محافظة الجيزة: عودة الكهرباء والمياه لكافة المناطق تدريجياً بعد إصلاح كابل ساقية مكي    تراجع الحديد وارتفاع الأسمنت.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 28 يوليو    ترامب منتقدا شارون لانسحابه من غزة في 2005: «قرار غير حكيم»    «وصمة عار».. زعماء أحزاب فرنسية ينتقدون صفقة ترامب والاتحاد الأوروبي    وزير الخارجية الأمريكي: سنسهل محادثات السلام بين كمبوديا وتايلاند    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    تجاوزات في ودية المصري والترجي.. ومحمد موسى: البعثة بخير    "حماة الوطن" يحشد لدعم مرشحيه في "الشيوخ" بسوهاج (فيديو وصور)    وزير التعليم: مناهج اللغة العربية الجديدة تدمج القيم الأخلاقية وتراعي الفروق الفردية    العراق.. القبض على 14 من عناصر الحشد الشعبى بتهمة اقتحام دائرة زراعية فى بغداد    "خرج عن مساره".. وفاة 4 أشخاص في حادث قطار بألمانيا    محافظ القليوبية يجري جولة مفاجئة بمدينة الخانكة ويوجّه بتطوير شارع الجمهورية    "لو عايز تغير مسارك المهني".. تفاصيل دراسة التمريض المكثف بتنسيق الجامعات 2025    «اقعد على الدكة احتياطي؟».. رد حاسم من حسين الشحات    أمطار وانخفاض الحرارة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس فى أغسطس: «بداية الانفراجة»    "10 براميل زيت وأتوبيس".. السيطرة على حريق داخل مصنع كريازي بالعبور- صور    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    بالصور.. اصطدام قطار بجرار أثناء عبوره شريط السكة الحديد بالبحيرة    بالصور.. إيهاب توفيق يتألق في حفل افتتاح المهرجان الصيفي للموسيقى والغناء بالإسكندرية    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    بعد تهشم إصبعه.. جراحة معقدة تنقذ يد مصاب بمستشفى ههيا في الشرقية    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 28 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    4 انفجارات متتالية تهز العاصمة السورية دمشق    وائل جسار ل فضل شاكر: سلم نفسك للقضاء وهتاخد براءة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 28 يوليو    رسمياً تنسيق الجامعات 2025 القائمة الكاملة لكليات علمي علوم «الأماكن المتاحة من الطب للعلوم الصحية»    منها «الاتجار في المخدرات».. ما هي اتهامات «أيمن صبري» بعد وفاته داخل محبسه ب بلقاس في الدقهلية؟    «مكنتش بتاعتها».. بسمة بوسيل تفجر مفاجأة بشأن أغنية «مشاعر» ل شيرين عبدالوهاب.. ما القصة؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالقاهرة.. درجة القبول والشروط لطلاب الانتظام والخدمات    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    كريم رمزي: جلسة مرتقبة بين محمد يوسف ونجم الأهلي لمناقشة تجديد عقده    مدرب بيراميدز يهاجم تحديد موعد المباراة تحت درجات حرارة قاتلة: "الأمر يتعلق بصحة اللاعبين وليس بالمنافسة"    بعد تصدره التريند.. استقرار سعر الدولار أمام الجنيه المصري في التعاملات الصباحية ليوم الإثنين 28 يوليو 2025    العام الدراسي الجديد.. الخريطة الزمنية الرسمية للعام الدراسي 2025–2026    السيطرة على حريق أعلى سطح منزل في البلينا دون إصابات    الخارجية السودانية تدين إعلان قوات الدعم السريع "حكومة وهمية" وتطلب عدم الاعتراف بها    تنسيق الكليات 2025، الحدود الدنيا لجميع الشعب بالدرجات والنسب المئوية لطلبة الثانوية بنظاميها    بعد 26 ساعة من العمل.. بدء اختبار الكابلات لإعادة التيار الكهربائي للجيزة    ردا على الأهلي، ماذا فعل الزمالك مع زيزو قبل لقاء القمة؟    حسين الشحات: لن أرحل عن الأهلي إلا في هذه الحالة، والتتويج أمام الزمالك أسعد لحظاتي    إدريس يشيد بالبداية المبهرة.. ثلاث ميداليات للبعثة المصرية فى أول أيام دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    رابطة العالم الإسلامي: مؤتمر "حلّ الدولتين" فرصة للوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ    القبض على عاطلين متهمين بهتك عرض زميلهم بشبين القناطر    أحمد نبيل: تعليم الأطفال فن البانتومايم غيّر نظرتهم للتعبير عن المشاعر    وزير السياحة: ترخيص 56 وحدة فندقية جديدة و60 طلبًا قيد الدراسة    وزير الزراعة: تجاوز صادرات البطاطس 1.3 مليون طن للمرة الأولى    متخليش الصيف ينسيك.. فواكه ممنوعة لمرضى السكر    المعهد القومي للكبد: مصر حققت إنجازًا عالميًا في القضاء على فيروس "سي"    أخبار × 24 ساعة.. توقعات بارتفاع الحد الأدنى لتنسيق كليات علمى من 1 ل2%    أم وابنها يهزمان الزمن ويصنعان معجزة فى الثانوية العامة.. الأم تحصل على 89% والابن 86%.. محمد: ليست فقط أمى بل زميلتي بالدراسة.. والأم: التعليم لا يعرف عمرا وحلمنا ندرس صيدلة.. ونائب محافظ سوهاج يكرمهما.. فيديو    الباذنجان مهم لمرضى السكر والكوليسترول ويحمي من الزهايمر    بعد توقف 11 عاما.. رئيس حقوق الإنسان بالنواب يُشارك في تشغيل مستشفي دار السلام    رغم ارتفاع درجات الحرارة.. قوافل "100 يوم صحة" تواصل عملها بالوادى الجديد    رفضت عرسانًا «أزهريين» وطلبت من زوجها التعدد.. 19 معلومة عن الدكتورة سعاد صالح    في الحر الشديد.. هل تجوز الصلاة ب"الفانلة الحمالات"؟.. أمين الفتوى يوضح    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بول أوستر يرسم صورته الروائية في أربعة وجوه
نشر في صوت البلد يوم 22 - 05 - 2018

سبع سنوات تفصل بين رواية الكاتب الأميركي بول أوستر السابقة «سانست بارك»، وروايته الجديدة «4321». هذه الفترة قد تبدو طويلة لقرّائه الذين ينتظرون جديده بفارغ الصبر، ولكن حين نعرف أن نصّ «4321» يتجاوز الألف صفحة وأن أوستر يتخيّل فيها أربعة مسارات مختلفة لبطلها، مانحاً إيانا من خلالها أربعة بورتريهات ذاتية له تنير حياته ومسيرته الكتابية، إضافة إلى تصوير تاريخ أميركا على مدى عقدين، نتفهّم المدة التي تطلّبتها كتابة هذا العمل الضخم وننطلق فوراً في قراءته. عملٌ صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، ويستسلم فيه أوستر فيه للسرد بتلك المتعة والمهارة اللتين تجعلان منه أحد أهم روائيي زمننا.
تنطلق أحداث الرواية في اليوم الأول من عام 1900، مع وصول الشاب الروسي إيزاك ريزنيكوف إلى نيويورك، آتياً من مينسك. وحين يسأله شرطي الحدود في «إيليس أيلاند» عن اسمه، يتمتم بضع كلمات باليديشية يفهم الشرطي منها، على خطأ، أنه يدعى أيْك فيرغوسون، فيسجّله تحت هذا الاسم. لكنّ بطل الرواية ليس إيزاك، وقصّته المثيرة ليست سوى مدخل لبلوغ قصة حفيده، أرشي فيرغوسون، الذي يمنحه أوستر أربع حيوات متوازية نتابع أحداثها داخل زوبعة من الفصول المتداخلة. حيوات يولد في جميعها في المكان نفسه، ويحظى بالوالدين نفسهما، وبالتالي بالإرث الجيني نفسه، فنتعرّف إليه طفلاً ثم مراهقاً من الطبقة الوسطى الأميركية، يعيش في ضاحية مدينة نيوجيرسي، ويعشق الرياضة والكتابة. لكنّ هذا لا يعني أن قدره سيكون مماثلاً في حيواته الأربعة، فأقل خيار يمكن أن يقلب حياةٍ وينحرف بمستقبلها.
في حياته الأولى، نرى أرشي فتى يبرع في رياضة البيسبول ويعيش في كنف أمٍّ رقيقة وكلية الحضور ووالد غائب دائماً في متجره لبيع الأدوات المنزلية. وعلى مدى سنوات يسعى أرشي إلى كسب قلب الجميلة أيمي، قبل أن ينجح في ممارسة الحب معها في سن السادسة عشرة، في يوم اغتيال الرئيس كينيدي. وفي العام التالي، يفقد اصبعين من يده اليمنى إثر حادث سيارة، ما ينقذه من التجنيد والمشاركة في حرب الفيتنام المقبلة. وحين يكتشف دعوة الكتابة داخله، تفتح جامعة كولومبيا أبوابها له وتُغلِق إيمي باب قلبها في وجهه، فيحاول تلطيف الأفكار السوداء المتسلّطة عليه بمغامرات عاطفية كثيرة، قبل أن يغادر العالم باكراً، في سن الرابعة والعشرين، بسبب سيجارة لم يطفئها كما يجب.
في حياته الثانية، لن يتجاوز أرشي سن الحادية عشرة. ولكن قبل أن يعانق الموت، نراه يعاني الأمرّين على يد تلامذة صفّه بسبب ذكائه وجدّيته، ويراقب بفضولٍ كبير تفتُّح ذكوريته، ويقرأ الصحف بنهمٍ، منتظراً بفارغ الصبر صدور العدد الأول من صحيفة صمّمها بنفسه وكتب كل مقالاتها، بما في ذلك افتتاحيتها التي رصدها من اجل نقد سياسة جوزيف مكارثي. إنجاز لن ينعم طويلاً به، لأن الصاعقة ستضربه وترديه قتيلاً خلال ليلةٍ عاصفة في مخيّم صيفي.
في حياته الثالثة، يبدو أرشي ك «لغز بشري» لأساتذته. ولا عجب في ذلك، فبعد وفاة والده بحريق داخل متجره، يقرر الرسوب في كل الامتحانات ريثما يمنحه البارئ إشارة تثبت وجوده. وخلال سن المراهقة، يكتشف ميولاً مثلية لديه، إضافة الى حبّه للنساء، خصوصاً في باريس التي يقصدها في سن الثامنة عشرة لدراسة اللغة الفرنسية. مدينة لن يلبث أن يعاشر فيها عالم النشر، ممضياً وقتاً طويلاً في صالات السينما وكتابة مقالات عن الأفلام الفرنسية، قبل أن ينجز رواية، ما أن تجد سبيلها إلى النشر في لندن حتى تدهسه سيارة في ضباب هذه المدينة القاتل.
فقط في حياته الرابعة، يفلت أرشي من موتٍ مبكر. وبخلاف صنوانه الذين لن يحتكّوا بالكتابة إلا قليلاً بسبب قصر حياتهم، يصبح هو كاتباً مكتملاً. فمنذ طفولته، نراه يكتب قصصه على آلة كاتبة، ثم يضع رواية «باتافيزيقية» يسرد فيها «الحياة الإيروسية لحذاء»، قبل أن ينال منحة «والت ويتمان التي تفتح له أبواب جامعة «برينستون»، ويكتشف عقمه. عقمٌ جسدي وليس كتابي، لأن إصداراته ستتوالى بإيقاع سريع، ومن بينها سردية بعنوان «إلى اليمين؟ إلى اليسار؟ أم إلى الأمام؟». عنوان يصلح جيداً لرواية أوستر التي يبيّن فيها مدى خضوع هوياتنا وأقدارنا إلى ما يسمّيه «موسيقى المصادفات» التي تجعل بطله يسلك طرقات متباعدة في حيواته الأربع.
ومع أن لا مفاجأة في خاتمة هذه الرواية، لكن نصّها الرائع إنجازٌ على أكثر من صعيد، يتجلى كاتبه فيه بأبعادٍ أربعة. فسردياته المتقاطعة نتلقّاها ككمٍّ من الاعترافات، وبالتالي كبورتريهات ذاتية لروائي يذوب في ديكور عمله كي يستحضر بأفضل طريقة ممكنة السنوات العشرين الأولى من حياته التي حسمت مساره. هكذا يتراءى أوستر الشاب كاملاً لنا، بنشأته في ضاحية نيوجيرسي، بشغفه بالسينما، باستسلامه باكراً للقراءة والكتابة؛ أوستر المولع برياضة البيسبول، العاشق أبداً، المتجول بلا كلل في شوارع باريس والمراقب البصير لوطنه الذي نعبر عقدين من تاريخه الحديث، من إعدام الزوجين روزنبرغ عام 1953 إلى أحداث الشغب التي وقعت في جامعات أميركا في أيار (مايو) 1968، ومن انتحار همنغواي إلى اغتيال مارتين لوثر كينغ، مروراً بالصراعات العرقية التي شهدها هذا البلد آنذاك.
وبين غوصٍ في أحداث هذا الواقع وإفلات منها، يتمكّن الكاتب من الاقتراب من نفسه أكثر من أي وقت مضى، على رغم تظاهره بسرد قصة شخصٍ آخر. كاتب ما برح يلاحق التباسات وهشاشة الحب والصداقة، ويسير على حافة هوّة من دون أن يقع فيها، من أجل كشف تعقيد الحياة وتصوير الفشل والهزيمة الملازمين لها. ولا عجب إذاً في السوداودية التي تصبغ معظم صفحات روايته، علماً أنها لا تنال من إيمانه بالفن القادر، برواية أو فيلم أو معزوفة موسيقية، على زعزعة أساساتنا وإعادة تشكيل حاضرنا ومستقبلنا، وفي الوقت نفسه، على إخراجنا من ذاتنا.
لكنّ قيمة هذه الرواية تكمن خصوصاً في الأداء السردي العالي لصاحبها الذي يستحضر بمظاهره الخادعة نصوص جورج بيريك، وبدروبه المختلفة والمتشابكة بعض روايات إيتالو كالفينو، وخصوصاً قصة بورخيس «مكتبة بابل». أداء غايته الوحيدة تسليط الضوء على الدور الحاسم لمصادفات الحياة في مسار كل إنسان. فمثل أرشي المختلِف في سرديات الرواية الأربع، لن يبقى أيٌّ منا الشخص نفسه إن فقد والده باكراً أم لا، إن جار الدهر عليه أم لا، إن فشل في بلوغ الحب أم لا، وإن شارك في حربٍ رهيبة أم لا. ومن هذا المنطلق، قد يلوم بعض القراء أوستر على عدم رسم بطله بطريقة مختلفة كلياً من سردية إلى أخرى، لكنّ قوة «4321» وذكاء صاحبها يكمنان في هذه النقطة بالذات، أي في إظهار أن ما يفصل مَن ينجح في حياته ومن يفشل فيها هو غالباً خيطٌ رفيع جداً.
سبع سنوات تفصل بين رواية الكاتب الأميركي بول أوستر السابقة «سانست بارك»، وروايته الجديدة «4321». هذه الفترة قد تبدو طويلة لقرّائه الذين ينتظرون جديده بفارغ الصبر، ولكن حين نعرف أن نصّ «4321» يتجاوز الألف صفحة وأن أوستر يتخيّل فيها أربعة مسارات مختلفة لبطلها، مانحاً إيانا من خلالها أربعة بورتريهات ذاتية له تنير حياته ومسيرته الكتابية، إضافة إلى تصوير تاريخ أميركا على مدى عقدين، نتفهّم المدة التي تطلّبتها كتابة هذا العمل الضخم وننطلق فوراً في قراءته. عملٌ صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، ويستسلم فيه أوستر فيه للسرد بتلك المتعة والمهارة اللتين تجعلان منه أحد أهم روائيي زمننا.
تنطلق أحداث الرواية في اليوم الأول من عام 1900، مع وصول الشاب الروسي إيزاك ريزنيكوف إلى نيويورك، آتياً من مينسك. وحين يسأله شرطي الحدود في «إيليس أيلاند» عن اسمه، يتمتم بضع كلمات باليديشية يفهم الشرطي منها، على خطأ، أنه يدعى أيْك فيرغوسون، فيسجّله تحت هذا الاسم. لكنّ بطل الرواية ليس إيزاك، وقصّته المثيرة ليست سوى مدخل لبلوغ قصة حفيده، أرشي فيرغوسون، الذي يمنحه أوستر أربع حيوات متوازية نتابع أحداثها داخل زوبعة من الفصول المتداخلة. حيوات يولد في جميعها في المكان نفسه، ويحظى بالوالدين نفسهما، وبالتالي بالإرث الجيني نفسه، فنتعرّف إليه طفلاً ثم مراهقاً من الطبقة الوسطى الأميركية، يعيش في ضاحية مدينة نيوجيرسي، ويعشق الرياضة والكتابة. لكنّ هذا لا يعني أن قدره سيكون مماثلاً في حيواته الأربعة، فأقل خيار يمكن أن يقلب حياةٍ وينحرف بمستقبلها.
في حياته الأولى، نرى أرشي فتى يبرع في رياضة البيسبول ويعيش في كنف أمٍّ رقيقة وكلية الحضور ووالد غائب دائماً في متجره لبيع الأدوات المنزلية. وعلى مدى سنوات يسعى أرشي إلى كسب قلب الجميلة أيمي، قبل أن ينجح في ممارسة الحب معها في سن السادسة عشرة، في يوم اغتيال الرئيس كينيدي. وفي العام التالي، يفقد اصبعين من يده اليمنى إثر حادث سيارة، ما ينقذه من التجنيد والمشاركة في حرب الفيتنام المقبلة. وحين يكتشف دعوة الكتابة داخله، تفتح جامعة كولومبيا أبوابها له وتُغلِق إيمي باب قلبها في وجهه، فيحاول تلطيف الأفكار السوداء المتسلّطة عليه بمغامرات عاطفية كثيرة، قبل أن يغادر العالم باكراً، في سن الرابعة والعشرين، بسبب سيجارة لم يطفئها كما يجب.
في حياته الثانية، لن يتجاوز أرشي سن الحادية عشرة. ولكن قبل أن يعانق الموت، نراه يعاني الأمرّين على يد تلامذة صفّه بسبب ذكائه وجدّيته، ويراقب بفضولٍ كبير تفتُّح ذكوريته، ويقرأ الصحف بنهمٍ، منتظراً بفارغ الصبر صدور العدد الأول من صحيفة صمّمها بنفسه وكتب كل مقالاتها، بما في ذلك افتتاحيتها التي رصدها من اجل نقد سياسة جوزيف مكارثي. إنجاز لن ينعم طويلاً به، لأن الصاعقة ستضربه وترديه قتيلاً خلال ليلةٍ عاصفة في مخيّم صيفي.
في حياته الثالثة، يبدو أرشي ك «لغز بشري» لأساتذته. ولا عجب في ذلك، فبعد وفاة والده بحريق داخل متجره، يقرر الرسوب في كل الامتحانات ريثما يمنحه البارئ إشارة تثبت وجوده. وخلال سن المراهقة، يكتشف ميولاً مثلية لديه، إضافة الى حبّه للنساء، خصوصاً في باريس التي يقصدها في سن الثامنة عشرة لدراسة اللغة الفرنسية. مدينة لن يلبث أن يعاشر فيها عالم النشر، ممضياً وقتاً طويلاً في صالات السينما وكتابة مقالات عن الأفلام الفرنسية، قبل أن ينجز رواية، ما أن تجد سبيلها إلى النشر في لندن حتى تدهسه سيارة في ضباب هذه المدينة القاتل.
فقط في حياته الرابعة، يفلت أرشي من موتٍ مبكر. وبخلاف صنوانه الذين لن يحتكّوا بالكتابة إلا قليلاً بسبب قصر حياتهم، يصبح هو كاتباً مكتملاً. فمنذ طفولته، نراه يكتب قصصه على آلة كاتبة، ثم يضع رواية «باتافيزيقية» يسرد فيها «الحياة الإيروسية لحذاء»، قبل أن ينال منحة «والت ويتمان التي تفتح له أبواب جامعة «برينستون»، ويكتشف عقمه. عقمٌ جسدي وليس كتابي، لأن إصداراته ستتوالى بإيقاع سريع، ومن بينها سردية بعنوان «إلى اليمين؟ إلى اليسار؟ أم إلى الأمام؟». عنوان يصلح جيداً لرواية أوستر التي يبيّن فيها مدى خضوع هوياتنا وأقدارنا إلى ما يسمّيه «موسيقى المصادفات» التي تجعل بطله يسلك طرقات متباعدة في حيواته الأربع.
ومع أن لا مفاجأة في خاتمة هذه الرواية، لكن نصّها الرائع إنجازٌ على أكثر من صعيد، يتجلى كاتبه فيه بأبعادٍ أربعة. فسردياته المتقاطعة نتلقّاها ككمٍّ من الاعترافات، وبالتالي كبورتريهات ذاتية لروائي يذوب في ديكور عمله كي يستحضر بأفضل طريقة ممكنة السنوات العشرين الأولى من حياته التي حسمت مساره. هكذا يتراءى أوستر الشاب كاملاً لنا، بنشأته في ضاحية نيوجيرسي، بشغفه بالسينما، باستسلامه باكراً للقراءة والكتابة؛ أوستر المولع برياضة البيسبول، العاشق أبداً، المتجول بلا كلل في شوارع باريس والمراقب البصير لوطنه الذي نعبر عقدين من تاريخه الحديث، من إعدام الزوجين روزنبرغ عام 1953 إلى أحداث الشغب التي وقعت في جامعات أميركا في أيار (مايو) 1968، ومن انتحار همنغواي إلى اغتيال مارتين لوثر كينغ، مروراً بالصراعات العرقية التي شهدها هذا البلد آنذاك.
وبين غوصٍ في أحداث هذا الواقع وإفلات منها، يتمكّن الكاتب من الاقتراب من نفسه أكثر من أي وقت مضى، على رغم تظاهره بسرد قصة شخصٍ آخر. كاتب ما برح يلاحق التباسات وهشاشة الحب والصداقة، ويسير على حافة هوّة من دون أن يقع فيها، من أجل كشف تعقيد الحياة وتصوير الفشل والهزيمة الملازمين لها. ولا عجب إذاً في السوداودية التي تصبغ معظم صفحات روايته، علماً أنها لا تنال من إيمانه بالفن القادر، برواية أو فيلم أو معزوفة موسيقية، على زعزعة أساساتنا وإعادة تشكيل حاضرنا ومستقبلنا، وفي الوقت نفسه، على إخراجنا من ذاتنا.
لكنّ قيمة هذه الرواية تكمن خصوصاً في الأداء السردي العالي لصاحبها الذي يستحضر بمظاهره الخادعة نصوص جورج بيريك، وبدروبه المختلفة والمتشابكة بعض روايات إيتالو كالفينو، وخصوصاً قصة بورخيس «مكتبة بابل». أداء غايته الوحيدة تسليط الضوء على الدور الحاسم لمصادفات الحياة في مسار كل إنسان. فمثل أرشي المختلِف في سرديات الرواية الأربع، لن يبقى أيٌّ منا الشخص نفسه إن فقد والده باكراً أم لا، إن جار الدهر عليه أم لا، إن فشل في بلوغ الحب أم لا، وإن شارك في حربٍ رهيبة أم لا. ومن هذا المنطلق، قد يلوم بعض القراء أوستر على عدم رسم بطله بطريقة مختلفة كلياً من سردية إلى أخرى، لكنّ قوة «4321» وذكاء صاحبها يكمنان في هذه النقطة بالذات، أي في إظهار أن ما يفصل مَن ينجح في حياته ومن يفشل فيها هو غالباً خيطٌ رفيع جداً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.