بداية تحول حقيقي، تقرير صادم عن سعر الذهب والفضة عام 2026    قوات التحالف تنشر مشاهد استهداف أسلحة وعربات قتالية في اليمن وتفند بيان الإمارات (فيديو)    نصف جيشهم من الجهاديين ولكن، نتنياهو يحدد موقفه من إقامة علاقات واتفاق سلام مع سوريا    ترتيب الدوري الإنجليزي بعد فوز آرسنال وتعثر مانشستر يونايتد وتشيلسي    مصرع طفل دهسه قطار الفيوم الواسطي أثناء عبوره مزلقان قرية العامرية    طقس رأس السنة.. «الأرصاد» تحذر من هذه الظواهر    زيلينسكي يناقش مع ترامب تواجد قوات أمريكية في أوكرانيا    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    «مسار سلام» يجمع شباب المحافظات لنشر ثقافة السلام المجتمعي    محافظ القاهرة: معرض مستلزمات الأسرة مستمر لأسبوع للسيطرة على الأسعار    توتر متصاعد في البحر الأسود بعد هجوم مسيّرات على ميناء توابسه    رئيس جامعة قنا يوضح أسباب حصر استقبال الحالات العادية في 3 أيام بالمستشفى الجامعي    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    المنتجين العرب يعلن دعمه وإشادته بمبادرة الشركة المتحدة للارتقاء بالمحتوى الإعلامي    «قاطعوهم يرحمكم الله».. رئيس تحرير اليوم السابع يدعو لتوسيع مقاطعة «شياطين السوشيال ميديا»    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    مصدر بالزمالك: سداد مستحقات اللاعبين أولوية وليس فتح القيد    شادي محمد: توروب رفض التعاقد مع حامد حمدان    نتائج الجولة 19 من الدوري الإنجليزي الممتاز.. تعادلات مثيرة وسقوط مفاجئ    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    قيس سعيّد يمدد حالة الطوارئ في تونس حتى نهاية يناير 2026    مانشستر يونايتد يسقط فى فخ التعادل أمام وولفرهامبتون بالدوري الإنجليزي    من موقع الحادث.. هنا عند ترعة المريوطية بدأت الحكاية وانتهت ببطولة    دعم صحفي واسع لمبادرة المتحدة بوقف تغطية مشاهير السوشيال ميديا والتيك توك    نتنياهو يزعم بوجود قضايا لم تنجز بعد في الشرق الأوسط    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    التنمية المحلية: تقليص إجراءات طلبات التصالح من 15 إلى 8 خطوات    طرح البرومو الأول للدراما الكورية "In Our Radiant Season" (فيديو)    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    الخميس.. صالون فضاءات أم الدنيا يناقش «دوائر التيه» للشاعر محمد سلامة زهر    لهذا السبب... إلهام الفضالة تتصدر تريند جوجل    ظهور نادر يحسم الشائعات... دي كابريو وفيتوريا في مشهد حب علني بلوس أنجلوس    بسبب الفكة، هل يتم زيادة أسعار تذاكر المترو؟ رئيس الهيئة يجيب (فيديو)    قرارات حاسمة من تعليم الجيزة لضبط امتحانات الفصل الدراسي الأول    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    غدًا.. محاكمة 3 طالبات في الاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    تراجع معظم مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات الثلاثاء    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"موائد من رماد" .. واقعية السرد وأفق التلقي
نشر في صوت البلد يوم 06 - 09 - 2017

رغم تعدد الدراسات والاتجاهات بشأن الكتابات السردية، فإن متعة قراءة اي رواية تتأتى من قدرة الروائي على جعل المتلقي يندمج بالأحداث ويلتصق بشخوص الرواية لدرجة اللهفة لمعرفة الخطوات اللاحقة لها، وبالتالي فإن الوصول إلى الصفحة الأخيرة يجعلك تشعر بلحظة الفراق لتلك الشخصيات التي رافقتها على مدى أحداث الرواية.
وبقدر ما تجعلك فراغات النص تحاول استنهاض ملكة التخييل لديك لملئها، بقدر ما يسحبك الوصف المحبك الى رسم صورة ذهنية تحاول أن تستعرض عبرها اللقطات التي يرسمها الكاتب على الورق وكأنك تقرأ سيناريو لفيلم سينمائي، أو تسترجع ذكريات لا تدري ان كنت عشتها فعلا، وهكذا يمكن للحدث الروائي أن يحفز مناطق الخيال أو يقف بك عند نقطة صلدة لا تستطيع معها أن تستوعب الأحداث فتقرر التوقف عن القراءة.
في رواية لطفي جميل محمد "موائد من رماد" يأخذك سرد الأحداث الى تلك المنطقة من الذاكرة لتسترجع أحداثا ربما عشتها فعلا، أو ترددت على مسامعك، فيصبح الحدث مستفزا لذاكرتك محفزا لتخيلاتك التي تحاول صياغة النص السردي لتحوله إلى صور متحركة تتداعى في ذهنك كونها تنتمي للواقع الذي عشته فعلا.
الرواية تتحدث عن اللواء أحمد، القائد العسكري العراقي الذي يعتقله الجيش الأميركي بعد سيطرته على بغداد في أبريل/نيسان 2003، ليطلق سراحه لاحقا فيقتل على يد مجموعة مسلحة عراقية.
يبدأ النص الروائي في لحظة إطلاق سراح اللواء أحمد الذي يجد نفسه فجأة في شارع مقفر وسط بغداد، ليقف على أعتاب نصب الحرية في ساحة التحرير في مشهد رمزي معبر لتنثال تداعيات الشخصية الروائية التي تأتينا من خلال حديث راو عليم يصف خطوات الشخصيات ومشاعرها، وكأنه هي فيسحب خيال القاريء نحو صور مركزة تحدد أحيانا قدرته على التخيل لتحصره داخل صور ذهنية يتم استدعاؤها مع ترادف العبارات التي تصف المكان والزمان والشخصية ومشاعرها.
وفي لحظة ينعطف المسار السردي ليعود بنا الى لحظة إلقاء القبض على اللواء أحمد وتداعيات ذلك مع إجراءات التحقيق التي يجريها الضابط الأميركي الذي يضع اللواء أحمد امام خيارين التعاون مع الجيش المحتل أو القتل.
هذه التداعيات لا تأتي بشكل مباشر وانما عبر منعطف سردي جديد يضعنا الكاتب امامه عبر قراءة رواية أخرى تم كتابتها بقلم الضابط العراقي، ويتم قراءتها من قبل المترجم الذي يرافق الضابط الأميركي المكلف بالتحقيق مع اللواء أحمد.
وبهذا نكون أمام نصين روائيين، حدثان يسيران بشكل متواز وبترادف داخل المتن الروائي، الحدث الأول واقعي، ويتعلق باعتقال اللواء أحمد، والثاني خيالي ويتعلق بشخصية روائية لجندي عراقي يجد نفسه داخل كهف في منطقة يسيطر عليها العدو بعد هجوم مباغت.
ومع افتراض أن أحداث الرواية المتعلقة بالجندي هي خيالية كتبها اللواء أحمد بعد الحرب العراقية الإيرانية أو أثنائها فإنك تشعر عند تحليل الخطاب الروائي هي الأخرى أحداث حقيقية مرّت بالضابط العراقي، لذلك ضمنها انفعالات ومشاعر تكاد تتحدث عن ذات المشاعر والانفعالات التي يشعر بها هو في اللحظة التي يعيشها معتقلا في غرفة منفردة ببناية منعزلة لا يعرف عنها شيئا سوى أن الأميركان يتخذونها مقرا لهم.
فالكهف في الرواية التي كتبها اللواء أحمد، هو ذات الغرفة التي يقبع داخلها الكاتب في اللحظة التي يتلو فيها المترجم أحداث الرواية على أسماع الضابط الأميركي. وبهذا فإن المؤلف استطاع بلعبة ذكية أن يصف لنا انفعالات الضابط المعتقل بشكل غير مباشر عبر انفعالات الجندي عبدالله المحاصر في كهف مجهول، رغم اختلاف الزمان والمكان وطبيعة الأحداث.
وإذا كان الروائي يقدم لنا شخصية الضابط العراقي الذي يحاول البقاء وفيا لعقيدته العسكرية ووطنه فإنه بالمقابل، يتحدث عن شخصية تشعر بالانهزامية في داخلها، بعد أن أيقن أن البلد آيل الى الخراب: "كم أنا ساذج .. فبغداد تحترق وربما مدن العراق الأخرى، وأنا افكر بالطموح..! أعتقد أنني يجب أن أفكر في النجاة بجلدي، بدلا من الهلوسة الفارغة..!" (ص101).
هكذا يحدث بطل الرواية نفسه وهو موقن ان الامر لا يتعلق بلحظة راهنة بل بسلسلة من الوقائع المفجعة التي مرّ بها البلد على مدى عقود ما جعل أبناءه "يتطلعون إلى السلام والهدوء منذ زمن وبمرارة"، ذلك ان العراقي لم يذق طعم ذلك "فكان هو إما وقودا للحروب، او لحصار كان لا يختلف في ضرره عن حشرة الارضة، فهو نخرنا".
وهكذا فإن الضابط يعي كلّ متسببات اللحظة التي يعيشها، والوضع الذي أدى إلى أن يكون في الموقف الذي هو فيه، الأمر الذي جعل النص الروائي يبتعد عن الخطابية التي تستحوذ على كثير من النصوص السردية العراقية، ليقترب من تلمس الواقع، هذا الواقع نفسه الذي يجعل الاميركان يطلقون سراح الضابط العراقي الكبير، رغم رفضه لهم ولكن بعدما أصبحوا على يقين بأنه سيقتل!
وهكذا فالاميركان اذا لم يستطيعوا تحقيق رغبتهم لدى العراقيين فأن الحل ممكن ان يتوفر في خيار آخر وهو ما يمكن أن نتلمسه من تصريح ضابط التحقيق الاميركي للمترجم "لدينا خيارات كثيرة، وسنطرق أخطرها، حين نجد لذلك ضرورة، وفي الوقت المناسب..! "، "على سبيل المثال، نفكر أن ندخل جميع العراقيين في نفق يحلمون أن يخرجوا منه، وهذا ما سيضعفهم كثيرا، وستكون قواتنا في منأى عن خطورتهم".
وبهذا الشكل فإن الكاتب يتنقل بنا بين اللواء أحمد والجندي عبدالله في مسارين سرديين منفصلين، وفي الوقت نفسه يتناول الضابط الاميركي والمترجم، وان بدرجة أقل بكثير، ليحاول ان يقدم رواية متعددة الاصوات رغم هيمنة صوت الراوي على الحكاية منذ بداية الرواية حتى نهايتها.
وما يمكن أن نؤشره هنا بشأن الخطاب السردي أن الكاتب استطاع أن يكسر أفق التلقي عند القاريء فيما يتعلق بمصير اللواء أحمد، فمطلع الرواية الذي يبدأ بلحظة إطلاق سراح الضابط العراقي تجعلنا أمام توقع مسار سردي ينتهي عند عودة اللواء أحمد الى عائلته، لكن الكاتب يكسر ذلك التوقع بانتهاء أحداث الرواية بلحظة قتل اللواء أحمد على يد مسلحين يقتحمون منزله بعد أيام من إطلاق سراحه.
ولكن في الوقت نفسه فإنه استعجل في بيان مصير الجندي عبدالله المحاصر في الكهف عندما ألمح على لسان اللواء أحمد في منولوج داخلي إلى أن الجندي قد مات قبل إنقاذه، في الوقت الذي لم تستكمل قراءة الرواية على لسان المترجم، ما جعل الرواية الثانية تنتهي فعلا قبل الفصل الأخير منها، لأن القاريء استكمل ما تلى ذلك وهو يعرف مسبقا أن الجندي ميت وأن سرد الأحداث اللاحقة فقد متعته ولحظة الترقب التي يستشعرها القاريء لمعرفة مصير الجندي بعد سيطرة الجيش العراقي على المنطقة التي كان محاصرا فيها.
ورغم أن نهاية الرواية تتضمن بعض الترهل والإيغال في الوصف الذي يفسد متعة التلقي، إلا أنها كانت صادمة، وتتضمن الكثير من المعاني والرمزية، رغم واقعيتها وهو ما ينم عن تمكن في البناء الروائي إذ أن النهاية ترتبط ببداية الفصل الأول من الاحداث، وهي مفتتح لأحداث لاحقة ما بعد أحداث الرواية التي بين أيدينا، فالأمر لا يعدو أن يكون موائد مستمرة من رماد وخراب.
رغم تعدد الدراسات والاتجاهات بشأن الكتابات السردية، فإن متعة قراءة اي رواية تتأتى من قدرة الروائي على جعل المتلقي يندمج بالأحداث ويلتصق بشخوص الرواية لدرجة اللهفة لمعرفة الخطوات اللاحقة لها، وبالتالي فإن الوصول إلى الصفحة الأخيرة يجعلك تشعر بلحظة الفراق لتلك الشخصيات التي رافقتها على مدى أحداث الرواية.
وبقدر ما تجعلك فراغات النص تحاول استنهاض ملكة التخييل لديك لملئها، بقدر ما يسحبك الوصف المحبك الى رسم صورة ذهنية تحاول أن تستعرض عبرها اللقطات التي يرسمها الكاتب على الورق وكأنك تقرأ سيناريو لفيلم سينمائي، أو تسترجع ذكريات لا تدري ان كنت عشتها فعلا، وهكذا يمكن للحدث الروائي أن يحفز مناطق الخيال أو يقف بك عند نقطة صلدة لا تستطيع معها أن تستوعب الأحداث فتقرر التوقف عن القراءة.
في رواية لطفي جميل محمد "موائد من رماد" يأخذك سرد الأحداث الى تلك المنطقة من الذاكرة لتسترجع أحداثا ربما عشتها فعلا، أو ترددت على مسامعك، فيصبح الحدث مستفزا لذاكرتك محفزا لتخيلاتك التي تحاول صياغة النص السردي لتحوله إلى صور متحركة تتداعى في ذهنك كونها تنتمي للواقع الذي عشته فعلا.
الرواية تتحدث عن اللواء أحمد، القائد العسكري العراقي الذي يعتقله الجيش الأميركي بعد سيطرته على بغداد في أبريل/نيسان 2003، ليطلق سراحه لاحقا فيقتل على يد مجموعة مسلحة عراقية.
يبدأ النص الروائي في لحظة إطلاق سراح اللواء أحمد الذي يجد نفسه فجأة في شارع مقفر وسط بغداد، ليقف على أعتاب نصب الحرية في ساحة التحرير في مشهد رمزي معبر لتنثال تداعيات الشخصية الروائية التي تأتينا من خلال حديث راو عليم يصف خطوات الشخصيات ومشاعرها، وكأنه هي فيسحب خيال القاريء نحو صور مركزة تحدد أحيانا قدرته على التخيل لتحصره داخل صور ذهنية يتم استدعاؤها مع ترادف العبارات التي تصف المكان والزمان والشخصية ومشاعرها.
وفي لحظة ينعطف المسار السردي ليعود بنا الى لحظة إلقاء القبض على اللواء أحمد وتداعيات ذلك مع إجراءات التحقيق التي يجريها الضابط الأميركي الذي يضع اللواء أحمد امام خيارين التعاون مع الجيش المحتل أو القتل.
هذه التداعيات لا تأتي بشكل مباشر وانما عبر منعطف سردي جديد يضعنا الكاتب امامه عبر قراءة رواية أخرى تم كتابتها بقلم الضابط العراقي، ويتم قراءتها من قبل المترجم الذي يرافق الضابط الأميركي المكلف بالتحقيق مع اللواء أحمد.
وبهذا نكون أمام نصين روائيين، حدثان يسيران بشكل متواز وبترادف داخل المتن الروائي، الحدث الأول واقعي، ويتعلق باعتقال اللواء أحمد، والثاني خيالي ويتعلق بشخصية روائية لجندي عراقي يجد نفسه داخل كهف في منطقة يسيطر عليها العدو بعد هجوم مباغت.
ومع افتراض أن أحداث الرواية المتعلقة بالجندي هي خيالية كتبها اللواء أحمد بعد الحرب العراقية الإيرانية أو أثنائها فإنك تشعر عند تحليل الخطاب الروائي هي الأخرى أحداث حقيقية مرّت بالضابط العراقي، لذلك ضمنها انفعالات ومشاعر تكاد تتحدث عن ذات المشاعر والانفعالات التي يشعر بها هو في اللحظة التي يعيشها معتقلا في غرفة منفردة ببناية منعزلة لا يعرف عنها شيئا سوى أن الأميركان يتخذونها مقرا لهم.
فالكهف في الرواية التي كتبها اللواء أحمد، هو ذات الغرفة التي يقبع داخلها الكاتب في اللحظة التي يتلو فيها المترجم أحداث الرواية على أسماع الضابط الأميركي. وبهذا فإن المؤلف استطاع بلعبة ذكية أن يصف لنا انفعالات الضابط المعتقل بشكل غير مباشر عبر انفعالات الجندي عبدالله المحاصر في كهف مجهول، رغم اختلاف الزمان والمكان وطبيعة الأحداث.
وإذا كان الروائي يقدم لنا شخصية الضابط العراقي الذي يحاول البقاء وفيا لعقيدته العسكرية ووطنه فإنه بالمقابل، يتحدث عن شخصية تشعر بالانهزامية في داخلها، بعد أن أيقن أن البلد آيل الى الخراب: "كم أنا ساذج .. فبغداد تحترق وربما مدن العراق الأخرى، وأنا افكر بالطموح..! أعتقد أنني يجب أن أفكر في النجاة بجلدي، بدلا من الهلوسة الفارغة..!" (ص101).
هكذا يحدث بطل الرواية نفسه وهو موقن ان الامر لا يتعلق بلحظة راهنة بل بسلسلة من الوقائع المفجعة التي مرّ بها البلد على مدى عقود ما جعل أبناءه "يتطلعون إلى السلام والهدوء منذ زمن وبمرارة"، ذلك ان العراقي لم يذق طعم ذلك "فكان هو إما وقودا للحروب، او لحصار كان لا يختلف في ضرره عن حشرة الارضة، فهو نخرنا".
وهكذا فإن الضابط يعي كلّ متسببات اللحظة التي يعيشها، والوضع الذي أدى إلى أن يكون في الموقف الذي هو فيه، الأمر الذي جعل النص الروائي يبتعد عن الخطابية التي تستحوذ على كثير من النصوص السردية العراقية، ليقترب من تلمس الواقع، هذا الواقع نفسه الذي يجعل الاميركان يطلقون سراح الضابط العراقي الكبير، رغم رفضه لهم ولكن بعدما أصبحوا على يقين بأنه سيقتل!
وهكذا فالاميركان اذا لم يستطيعوا تحقيق رغبتهم لدى العراقيين فأن الحل ممكن ان يتوفر في خيار آخر وهو ما يمكن أن نتلمسه من تصريح ضابط التحقيق الاميركي للمترجم "لدينا خيارات كثيرة، وسنطرق أخطرها، حين نجد لذلك ضرورة، وفي الوقت المناسب..! "، "على سبيل المثال، نفكر أن ندخل جميع العراقيين في نفق يحلمون أن يخرجوا منه، وهذا ما سيضعفهم كثيرا، وستكون قواتنا في منأى عن خطورتهم".
وبهذا الشكل فإن الكاتب يتنقل بنا بين اللواء أحمد والجندي عبدالله في مسارين سرديين منفصلين، وفي الوقت نفسه يتناول الضابط الاميركي والمترجم، وان بدرجة أقل بكثير، ليحاول ان يقدم رواية متعددة الاصوات رغم هيمنة صوت الراوي على الحكاية منذ بداية الرواية حتى نهايتها.
وما يمكن أن نؤشره هنا بشأن الخطاب السردي أن الكاتب استطاع أن يكسر أفق التلقي عند القاريء فيما يتعلق بمصير اللواء أحمد، فمطلع الرواية الذي يبدأ بلحظة إطلاق سراح الضابط العراقي تجعلنا أمام توقع مسار سردي ينتهي عند عودة اللواء أحمد الى عائلته، لكن الكاتب يكسر ذلك التوقع بانتهاء أحداث الرواية بلحظة قتل اللواء أحمد على يد مسلحين يقتحمون منزله بعد أيام من إطلاق سراحه.
ولكن في الوقت نفسه فإنه استعجل في بيان مصير الجندي عبدالله المحاصر في الكهف عندما ألمح على لسان اللواء أحمد في منولوج داخلي إلى أن الجندي قد مات قبل إنقاذه، في الوقت الذي لم تستكمل قراءة الرواية على لسان المترجم، ما جعل الرواية الثانية تنتهي فعلا قبل الفصل الأخير منها، لأن القاريء استكمل ما تلى ذلك وهو يعرف مسبقا أن الجندي ميت وأن سرد الأحداث اللاحقة فقد متعته ولحظة الترقب التي يستشعرها القاريء لمعرفة مصير الجندي بعد سيطرة الجيش العراقي على المنطقة التي كان محاصرا فيها.
ورغم أن نهاية الرواية تتضمن بعض الترهل والإيغال في الوصف الذي يفسد متعة التلقي، إلا أنها كانت صادمة، وتتضمن الكثير من المعاني والرمزية، رغم واقعيتها وهو ما ينم عن تمكن في البناء الروائي إذ أن النهاية ترتبط ببداية الفصل الأول من الاحداث، وهي مفتتح لأحداث لاحقة ما بعد أحداث الرواية التي بين أيدينا، فالأمر لا يعدو أن يكون موائد مستمرة من رماد وخراب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.