محافظ سوهاج يقرر خفض تنسيق القبول بالثانوي العام إلى 233 درجة    ترامب: عودة الرهائن من غزة لن تحدث إلا بتدمير «حماس» ( تحليل إخباري )    نيابة عن رئيس الجمهورية: رئيس الوزراء يتوجه إلى اليابان للمشاركة في قمة "تيكاد 9"    فيديو| اندلاع حريق في ترام الرمل بالإسكندرية نتيجة ماس كهربائي.. وإخلاء الركاب    بدءاً من شهر سبتمبر.. برنامج "باب الخلق" على قناة النهار والتليفزيون المصري    إيهاب توفيق وفرقة كنعان الفلسطينية يضيئون ليالي مهرجان القلعة الدولي للموسيقى والغناء    تعليم الوادي يعلن مواعيد المقابلات الشخصية للمتقدمين لشغل الوظائف القيادية    محافظ الوادي الجديد يتفقد تقدم أعمال إنشاء مدرسة المتفوقين STEM    الخارجية الفلسطينية تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي التعسفي بحق الدبلوماسيين الأستراليين    إبراهيم نور الدين عن التحكيم هذا الموسم: بلاش اقول احساسي عشان هيبقي " محبط "    برشلونة يرفض ضم نجم إنتر ميلان    تعديل موعد انطلاق بطولة أفريقيا لأندية كرة اليد بالمغرب    أسعار سبائك الذهب اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025.. بكام سبيكة 2.5 جرام؟    كيف بدأت مطاردة فتيات طريق الواحات؟.. أقوال ضابط المباحث تكشف التفاصيل| خاص    قرار جمهوري بمد فترة حسن عبد الله محافظًا للبنك المركزي لعام جديد    نص القرار الجمهورى بالتجديد ل"حسن عبد الله" محافظًا للبنك المركزى    يتضمن 20 أغنية.. التفاصيل الكاملة لألبوم هيفاء وهبي الجديد    أسامة السعيد: الموقف المصرى تجاه القضة الفلسطينية راسخ ورفض للتهجير    «أحمديات»: غياب ضمير العشرة    وكيل صحة الإسماعيلية تتفقد دار إيواء المستقبل (صور)    كشف ملابسات قيام سائق "توك توك" بالسير عكس الإتجاه بالإسكندرية    إصلاحات شاملة لطريق مصر - أسوان الزراعي الشرقي في إسنا    تمكين الشباب.. رئيس جامعة بنها يشهد فعاليات المبادرة الرئاسية «كن مستعدا»    تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما الأحد (تفاصيل)    الأعلى للإعلام: انطلاق الدورة التدريبية رقم 61 للصحفيين الأفارقة من 18 دولة    «بيطري قناة السويس» تُطلق برامج دراسات عليا جديدة وتفتح باب التسجيل    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    الرقابة المالية: 3.5 مليون مستفيد من تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر حتى يونيو 2025    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    تحذير رسمي.. عبوات «مجهولة» من «Mounjaro 30» للتخسيس تهدد صحة المستهلكين (تفاصيل)    حبس المتهمين بالتخلص من جثة صديقهم أثناء التنقيب عن الآثار في الشرقية    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    هام وعاجل من التعليم قبل بدء الدراسة: توجيهات للمديريات    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    الصحة العالمية تقدم أهم النصائح لحمايتك والاحتفاظ ببرودة جسمك في الحر    "بعد أزمته الأخيرة مع الأهلي".. 10 معلومات عن الحكم محمد معروف (صور)    "كان واقف على الباب".. مصرع شاب سقط من قطار الصعيد بسوهاج    القوات الإسرائيلية تعتقل 33 عاملاً فلسطينيا جنوب القدس    الشيخ خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمامة" شرف الأمة    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    موقع واللا الإسرائيلي: كاتس سينظر خطة لمشاركة 80 ألف جندي في احتلال غزة    الرئيس السيسي يوجه بتعزيز الموارد الدولارية وتمكين القطاع الخاص لجذب الاستثمارات ودعم النمو الاقتصادي    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    أيمن الرمادي ينتقد دونجا ويطالب بإبعاده عن التشكيل الأساسي للزمالك    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    حظك اليوم.. تعرف على توقعات الأبراج اليوم الاثنين    أسعار البيض اليوم الإثنين 18 أغسطس في عدد من المزارع المحلية    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    وزارة التعليم: قبول تحويل الطلاب من المعاهد الأزهرية بشرط مناظرة السن    إصابة 14 شخصا فى تصادم ميكروباص وربع نقل على طريق أسوان الصحراوى    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    استقرار أسعار النفط مع انحسار المخاوف بشأن الإمدادات الروسية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دعد حداد شاعرة الصعلكة والأنوثة الشرسة
نشر في صوت البلد يوم 30 - 12 - 2017

الاحتفاء المتأخِّر بالشعراء الراحلين سمة واضحة في الثقافة العربية، ولعل مثل هذا النوع من الاحتفاء ينطوي على شعور مضمر بالذنب والحاجة إلى التكفير عنه، ويعبر عن اعترافٍ، مضمر كذلك، بأنَّ المحتفى به مات «شهيداً» شعرياً. وتجسد الشاعرة السورية دعد حداد ( 1937-1991) نموذجاً من نوع خاص لهذه الفكرة، فقد حظيت بشيء من هذا الاهتمام المتأخِّر إذ أصدرت وزارة الثقافة السورية آخر دواوينها بعد رحيلها بقليل، ثم أصدرت في وقت لاحق أعمالها الشعرية، بينما أصدرت دار التكوين حديثا أعمالها الشعرية تحت عنوان «أنا التي تبكي من شدَّة الشعر» متضمنةً دواوينها الثلاثة: «تصحيح خطأ الموت» و «كسرة خبز تكفيني» و «الشجرة التي تميل نحو الأرض» وقصائد أخرى متفرقة، وجميعها مؤرَّخة في عقد الثمانينات بينما نعرف من مقدمة الشاعر بندر عبد الحميد الذي كتب عنها أوَّل مقالة عام 1973، أن لها قصائد أخرى ومسرحيات شعرية تعود إلى عقد السبعينات، فيما يصفها الشاعر نزيه أبو عفش في تقديمه بأنها «تتفرد، بين جميع مَنْ عرفتُ من شعراء، بكتابة بريئة من آثار بصمات الآخرين وإنها امرأة بلا مصير».
وفي الدخول إلى مضامين شعرها، خاصة في بُعده النفسي، سنجدها مختلفة عن المضامين المعتادة في الشعر النسوي العربي، فهي مضامين أكثر تعقيداً واختلافاً، وتقترب بقدر أو بآخر من أجواء شاعرات مكتئبات في الأدب الأوربي والإنكليزي تحديداً: مثل آن سيكستون المتمزقة بين قلق لاهوتي ومرض عقلي، وعنف أسري وعنف مضاد ملتبس ومسكوت عنه، بيد أن الصور الأوضح ربما تلك تجمعها بسيليفا بلاث حيث الأجواء «الثلجية» التي تهيمن على شعرها: «ثلاثة أطفال/ يحفرون قبري في الثلج/ الوحدة والحزن والحرية» و «لا شيءَ أقوى من رائحة الموت في الربيع/ بعد الوحدة الطويلة/ في شتاء ثلجي.» وفي نبرة اعترافها العميق الذي كان بالنسبة إليها نوعاً من المأزق المستمر، وكذلك في الكآبة التي قادت بلاث للانتحار، بيد أن كآبة شاعرتنا لم تقدها إلى الانتحار الصريح ولكن إلى مصير لا يفترق عنه كثيراً. فقد واصلت الاختناق بالعيش الممزوج بالمرارة أو «العيش مر» كما تنحت منه مفردة قاسية. وتؤرخ دعد حداد لقصائدها لا في اليوم فقط وإنما بالساعات والدقائق! وأغلبها بل ربما جميعها تشير إلى زمن بين منتصف الليل وطلوع الفجر، فكأنها امرأة لا تنام. وكأنَّها تنام في الكتابة فنومها شعر أو لعلها تكتب من كوابيسه وأحلامه. هذا الهوس بالكتابة يذكَّر أيضاً بهوس بلاث: «في الثالثة صباحاً/ تأتي الوحوش الأرضية/ وتصلِّي معي».
لكن المرجح أن الأمر لا يتعلق بتأثير واعٍ مباشرة لأيٍّ من هذه الأسماء، فهي في مكانٍ آخر حقاً. ولعلها لم تطلَّعْ على أشعار قريناتها المكتئبات لكنَّ ما يجمعها مع أولاء الشاعرات هو زهو الأنوثة المقهور، وثيمة الاعتراف في القصيدة. إذ يبدو العالم كمصحَّة، والشعر رسالة من ذلك المكان الذي نعيش فيه ولا يمكن التعرف بسهولة على طبقاته المتموجة. لكننا نستطيع أن تقرأ في شعرها حياةً صريحة بيأسها وقلة حيلتها على رغم شراستها، لا حياتها الشخصية فحسب، إنما سِير المقهورين، والهامشيين، والموتى كذلك. نقرأ أيضاً أسى لأمومةٍ مهدورةٍ. هل هي مهدورة حقاً؟ فقد كانت تصور الطفولة كما لا تستطيع كثير من الأمهات البيولوجيات وصفه. وتستعير صورة مريم المفجوعة في قصيدة «العشاء الأخير» وتخلق شخصية ذات اسم معبِّر «يباب» لدمية أو طفلة متخيلة تحاورها باعترافات لافتة.
شعرها شعر الأنوثة الشرسة قبل أن تُميَّع تماماً في التبرج اللغوي المعتاد والتطرف في سرد ذكريات السرير. إنها تتحدث من عالم الأسرار، وليس من غرفة أو سرير. وشعرها أبعد ما يكون عن التبرَّج والميوعة. حتى أنها تستخدم أحياناً صوت المذكر، لذا فنحن إزاء شاعرة وليس مجرد أنثى، ولكن أي نوع من الشعر وأي صنف من الشاعرات؟ في شعرها صعلكة واضحة حتى كأنها الشاعرة العربية الوحيدة التي تخترق المركزية الذكورية للصعلكة كما نعرفها من قرون، فإذ نعرف الكثير من الشعراء الصعاليك في الشعر العربي، أو الذين ادعوا الصعلكة في الشعر الحديث، إلا أننا نادراً ما قرأنا لشاعرةٍ تجربةً في الصعلكة بهذا الوضوح، وفي شعر دعد حداد الكثير، ما ما يحيل تجربتها إلى هذا الإرث: الجوع مقابل الإيثار، والتشرد، والشراسة إزاء الظلم في العالم، مع حنوٍّ على الكائنات الضعيفة والهشة، والانشقاق والنبذ الاجتماعي المتبادل، الذي يقابله الخلع، وأجواء الحانات الرخيصة: «أنا جدولٌ هَرِم/ مقطع الأوصال/ أسقي الينابيع» كما أن ثوريتها غير ملفَّقة، ومع أنها جزء من «وهم» عام في مرحلتها، لكنها تبدو في تجربتها الشخصية حقيقية، بل من الأشياء الحقيقية القليلة في عالمها المقفر، والمقفل غالباً.
وهي تكتب حياتها القاسية، وحياتها الأكثر سلاماً ما بعد الموت، فكثيراً ما تبدو لنا متحدثة من ذلك المكان المظلم، ما وراء القبر وأحياناً أخرى من داخل ضجة الحياة نفسها: «أيَّتُها الحياةُ المتسعة/ أين جدرانك؟» واعترافها عادة ما يكون مصحوباً بالإدانة للآخر: «إنكم نبلاءُ أكثرَ من اللازم أيُّها البشر/ من خلال الزجاجِ الملوَّن/ وأنا ربما أكثرُ نبلاً/ من خلال الزجاج المحطَّم».
وإذا كان رياض صالح الحسين قد وجد بعد رحيله جيلاً من الورثة والمقلدين فلا وارثات لطريقة دعد حداد الشعرية من النساء، ولا حتى وصيفات لفنّها، لأن طريقتها صعبة وغير متاحة، «لا أحد يستطيع أن يسكن في قبري» ولأن «مهنتها الخطر» وتجربتها تنطوي على عمق وبساطة تجربة وجودية وحياتية بالغة الندرة لهذا جاء شعرها صافياً بمقدار احتدامه وارتباكه الفني أحياناً، وأليفاً بمقدار ما يحمله من مضامين شرسة. شعرها شعر الاعتراف الجريء، وليس الادعاء الملفَّق، وربما لهذا نرى انحسار البلاغة في شعرها، وأنها قليلة العناية الفنية بشعرها، لمصلحة هذا الصوت الداخلي، الذي لا يمكن أن يختزل بوصفها بوحاً رومانسياً كما لدى نازك، مثلاً، لكن عزلة دعد هنا صريحة وسط ضجيج البشر والضيق بكل هذه السعة التي تتحرك فيها: «ها هي تذاكرُ السفر/ ارحلوا جميعاً/ واتركوني في داري» «وتولد دعد/على مقعد في حديقة/ وتستقبلُ أعوامَها/ وتبكي على الراحلين/ وتفرحُ أنَّ القصيدةَ عادتْ إلى حزنها/ وتبكي على حضنِها/ وتبكي على مَقعدٍ في الحديقة».
لم تذهب دعد حداد باعترافها إلى كاهن أو معبد، ولم تستلق على سرير في العيادة النفسية، لقد جعلت الشعر، هو الفضاء والمأزق: «أنا ابنة الشيطان/ أنا ابنة هذه الليلة المجنونة/ أنا من تحمل الزهور إلى قبرها/ وتبكي من شدَّةِ الشِعر/ أعلى حياتي تُبنى القصور/ وهذي الوسائدُ للوصيفات/ وتلك أحجاري المسروقة/ وسكاكيني يُجفلُ منها/ ومن عيوني يهطلُ المطر/ والعالم داري/ أغمضوا أعينكم/ سأمرّ وحيدة/ كحدِّ الرمح» ومثل هذا الزهو المنكسر ليس مألوفاً كثيراً في شعر امرأة. ومن هنا فأي محاولة للاستحواذ على شيء من إرث المرأة الوحيدة سيبدو نوعاً من الكوميديا، فهذه الفكرة ليست كوميديا قابلة للاستنساخ لكنها تراجيديا دونها «العيش المر» إنها سيرة المرأة الوحيدة الضاجة التي تنتعش في وحدتها والمزدحمة في وحشتها: «أيُّها الدربُ الْمُوحشُ!/يا دربَ الحبِّ!/سأعدُّ خطواتي/فالوحدةُ علَّمتْني العدَّ».
شعر دعد حداد تنويعات على الموت والوحدة والألم في تدرجات مضادة للاستسلام، فمن الكوني المعتم في ديوانها الأول «تصحيح خطأ الموت» إلى اليومي المتلبس بالحيرة والغرابة في «كسرة خبز تكفيني» لا يفارقها الألم، الألم الشخصي الذي جعلت منه علامة فارقة حيث القصيدة قصيرة ومكتفية بذاتها إلى حد بعيد، وصولاً إلى المونولوغ المتقطع ومحاورة الموت والفناء وتخوم النهايات في «الشجرة التي تميل نحو الأرض» وتجمع قصيدتها بين شكل الأبيغراما، وروح قصيدة النثر، على رغم أن أكثر شعرها مكتوب بالوزن، حيث الكثافة والإيجاز، والبناء المتقشف، متواشجة مع الإيقاع الداخلي، والاقتصاد بالحجم، والدهشة والمفارقة إلى جانب السخرية والحزن والرثاء. في مزيج من البساطة والبراعة، لكنها براعة غريزية وليست ذهنية.
مع دعد حداد نحن إزاء شعر منفلت من التوصيف الجنساني التقليدي للأدب، وفي صميم المأزق الجندري، شعر معبر عن إخلاص الضحية لمصيرها بمقدار احتجاجها. وهو نموذج ليس متوفِّراً في كل عصر، ولعله أكثر انحساراً لدى الشاعرات. فدعد حداد لم تكتب عن العالم من الخارج، ولم تتأمله من بعد، على رغم قسوته بل اخترقته بشراسة ومرقتْ فيه وخبرته تماماً، لذا فإن شعرها شهادة في هذا العالم وليس عنه.
الاحتفاء المتأخِّر بالشعراء الراحلين سمة واضحة في الثقافة العربية، ولعل مثل هذا النوع من الاحتفاء ينطوي على شعور مضمر بالذنب والحاجة إلى التكفير عنه، ويعبر عن اعترافٍ، مضمر كذلك، بأنَّ المحتفى به مات «شهيداً» شعرياً. وتجسد الشاعرة السورية دعد حداد ( 1937-1991) نموذجاً من نوع خاص لهذه الفكرة، فقد حظيت بشيء من هذا الاهتمام المتأخِّر إذ أصدرت وزارة الثقافة السورية آخر دواوينها بعد رحيلها بقليل، ثم أصدرت في وقت لاحق أعمالها الشعرية، بينما أصدرت دار التكوين حديثا أعمالها الشعرية تحت عنوان «أنا التي تبكي من شدَّة الشعر» متضمنةً دواوينها الثلاثة: «تصحيح خطأ الموت» و «كسرة خبز تكفيني» و «الشجرة التي تميل نحو الأرض» وقصائد أخرى متفرقة، وجميعها مؤرَّخة في عقد الثمانينات بينما نعرف من مقدمة الشاعر بندر عبد الحميد الذي كتب عنها أوَّل مقالة عام 1973، أن لها قصائد أخرى ومسرحيات شعرية تعود إلى عقد السبعينات، فيما يصفها الشاعر نزيه أبو عفش في تقديمه بأنها «تتفرد، بين جميع مَنْ عرفتُ من شعراء، بكتابة بريئة من آثار بصمات الآخرين وإنها امرأة بلا مصير».
وفي الدخول إلى مضامين شعرها، خاصة في بُعده النفسي، سنجدها مختلفة عن المضامين المعتادة في الشعر النسوي العربي، فهي مضامين أكثر تعقيداً واختلافاً، وتقترب بقدر أو بآخر من أجواء شاعرات مكتئبات في الأدب الأوربي والإنكليزي تحديداً: مثل آن سيكستون المتمزقة بين قلق لاهوتي ومرض عقلي، وعنف أسري وعنف مضاد ملتبس ومسكوت عنه، بيد أن الصور الأوضح ربما تلك تجمعها بسيليفا بلاث حيث الأجواء «الثلجية» التي تهيمن على شعرها: «ثلاثة أطفال/ يحفرون قبري في الثلج/ الوحدة والحزن والحرية» و «لا شيءَ أقوى من رائحة الموت في الربيع/ بعد الوحدة الطويلة/ في شتاء ثلجي.» وفي نبرة اعترافها العميق الذي كان بالنسبة إليها نوعاً من المأزق المستمر، وكذلك في الكآبة التي قادت بلاث للانتحار، بيد أن كآبة شاعرتنا لم تقدها إلى الانتحار الصريح ولكن إلى مصير لا يفترق عنه كثيراً. فقد واصلت الاختناق بالعيش الممزوج بالمرارة أو «العيش مر» كما تنحت منه مفردة قاسية. وتؤرخ دعد حداد لقصائدها لا في اليوم فقط وإنما بالساعات والدقائق! وأغلبها بل ربما جميعها تشير إلى زمن بين منتصف الليل وطلوع الفجر، فكأنها امرأة لا تنام. وكأنَّها تنام في الكتابة فنومها شعر أو لعلها تكتب من كوابيسه وأحلامه. هذا الهوس بالكتابة يذكَّر أيضاً بهوس بلاث: «في الثالثة صباحاً/ تأتي الوحوش الأرضية/ وتصلِّي معي».
لكن المرجح أن الأمر لا يتعلق بتأثير واعٍ مباشرة لأيٍّ من هذه الأسماء، فهي في مكانٍ آخر حقاً. ولعلها لم تطلَّعْ على أشعار قريناتها المكتئبات لكنَّ ما يجمعها مع أولاء الشاعرات هو زهو الأنوثة المقهور، وثيمة الاعتراف في القصيدة. إذ يبدو العالم كمصحَّة، والشعر رسالة من ذلك المكان الذي نعيش فيه ولا يمكن التعرف بسهولة على طبقاته المتموجة. لكننا نستطيع أن تقرأ في شعرها حياةً صريحة بيأسها وقلة حيلتها على رغم شراستها، لا حياتها الشخصية فحسب، إنما سِير المقهورين، والهامشيين، والموتى كذلك. نقرأ أيضاً أسى لأمومةٍ مهدورةٍ. هل هي مهدورة حقاً؟ فقد كانت تصور الطفولة كما لا تستطيع كثير من الأمهات البيولوجيات وصفه. وتستعير صورة مريم المفجوعة في قصيدة «العشاء الأخير» وتخلق شخصية ذات اسم معبِّر «يباب» لدمية أو طفلة متخيلة تحاورها باعترافات لافتة.
شعرها شعر الأنوثة الشرسة قبل أن تُميَّع تماماً في التبرج اللغوي المعتاد والتطرف في سرد ذكريات السرير. إنها تتحدث من عالم الأسرار، وليس من غرفة أو سرير. وشعرها أبعد ما يكون عن التبرَّج والميوعة. حتى أنها تستخدم أحياناً صوت المذكر، لذا فنحن إزاء شاعرة وليس مجرد أنثى، ولكن أي نوع من الشعر وأي صنف من الشاعرات؟ في شعرها صعلكة واضحة حتى كأنها الشاعرة العربية الوحيدة التي تخترق المركزية الذكورية للصعلكة كما نعرفها من قرون، فإذ نعرف الكثير من الشعراء الصعاليك في الشعر العربي، أو الذين ادعوا الصعلكة في الشعر الحديث، إلا أننا نادراً ما قرأنا لشاعرةٍ تجربةً في الصعلكة بهذا الوضوح، وفي شعر دعد حداد الكثير، ما ما يحيل تجربتها إلى هذا الإرث: الجوع مقابل الإيثار، والتشرد، والشراسة إزاء الظلم في العالم، مع حنوٍّ على الكائنات الضعيفة والهشة، والانشقاق والنبذ الاجتماعي المتبادل، الذي يقابله الخلع، وأجواء الحانات الرخيصة: «أنا جدولٌ هَرِم/ مقطع الأوصال/ أسقي الينابيع» كما أن ثوريتها غير ملفَّقة، ومع أنها جزء من «وهم» عام في مرحلتها، لكنها تبدو في تجربتها الشخصية حقيقية، بل من الأشياء الحقيقية القليلة في عالمها المقفر، والمقفل غالباً.
وهي تكتب حياتها القاسية، وحياتها الأكثر سلاماً ما بعد الموت، فكثيراً ما تبدو لنا متحدثة من ذلك المكان المظلم، ما وراء القبر وأحياناً أخرى من داخل ضجة الحياة نفسها: «أيَّتُها الحياةُ المتسعة/ أين جدرانك؟» واعترافها عادة ما يكون مصحوباً بالإدانة للآخر: «إنكم نبلاءُ أكثرَ من اللازم أيُّها البشر/ من خلال الزجاجِ الملوَّن/ وأنا ربما أكثرُ نبلاً/ من خلال الزجاج المحطَّم».
وإذا كان رياض صالح الحسين قد وجد بعد رحيله جيلاً من الورثة والمقلدين فلا وارثات لطريقة دعد حداد الشعرية من النساء، ولا حتى وصيفات لفنّها، لأن طريقتها صعبة وغير متاحة، «لا أحد يستطيع أن يسكن في قبري» ولأن «مهنتها الخطر» وتجربتها تنطوي على عمق وبساطة تجربة وجودية وحياتية بالغة الندرة لهذا جاء شعرها صافياً بمقدار احتدامه وارتباكه الفني أحياناً، وأليفاً بمقدار ما يحمله من مضامين شرسة. شعرها شعر الاعتراف الجريء، وليس الادعاء الملفَّق، وربما لهذا نرى انحسار البلاغة في شعرها، وأنها قليلة العناية الفنية بشعرها، لمصلحة هذا الصوت الداخلي، الذي لا يمكن أن يختزل بوصفها بوحاً رومانسياً كما لدى نازك، مثلاً، لكن عزلة دعد هنا صريحة وسط ضجيج البشر والضيق بكل هذه السعة التي تتحرك فيها: «ها هي تذاكرُ السفر/ ارحلوا جميعاً/ واتركوني في داري» «وتولد دعد/على مقعد في حديقة/ وتستقبلُ أعوامَها/ وتبكي على الراحلين/ وتفرحُ أنَّ القصيدةَ عادتْ إلى حزنها/ وتبكي على حضنِها/ وتبكي على مَقعدٍ في الحديقة».
لم تذهب دعد حداد باعترافها إلى كاهن أو معبد، ولم تستلق على سرير في العيادة النفسية، لقد جعلت الشعر، هو الفضاء والمأزق: «أنا ابنة الشيطان/ أنا ابنة هذه الليلة المجنونة/ أنا من تحمل الزهور إلى قبرها/ وتبكي من شدَّةِ الشِعر/ أعلى حياتي تُبنى القصور/ وهذي الوسائدُ للوصيفات/ وتلك أحجاري المسروقة/ وسكاكيني يُجفلُ منها/ ومن عيوني يهطلُ المطر/ والعالم داري/ أغمضوا أعينكم/ سأمرّ وحيدة/ كحدِّ الرمح» ومثل هذا الزهو المنكسر ليس مألوفاً كثيراً في شعر امرأة. ومن هنا فأي محاولة للاستحواذ على شيء من إرث المرأة الوحيدة سيبدو نوعاً من الكوميديا، فهذه الفكرة ليست كوميديا قابلة للاستنساخ لكنها تراجيديا دونها «العيش المر» إنها سيرة المرأة الوحيدة الضاجة التي تنتعش في وحدتها والمزدحمة في وحشتها: «أيُّها الدربُ الْمُوحشُ!/يا دربَ الحبِّ!/سأعدُّ خطواتي/فالوحدةُ علَّمتْني العدَّ».
شعر دعد حداد تنويعات على الموت والوحدة والألم في تدرجات مضادة للاستسلام، فمن الكوني المعتم في ديوانها الأول «تصحيح خطأ الموت» إلى اليومي المتلبس بالحيرة والغرابة في «كسرة خبز تكفيني» لا يفارقها الألم، الألم الشخصي الذي جعلت منه علامة فارقة حيث القصيدة قصيرة ومكتفية بذاتها إلى حد بعيد، وصولاً إلى المونولوغ المتقطع ومحاورة الموت والفناء وتخوم النهايات في «الشجرة التي تميل نحو الأرض» وتجمع قصيدتها بين شكل الأبيغراما، وروح قصيدة النثر، على رغم أن أكثر شعرها مكتوب بالوزن، حيث الكثافة والإيجاز، والبناء المتقشف، متواشجة مع الإيقاع الداخلي، والاقتصاد بالحجم، والدهشة والمفارقة إلى جانب السخرية والحزن والرثاء. في مزيج من البساطة والبراعة، لكنها براعة غريزية وليست ذهنية.
مع دعد حداد نحن إزاء شعر منفلت من التوصيف الجنساني التقليدي للأدب، وفي صميم المأزق الجندري، شعر معبر عن إخلاص الضحية لمصيرها بمقدار احتجاجها. وهو نموذج ليس متوفِّراً في كل عصر، ولعله أكثر انحساراً لدى الشاعرات. فدعد حداد لم تكتب عن العالم من الخارج، ولم تتأمله من بعد، على رغم قسوته بل اخترقته بشراسة ومرقتْ فيه وخبرته تماماً، لذا فإن شعرها شهادة في هذا العالم وليس عنه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.