفي موضع آخر من المقالة يقول " ... ان جميع أصحاب الشرائع في التاريخ كانوا في حكم المجرمين، إذ كان من الطبيعي أن يخرقوا القوانين التي كان يلتزمها المجتمع وهم يبشرون بقوانين جديدة، بل إن منهم من لم يتردد في إراقة الدماء حين رأي لذلك جدوي مثل نابليون.. ومن ثم فالنوابغ القادرون علي استحداث كل جديد، لابد أن يكونوا – بفضل القوة الكامنة في أعماقهم – مجرمين والا لعجزوا عن أن يحرروا أنفسهم من قيود المجتمع وأن يبشروا برسالتهم".
قال له المحقق " ان مقالتك خيالية وغير معقولة ، بيد انها تتسم بالاخلاص وكبرياء الشباب إنها قاتمة وجيدة"، ولكننا نجد ان المحقق لايلقي القبض على المتهم بافيري بعد ارتكابه الجريمة مع تأكده من اقترافه لها ، بل استعمل معه اسلوباً نفسياً حذقاً حيث وجه له أسئلة محرجة وناقشه في مختلف آرائه وأفكاره .
وكشفت هذه الأسئلة والنقاش اسلوب التحقيق النفسي الجيد الذي تحلى به المحقق وكذلك أجواء الصراع النفسي العنيف الذي ينتاب المتهم في أثنائه ، ان طريقة الاستجواب الذكية في التحقيق التي استعملها المحقق جعلت بطل الرواية نفسه يعترف بسهولة بجريمته الكاملة .
مع ذلك كان راسكولنيكوف يسأل نفسه "هل كان نابليون يسمح لنفسه بأن يزحف تحت سرير مرابية عجوز بحثا عن نفائسها؟ .. علي أن العجوز نفسها لم تكن ذات قيمة .. وانما انا قتلت فيها مبدأ؟ .. كنت أرجو أن أعيش، ولم تكن بي رغبة في أن أهمل أما تتضور جوعا .. فأردت أن أضع لبنة في سعادة البشر – وهذا يكفي لإرضاء ضميري- ولكن أحقا كان ذلك .. أم أنني كنت أسعي لأنال نصيبي من السعادة، فحسب؟ .. ما أنا إلا حشرة من هوام الأرض .. دودة أكثر خسة ودناءة من تلك التي قتلتها".

من هنا نجد أن الدوافع التي تكمن وراء إراقة دماء المرابية ليست مجرد دوافع ذاتية محضة بل تنبع ايضاً من الوضع الاجتماعي المرير ومن آلام الآخرين وتعاستهم .
بيد ان تعليل دوافع الجريمة بالعامل الاجتماعي وحده يبعدنا عن مضمون الرواية وروحها لأن هذا العامل هو أحد الحوافز المشجعة على قتل المرابية ، وهناك عوامل ذاتية وشخصية دفعت بطل الرواية الى اقتراف جريمته .
فبطل الرواية مرهف المشاعر شديد التأثر ذو حساسية كبيرة، وهو بالاضافة إلى ذلك ينزع الى الانطوائية والعزلة الاجتماعية، ولايحب الاختلاط بالناس والتحدث معهم ، ولم يكن له اصدقاء حتى في الجامعة ويزداد شعور الغربة والوحدة عنده لدرجة يتخذ فيها طابع الاشمئزاز من الآخرين وحتى اقرب الناس إليه.
بالإضافة إلى عيشته في غرفة ضيقة لايملك النقود لدفع أجرتها الشهرية ولذلك كان يخشى رؤية صاحبة البيت او الدائنين لدرجة إنه عندما خرج للشارع وذهب الى بيت المرابية ليقتلها ( تعجب من الخوف الذي تملكه خشية الالتقاء بالدائنين عند الخروج الى الشارع ).
ان كل شخصية في رواية دوستوفيسكي تشكل لغزاً بوليسياً يستعصي فهمه بوضوح وجلاء حيث تصدر عن الشخصيات تصرفات غريبة وغير متوقعة ، ويكمن وراء ذلك سر يجب على القارىء ان ينتبه له ، فالبطل يعيش حياته الخاصة التي تبقى خفية وغير ظاهرة في تصرفاته اليومية وسلوكه المرئي ولكنها تطفو احياناً إلى الخارج وتفصح عن نفسها في اعترافاته ومنولوجاته الداخلية.
الخطيئة وسيلة للمغفرة والرحمة
في الجريمة والعقاب ، يتحدث دوستويفسكي عن فلسفة الجريمة ، وكيف أنها من الممكن أن ترتكب بضمير بارد جدا ، لا لأجل الجريمة نفسها ، لكن من منطلق إنساني بحت ، وهو مافعله راسكولينكوف ، حين قتل تلك العجوز المرابية ، فلم يكن يقصد قتلها بذاتها ، بل قتل مبدأ الاستغلال والجشع !! أيضا في هذه الرواية تعرض للشخصيات الإنسانية المحطمة ، وبرع في كشف التجليات النفسية لها ، ومثال ذلك ، كاترينا ، وأيضا ابنة زوجها " سونيا " التي كانت مخلصة ل راسكولينكوف ، وكانت معه لآخر لحظة !!
ويبدو أن من يقرأ " الجريمة والعقاب " فلابد أن يأخذ مسدسه ويفرغه في صدغ أي عدو له ، وبضمير مرتاح ، فقد أعطاه دستويفسكي الضوء الأخضر لفعل ذلك، فهو محرض حقيقي على القتل وإن أراد عكس ذلك ، طبقا ل الإخوة كرامازوف .... والجريمة والعقاب .
ولا تظهر " الجريمة والعقاب" كرواية من روايات المغامرات أو الروايات البوليسية، بل هي في الواقع نموذج لكل تأملات الكاتب في واقع الستينات من القرن الماضي بروسيا، وهي الفترة التي تميزت بتطور الرأسمالية، وما ترتب على ذلك من تغيرات جديدة في الواقع الذي ازداد به عدد الجرائم، ولذا نجد الكاتب يهتم اهتماما كبيرا في روايته بإبراز ظروف الواقع الذي تبرز فيه الجريمة كثمرة من ثماره، ومرض من الأمراض الاجتماعية التي تعيشها المدينة الكبيرة بطرسبرج ( ليننجراد حاليا ) وهي المدينة التي أحبها الكاتب وبطله حبا مشوبا بالحزن والأسى على ما تعيشه من تناقضات، ولهذا السبب بالذات نجد الكاتب كثيرا ما يخرج بأحداثه للشارع ليجسد من خلاله حياة الناس البسطاء.
إن حياة الناس البسطاء أمثال البطل الرئيسي راسكولينكوف وأمه وأخته وعائلة مارميلادوف أحد معارف رسكولينكوف وابنته سونيا، تبدو مظلمة وقاتمة يشوبها اليأس والعذاب والفقر وسقوط الإنسان الذي سُدت أمامه كل السبل حتى لم يعد هناك " طريق آخر يذهب إليه" وهي الكلمات التي ساقها الكاتب في أول الرواية على لسان مارميلادوف في حديثه مع رسكولينكوف.
ويجعل هذا الواقع القاسي من مارميلادوف فريسة للخمر ويدفع بابنته سونيا إلى احتراف الدعارة لإطعام أخوتها الصغار الجائعين، ويجعل زوجته عرضه للجنون، كما يدفع هذا الواقع بالشاب الجامعي الموهوب رسكولينكوف إلى الجريمة ويجعل أخته عرضة للإساءة بالبيوت التي تلتحق بخدمتها، إن شخصيات الرواية تبدو مقسمة إلى مجموعتين تمثلان مواقع اجتماعية متعارضة: مجموعة تمثل الشعب المضغوط الذي يطحنه الفقر والحاجة والحرمان، وتتمثل في كل من راسكولينكوف وسونيا وعائلاتهما، ومجموعة أخرى تمثل أصحاب المال الذين تعطيهم ثروتهم "حق" الإساءة إلى المحتاجين، وفي مقدمة هذه المجموعة تبرز المرابية العجوز الشريرة التي تمتص دماء الناس وتقتص منهم والداعر المجرم سفيرديجالوف التي تمكنه ثروته من الإساءة إلى المعوزين بلا رادع ولا عقاب.
وإلى جانب وصف الواقع المعاصر تطرق الكاتب في الرواية من خلال بطله المجرم غير العادي صريع "الفكرة" على نقد الفكر الاشتراكي والليبرالي المعاصر له وانعكست من خلال ذلك مثل دوستويفسكي العليا ومبادئه ونظرته على سبل التغيير .
ورغم أن دستويفسكي قد رفض شتى الأفكار التي كانت تنادي بالتغيير إلى أنه قد هاجم بشدة الظلم الاجتماعي والمجتمع الذي تعج فيه بكثرة " المنافي والسجون والمحققون القضائيون والأشغال الشاقة"، وبالإضافة إلى هذه الموضوعات فقد انعكست في الرواية نظرة الكاتب للجريمة كوسيلة من وسائل الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي، كما تجسد فيها تقييم الكاتب للدوافع المختلفة للجرائم والجذور الاجتماعية والنفسية
لها .
لقد كان يؤمن أن الخطيئة ليست سوي اختبار من الله، ووسيلة لاكتساب رحمته وكرمه، وكان كلما أمعن في التفكير في مسألة الشر ازداد اقتناعا بأن الجرم شئ والشر شئ آخر... وبأن الفارق شاسع بين قصاص المحاكم وبين ارادة الله.. وبأن الذين يقضي عليهم الناس بالعقاب، ينقذهم الله.
في نهاية الرواية اعترف بطل القصة في حديثه مع سونيا حبيبته التي اعترف لها أولا بجريمته " ... أعرف أن الشيطان هو الذي كان يغريني .. وهو الذي كان يقودني .. ولكن هل قتلت العجوز حقا؟ ... لا .. إنما قتلت نفسي !".
وتنتهي الرواية بعبارة " ان الحياة لا توهب من جديد بغير مقابل، وإنما هي تتطلب ثمنا غاليا، ولا تكتسب بغير الصبر .. والألم .. والجهاد!".
ويهمس دوستويفسكي: " أهناك إله؟" ... وينبعث في أعماقه صوت يقول: "ان صلاح الإنسان لا يتسني إلا بوجود الشيطان ... فعن طريق الشيطان وحده.. يستيقظ ضمير الإنسان".
آلام البشر تشغل تفكيره
قال عنه فرويد : « لقد تعلمت سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفسكي »، وهو روائي عظيم حقاً، كتب مجموعة من الروايات تدور تقريباً جميعها عن السلوك الإنساني وتحليل السلوك البشري بطريقة فنية، أدبية رائعة، ولازالت تحظى برواج كبير بين القراء وبين الذين يدرسون السلوك البشري.
قال عنه سلامة موسي: ثلاثة يمثلون العبقرية البشرية: نابليون الذي يمثل عبقرية الإرادة، واينشتين الذي يمثل عبقرية الذهن، وأخيرا دوستويفسكي الذي يمثل عبقرية الإحساس.
فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي ( 11 نوفمبر 1821 - 9 فبراير 1881 ) ولد في سان بترسبورج ، بروسيا، لأب انحدر من أصلاب قبائل "النورمان" الرحالة، وكان طبيبا متواضع الحال، ولكنه كان قاسيا.. مولعا في حياته بسياسة الأسوار، حتي لقد كان يكتب لابنه حين رحل للدراسة الجامعية يوصيه بأن "يبني حول نفسه سياجا، وأن يصون نفسه عن مباذل زملائه".
وما كان فيودور بحاجة إلي هذه النصيحة، فلقد عوده والده منذ حداثته الابتعاد عن الناس، وكان يقسو عليه من أجل ذلك، فلما التحق الشاب بكليةالهندسة بجامعة بيترسبورج حافظ علي وحدته، ولم يسمح لغير الأحلام بأن ترافقه.. كان يعيش في الخيال لأن أباه لم يسمح له بأن يعيش في الحقيقة... وحتي خيالاته لم تنج من تدخل أبيه إذ حرم عليه أن يذكر النساء في أشعاره.
يعد كاتبنا واحدا من أكبر الكتاب الروس ، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين، شخوصه دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية ، ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت.
من أشهر أعماله: بيت الموتى ، الجريمة والعقاب ، المقامر ، الأبله ، الأخوة كرامازوف وهي الرواية التي تم تعريبها ومثلت في فيلم عربي بإسم ( الأخوة الأعداء)، الفقراء، قلب ضعيف، نيتو ، الليالي البيضاء، بروخارتشين ، الجاره ، المهرج ، السارق الشريف ، البطل الصغير ، شجرة عيد الميلاد و الزواج، التمساح، في قبوي ، الزوج الأبدي ، الشياطين، المراهق ، قصة أليمة، ذكريات شتاء عن مشاعر صيف ، زوجة آخر و رجل تحت السرير.
لعل السر في نجاح دستويفسكي وخلود اسمه بين أعلام الأدب العالمي، يرجع إلي أنه كان يحرص في قصصه علي أن يصور الحياة كما كان يراها، ويلمسها ويخبرها، ولعل السر في نجاحه في الجريمة والعقاب بالذات إلي أنه عاش خلال عمره الكثير من وقائعها.
كان يلجأ إلي الحانات والمشارب ليستمع إلي المعذبين الذين كانوا يفضفضون عن صدورهم هناك، كان يلجأ إلي هناك لينصت إلي أحاديثهم.. ولم يكن لخجله يجرؤ علي مجاذبتهم أطراف الحديث، ولكنه كان يستدرج الناس إلي لعب البلياردو... اللعبة التي تمكنه من أن ينكس رأسه فيخفي وجهه بينما يرهف أذنيه.. وهكذا كان يخسر مالا، ولكن يكتسب حكمة.

العزلة سر التميز
عاش دوستويفسكي في العزلة والانطواء، حين كان يطلب العلم في الجامعة، فلم يكن يؤنسه سوي الأحلام ورؤي الخيال، وعاش في الهواجس والوساوس التي كانت تؤرقه الليالي، فاتجه به هذا إلي التحليل النفسي في علاج أبطال قصته هذه وبقية قصصه لأنه جرب آثار العوامل النفسية علي المرء.
وعاش في السجن وفي سيبريا حين اعتقل مع جماعة من التقدميين
الناقمين علي الأوضاع التي كانت تسود روسيا إذ ذاك.
وأقبل الشباب بجنسيه علي فيودور دوستويفسكي يرون فيه أستاذا للجيل، ويناقشونه في المصير الاجتماعي للإنسان.. وكانوا إذا حدثوه عن أحلامهم في خلع القيصر وإقامة الجمهورية، تذكر كيف نفي في شبابه ليعيش بين القتلة والمجرمين في سيبريا، فيهز رأسه في أسي ويقول: "اهدأوا يا أبنائي.. لسنا بحاجة إلي العنف لكي نبعث الدنيا ونخلقها خلقا جديدا ... إنما نحن بحاجة إلي عمل جليل.. إلي ثورة عظيمة .. تنبعث من أعماقنا".
فيعارضه الشبان صائحين في غيظ: "وكيف نلهم الناس جميعا بأن يقوموا بهذا العمل الجليل .. وبهذه الثورة العظيمة التي تنبعث من أعماقهم كما تقول؟".
وكان رده عليهم "ولم تطالبون الناس جميعا بذلك .... ألا تستطيعون أن تتصوروا ما قد يصل إليه رجل مستقيم واحد من قوة وسلطان؟، ليظهر رجل مستقيم واحد، وأنتم ترون كل الناس يتبعونه".
لقد أدرك ديستوفسكي إن وجود الإنسان لا يمثل إلا حريته، وأدرك أيضا إن هذه الحرية تعمل باتجاه نفي الله، ولكن تجربة الحرية في الإطلاق بدت معقولة وممكنة له رغم كونها تجربة داخلية تعاش من الباطن بشكل مضنٍ وتكلف ألما شديدا هو ألم التمسك بحرية الإنسان في وجه الرب والاعتماد على الحرية نفسها من اجل الاتحاد بالرب في نهاية المطاف، وبكلمة أخرى، ألم يجعل للحرية معيارا للتمييز بين الخير والشر باعتبارها القانون الأخلاقي الوحيد ولكنه الأشد خطورة في ذات الوقت وعلى هذا فهم وحدهم أعزاء على الرب أولئك الذين يصلون إليه عن طريق الحرية لأنهم جاءوا إليه محتفظين بكرامتهم الأساسية "حريتهم"، جاءوه ملوكا صغارا ليتوجوه ملكا أعظم، إن هذه الميكانيكية في الإيمان وفي الإلحاد بما فيها من خطورة وانزلاقية لا شيء آمن فيها سوى الاعتماد على مقدرة الفرد في فهم ذاته واستغوارها بحيث يدرك نزوع طبيعته الإنسانية نحو طبيعة أعلى مثلما يدرك نزوعه نحو تأكيد فرديته، إنها حالة من التبصر الداخلي والتوهج الروحي لا يشحذه في الإنسان إلا الجمال، ولهذا كان ( الجمال) دائما مرادفا للرعب عند ديستوفسكي لأنه يزيد رهافة الإنسان تجاه نفسه فيقوده إلى محنة الإيمان.
إنها معادلة صعبة ولكن ديستوفسكي استطاع أن يجتازها لأنه كان فنانا وخلاقا للجمال، لقد قدم لنا الإنسان بتفرده دون ارتباطه بأرض روسية او أوروبية بل أنه الانسان فوق الأرض ، شاملة الانسان والكون وصراعه الدائم من أجل حياته .
وهكذا يمضي دوستويفسكي يخترق الحجب، حجابا وراء حجاب، ليكتشف أعمق أغوار نفسه .... وفي العام الأخير من حياته، أخذ يسير منكس الرأس تحت ثقل أفكاره ... كان لا يفتأ يفكر في الإنسان .. هذا المخلوق المركب من جليد ولهب.. هذا الملاك الشيطان ... الحكيم في حماقته، الأحمق في حكمته.
وعند احتضاره كان يقول "يا أبنائي .. لا ينبغي أن نتوق إلي حياة أبدية مقبلة .. فإننا إذا لم نصل إلي الأبدية في دنيانا هذه، فلن نصل إليها قط، إن الأبدية معنا الآن .. هناك لحظات نصل فيها إلي أسمي وجود، فإذا الزمن يقف عن سيره، وإذا حياة الجنس البشري كله تذوب في حياتك .. هذه هي لحظات الأبدية".
إن لدوستويفسكي روحا ما زالت تتعذب في كل منا، وفي كل مرة نقرأ لهذا الرجل فكأننا نقوم بعملية استحضار لتلك الروح المعذبة، تغوص بنا في أعماق الإنسانية الكالحة، نسبر أغوار أنفسنا نحن، نخرج منها شبه مخنوقين، ولعلنا نصل إلى نتيجة سبقنا إليها بقوله " أنا إنسان مريض "! .
وكم كان -هذا الرجل المصروع - جريئا حين تكلم عن أكثر أفكاره شذوذا، ليثبت أن لاشيء أعمق من الإنسان، وأن البعض ،على علّاتهم، لا بأس بهم في النهاية!
إن دوستويفسكي في الواقع لم يمت كل ما هنالك أن جسده انتقل من حال إلي حال، أما روحه .. فكره ... فلسفته ... فقد اكسبتها لحظات الأبدية خلودا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.