ِشارك صحافة من وإلى المواطن    الآلاف فى ختام مولد السيد البدوى «شىء لله يا شيخ العرب»    وزارة العمل: حملات تفتيش مكثفة على 6192 منشأة خلال 16 يومًا    ارتباك فى الأسواق بعد زيادة أسعار الوقود    تراجع عيار 21 الآن بالمصنعية.. سعر الذهب اليوم السبت بالصاغة بعد الانخفاض الكبير    سعر طن الحديد الاستثمارى وعز والأسمنت بسوق مواد البناء السبت 18 أكتوبر 2025    «الاحتلال»: الصليب الأحمر في طريقه لتسلم جثمان محتجز من جنوب قطاع غزة    «زيلينسكى» يطالب بتزويده بصواريخ «توماهوك»    «أمك اللى اقترحت القمة».. رد جرئ من متحدثة البيت الأبيض على مراسل أمريكي (تفاصيل)    مصرع طفل بعد هجوم كلب ضال في قرية دقدوقة بالبحيرة    «الأرصاد» تكشف حالة الطقس اليوم وتُعلن عن ظاهرة جوية «مؤثرة»: توخوا الحذر    سقوط 3 متهمين بالنصب على راغبي شراء الشقق السكنية    عاتبه على سوء سلوكه فقتله.. تشييع جثمان ضحية شقيقه بالدقهلية    ب «أنا ابن مصر» مدحت صالح يختتم حفله بمهرجان الموسيقى العربية    «الجونة السينمائى» يُطلق دورته الثامنة بحضور «كامل العدد» لنجوم الفن    ملوك الدولة الحديثة ذروة المجد الفرعونى    أحمد كريمة: مقتل عثمان بن عفان كان نتيجة «الفتنة السبئية» التي حرض عليها اليهودي بن سبأ    «بمكونات سحرية».. تحضير شوربة العدس للاستمتاع ب أجواء شتوية ومناعة أقوي (الطريقة والخطوات)    استعد ل الشتاء بنظافة تامة.. الطريقة الصحيحة لغسيل البطاطين قبل قدوم البرد    «فطور بتاع المطاعم».. طريقة عمل الفول الإسكندراني بخطوات سهلة ونكهة لا تُنسى    تفاصيل ضبط طرفي مشاجرة داخل مقر أحد الأحزاب بالجيزة    اعتراض لاعبي الدوري الإسباني على قرار إقامة مباراة برشلونة وفياريال في ميامي    مباراة ال6 أهداف.. التعادل يحسم مواجهة باريس سان جيرمان وستراسبورج    انطلاق أول تجربة بنظام التصويت الإلكتروني في الأندية الرياضية    أحمد زعيم يخطف الأنظار ب "مابكدبش".. عمل غنائي راقٍ يثبت نضجه الفني    نجوى إبراهيم تتصدر تريند جوجل بعد تعرضها لحادث خطير في أمريكا وإجرائها جراحة دقيقة تكشف تفاصيل حالتها الصحية    «السياحة» تشارك في رعاية الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي 2025    مواقيت الصلاه اليوم السبت 18اكتوبر 2025فى المنيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط السبت 19102025    أسعار اللحوم فى أسيوط السبت 18102025    اسعار الفاكهة فى أسيوط السبت 18102025    الأمير البريطاني آندرو يتخلى عن لقب دوق يورك    قرار هام بشأن المتهم بقتل طفلته وتعذيب شقيقها بأطفيح    اليوم.. محاكمة 7 متهمين في قضية «داعش التجمع»    المحكمة الدستورية تشارك في أعمال الندوة الإقليمية بالمملكة الأردنية الهاشمية    نقاط ضوء على وقف حرب غزة.. وما يجب الانتباه إليه    رياضة ½ الليل| مصر تتأهل للأولاد.. يد الأهلي تكتسح.. الغيابات تضرب الزمالك.. وزعزع أفضل لاعب    حكام مباريات الأحد في الدوري المصري الممتاز    20 لاعبا فى قائمة الإسماعيلى لمواجهة حرس الحدود بالدورى    إمام عاشور يذبح عجلاً قبل العودة لتدريبات الأهلى.. ويعلق :"هذا من فضل ربى"    حمزة نمرة لبرنامج معكم: الفن بالنسبة لي تعبير عن إحساسي    مارسيل خليفة: لا أدرى إلى أين سيقودنى ولعى بلعبة الموسيقى والكلمات.. لدى إيمان كامل بالذوق العام والموسيقى فعل تلقائى لا يقبل الخداع والتدليس.. محمود درويش حى يتحدى الموت وصوته يوحى لى متحدثا من العالم الآخر    أنغام تتألق بفستان أسود مطرز فى حفل قطر.. صور    تعرف على طاقم حكام مباريات الأحد فى الدورى الممتاز    الجيش الإسرائيلى يعلن تصفية عنصر من حزب الله في غارة جنوب لبنان    محمد صلاح يتألق فى تدريبات ليفربول استعدادا لمانشستر يونايتد    قناة عبرية: ضباط أمريكيون سيقيمون مركز قيادة في غلاف غزة لقيادة قوات دولية    رئيس البنك الدولى: إعادة إعمار غزة أولوية وننسق مع شركاء المنطقة    زيادة تصل إلى 17 جنيها، تعريفة الركوب الجديدة لخطوط النقل الداخلية والخارجية ب 6 أكتوبر    أخبار 24 ساعة.. وزارة التضامن تطلق المرحلة الرابعة من تدريبات برنامج مودة    نائب وزير الصحة تناقش "صحة المرأة والولادة" في المؤتمر الدولي ال39 بجامعة الإسكندرية (صور)    الإثنين، آخر مهلة لسداد اشتراكات المحامين حاملي كارنيه 2022    اللواء بحرى أركان حرب أيمن عادل الدالى: هدفنا إعداد مقاتلين قادرين على حماية الوطن بثقة وكفاءة    «الوطنية للانتخابات»: قاعدة بيانات محدثة للناخبين لتيسير عملية التصويت    إسلام عفيفي يكتب: الطريق إلى مقعد جنيف    ما هي صلاة النوافل وعددها ومواعيدها؟.. أمين الفتوى يجيب    ينافس نفسه.. على نور المرشح الوحيد بدائرة حلايب وشلاتين    العلماء يؤكدون: أحاديث فضل سورة الكهف يوم الجمعة منها الصحيح ومنها الضعيف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



استيلا قاتيانو: غزونا العربية بقصص أفريقيا
نشر في صوت البلد يوم 26 - 07 - 2017

سجلت استيلا قاتيانو حضورها عام 2004 من خلال مجموعتها القصصية «زهور ذابلة» لتدخل الأدب السوداني من أضيق نوافذه، فهي لم تأت فقط من هامش المكان بل أيضاً من «هامش الزمان واللغة»، على حد تعبيرها.
وقبل عامين، أصدرت مجموعتها الثانية بعنوان «العودة» التي تحكي فيها عن النزوح في الاتجاه المعاكس (من الشمال إلى الجنوب) بعد استقلال جنوب السودان الذي تنتمي إليه ولم تولد فيه. استقبل السودانيون نصوص استيلا بكثير من الحفاوة التي يرى الناقد السوداني مصطفى الصاوي أنها «تكشف عن شخصيات مأزومة ماضية إلى مصائرها وهي لا تدرك».
كثيراً ما تقوم استيلا بقتل أبطالها لتمنحهم «موتاً لائقاً» أو لتضعهم في طريق الخلود، كما في قصتها «أقتل نفسي… وأحتفي». وتقول الكاتبة أن قصصها تلتقط واقع المجزرة «بعين الكاميرا مفجرة الحياة في التفاصيل الجامدة». في مهرجان برلين للأدب هذا العام، لم تستطع الحضور بجانب رفيقها عبدالعزيز بركة ساكن لقراءة قصصها. وبذا قمنا بإجراء هذا الحوار معها للحديث عن تجربتها وأسباب منعها من السفر إلى برلين.
- ما أسباب منعك من السفر لحضور مهرجان برلين للأدب؟
منعت من السفر بسبب إجراء جديد لم أكن أعلم به وهو تأشيرة «خروج وعودة». لم نكن مطالبين بهذا الإجراء مسبقاً كجنوبيين مقيمين في السودان، والدليل على ذلك أنني دعيت للمشاركة في مؤتمر في الشارقة العام الماضي وذهبت من دون ممانعة من أحد وكانت إقامتي في الخرطوم سارية المفعول، بل بالعكس عانى السودانيون الذين كانوا معي من إجراءات كثيرة قبل خروجهم حتى مازحني أحد الكتاب قائلاً: «إذا أتيت إلى جوبا هل تمنحونني الجنسية؟». لا أريد أن أفكر بأنه أمر مقصود. من الأفضل لي أن أعتبر الأمر إجراءً قانونياً ليس إلا، ولكن كنت آمل أن تكون هنالك قوانين واضحة وثابتة للتعامل مع الجواز الجنوبي في السودان بدلاً من هذه المفاجآت. لا نريد أن نكون لعبة حسب العلاقة السياسية المزاجية بين جوبا والخرطوم، فنحن صبيحة كل يوم نتفاجأ بتصريح، مرة مواطنو جنوب السوادن يتم التعامل معهم كالمواطنين السودانيين فهم أحرار في وطنهم الأم، ومرة نصبح أجانب! وتارة نستثنى مع السوريين والمصريين من بعض الإجراءات. نريد خطوطاً واضحة وإذا عرفنا القانون بالطبع ذلك أسهل علينا لأننا المتضرر الأول والأخير من عدم وجود ثوابت لدخولنا وخروجنا من السودان، خاصة أننا مرتبطون بعائلاتنا ومسؤوليات الدراسة والعمل، ما يعني أن دخولنا وخروجنا من السودان أمر حتمي، فقط نريد خطوطاً واضحة ولن نتجاوز القانون.
- حدثنا بركة ساكن عنك وعن المجموعة الأدبية الصغيرة التي شكلتموها. جئتم إلى الأدب من الهامش ثم دُفعتم للنزوح في اتجاهات مختلفة. كيف يشغل الواحد منكم وحدته الأدبية هذه؟ وما أثرها على واقع الأدب السوداني؟
بالعالم والإنسان والحياة بأكملها، حتى لو اعتبرنا أنها وحدة فيزيائية أي ليس هناك أحد بقربه يدعمه أو يفهمه وهذه مشكلة عامة يعاني منها الكثير من الكتاب، فهناك دائماً عالم خاص ضاج بالحياة يجد الكاتب نفسه متورطاً للتفاعل معه، سواء كان هذا العالم واقعا موجودا حوله أو يمور في خياله. الشخوص، بيئتهم، لغتهم، تعابيرهم، أحلامهم وخيباتهم كلها تتقاطع مع الواقع من حوله. الكاتب يفجر الحوارات مع الغرباء، يخلق العلاقات مع البشر والشجر والحجر، الكاتب مهموم بالتغيير لصناعة فرق في هذا العالم حتى ولو بسيط. كيف يشعر كائن مثل هذا بالوحدة؟ إذا شعر كاتب ما بالوحدة فقد نضب خياله وفقد بوصلته.
بعد أن عمّ الخراب من حولنا اضطر الكثير منا للرحيل إلى المنافي أو مقاومة سجن الوطن. عدت أنا إلى الجنوب وتفرق آخرون في العالم وآثر غيرهم الصمت أو الموت على الأرصفة الباردة. أثر قصة الهامش على الأدب السوداني كبير، فقد فرض حالة من القبول بالآخر المختلف الذي له رؤيته الخاصة وثقافته الخاصة في هذا السودان الكبير المتعدد. فالهامش هو مركز في حد ذاته. هو هامش بالنسبة للساسة، ولكن في الواقع هو مركز لثقل ثقافي لا بد أن يجد طريقه للنور، وهذه مهمتنا. نعم لقد جئنا من الهامش ويمكنني أن أقول ليس فقط من هامش المكان، بل أيضاً هامش الزمان واللغة. بيئاتنا جميلة ومليئة بالحياة، والثقافات التي مورس ضدها التعتيم والنفي المنظم بأمر الدولة. هذه الدولة التي حددت لغتها وهويتها وخريطتها الإقليمية بما يتناسب مع الفئة الحاكمة متجاهلة تماماً الاختلاف والتنوع الموجود. نحن في السودان كنا أكثر من مجرد ثقافة واحدة، هوية واحدة، دين واحد، ولغة واحدة، لكن تم اختزالنا في ثوب واحد ومن لم يناسبه هذا الثوب أجبر على أن يشعل حرباً أو يرحل أو يتشوه، ليصاب بالانفصام الوجداني ولا يرى في المرآة إلا الصورة المروج لها سياسياً وأيديولوجياً. ككتاب تصالحنا مع واقعنا وامتلكنا أدواتنا وانطلقنا ننحت في الصخر لترك بصمتنا. غزونا اللغة العربية بقصص وحكايا من قلب أفريقيا، وغزتنا اللغة العربية بالمفردة والكلمة والتعبير لنتصادق في هذا الفضاء الإنساني، من دون أسئلة أو زيف وفي تسامح تام.
اللغة العربية مساحتي الجمالية
- في برلين لم يقرأوا نصك بالعربية فاكتفوا بالترجمة الألمانية. وكأن اللغة العربية تسلب منك مراراً. كيف تتجدد علاقتك مع هذه اللغة؟
لا يستطيع أحد أن يسلبني اللغة العربية فنصوصي متوفرة للقارئ في أي مكان. لقد وجدت في اللغة العربية مساحتي الجمالية التي بت أتحرك فيها بسلاسة وأحملها مخزوني الثقافي البعيد كل البعد عن الثقافة العربية، فاللغات إرث إنساني يجب ألا تُحتكر في قوالب سياسية أو أيديولوجية أو ثقافية ضيقة. أحس في بعض الأحيان بأن اللغات كالهواء والماء والأرض يمكن للجميع تشاركها والتواصل من خلالها. ولكن عندما يتم استخدامها كأداة لجلد التنوع وإقصاء الآخرين فنحن بذلك لا نجني على أنفسنا فقط، بل نجني على لغاتنا وثقافاتنا لأنها ستكون عرضة للنكران أو يحاول البعض التخلص منها وإهمالها، إذ تتحول من أداة للجمال والتواصل الإنساني النقي إلى أداة للتمييز والقهر والإجبار. أنا استيلا قايتانو متصالحة مع اللغة العربية وعلى استعداد للتصالح مع لغات أخرى متى عرفت إليها سبيلا.
- عشتِ تجربة النزوح مرتين: مرة في حياتك التي بدأتها في الخرطوم ومرة أخرى بعد استقلال الجنوب، كيف يتشبث الكاتب/ة بقدرته على الكتابة ضمن حالة الاقتلاع هذه؟
لتكون الكتابة جيدة لا بد أن تصقل بالتجربة، حلوة كانت أو مرة، نكهة التجربة الذاتية تفوح من النصوص والكتب وتؤثر مباشرة في القارئ/ة لأن ذلك يلمس قلبه مباشرة من دون مواربة، فنحن نمسك القلم ونعيد رسم الحياة بالكلمات. إذا لم نُشعر القارئ بالألم ولم ندفعه للبكاء أو السب أو الاشمئزاز أو الضحك أو الابتسام أو البلل حتى، يتوجب علينا حينها مساءلة الطريقة التي نكتب بها أو حتى التوقف عن الكتابة. الكتابة حالة مصداقية بين الكاتب/ة والقارئ/ة أما إذا كانت هنالك كذبة أو حالة من التحايل فستتضح من أولى الصفحات ليضع القارئ الكتاب جانباً، وقد يعود لقراءته لاحقاً أو لن يعود أبداً.
لقد اختبرت الحرب مرتين مرة من خلال رؤية آثارها على الآخرين من أهلي وأقاربي ومرة كتجربة ذاتية. الحالتان كان التعبير عنهما مختلفاً في الكتابة. أحسست بأن التجربة الذاتية لها تميزها وسهولة التعبير عنها. من هنا يأتي التشبث بالكتابة، تفريغ لكل تلك الشحنات، فالكاتب لا يملك وسيلة أخرى غير الكتابة، والكاتب لا يحبذ الهتاف والصريخ والمجادلة فقط يبتعد ويبدأ في التدوين.
سجلت استيلا قاتيانو حضورها عام 2004 من خلال مجموعتها القصصية «زهور ذابلة» لتدخل الأدب السوداني من أضيق نوافذه، فهي لم تأت فقط من هامش المكان بل أيضاً من «هامش الزمان واللغة»، على حد تعبيرها.
وقبل عامين، أصدرت مجموعتها الثانية بعنوان «العودة» التي تحكي فيها عن النزوح في الاتجاه المعاكس (من الشمال إلى الجنوب) بعد استقلال جنوب السودان الذي تنتمي إليه ولم تولد فيه. استقبل السودانيون نصوص استيلا بكثير من الحفاوة التي يرى الناقد السوداني مصطفى الصاوي أنها «تكشف عن شخصيات مأزومة ماضية إلى مصائرها وهي لا تدرك».
كثيراً ما تقوم استيلا بقتل أبطالها لتمنحهم «موتاً لائقاً» أو لتضعهم في طريق الخلود، كما في قصتها «أقتل نفسي… وأحتفي». وتقول الكاتبة أن قصصها تلتقط واقع المجزرة «بعين الكاميرا مفجرة الحياة في التفاصيل الجامدة». في مهرجان برلين للأدب هذا العام، لم تستطع الحضور بجانب رفيقها عبدالعزيز بركة ساكن لقراءة قصصها. وبذا قمنا بإجراء هذا الحوار معها للحديث عن تجربتها وأسباب منعها من السفر إلى برلين.
- ما أسباب منعك من السفر لحضور مهرجان برلين للأدب؟
منعت من السفر بسبب إجراء جديد لم أكن أعلم به وهو تأشيرة «خروج وعودة». لم نكن مطالبين بهذا الإجراء مسبقاً كجنوبيين مقيمين في السودان، والدليل على ذلك أنني دعيت للمشاركة في مؤتمر في الشارقة العام الماضي وذهبت من دون ممانعة من أحد وكانت إقامتي في الخرطوم سارية المفعول، بل بالعكس عانى السودانيون الذين كانوا معي من إجراءات كثيرة قبل خروجهم حتى مازحني أحد الكتاب قائلاً: «إذا أتيت إلى جوبا هل تمنحونني الجنسية؟». لا أريد أن أفكر بأنه أمر مقصود. من الأفضل لي أن أعتبر الأمر إجراءً قانونياً ليس إلا، ولكن كنت آمل أن تكون هنالك قوانين واضحة وثابتة للتعامل مع الجواز الجنوبي في السودان بدلاً من هذه المفاجآت. لا نريد أن نكون لعبة حسب العلاقة السياسية المزاجية بين جوبا والخرطوم، فنحن صبيحة كل يوم نتفاجأ بتصريح، مرة مواطنو جنوب السوادن يتم التعامل معهم كالمواطنين السودانيين فهم أحرار في وطنهم الأم، ومرة نصبح أجانب! وتارة نستثنى مع السوريين والمصريين من بعض الإجراءات. نريد خطوطاً واضحة وإذا عرفنا القانون بالطبع ذلك أسهل علينا لأننا المتضرر الأول والأخير من عدم وجود ثوابت لدخولنا وخروجنا من السودان، خاصة أننا مرتبطون بعائلاتنا ومسؤوليات الدراسة والعمل، ما يعني أن دخولنا وخروجنا من السودان أمر حتمي، فقط نريد خطوطاً واضحة ولن نتجاوز القانون.
- حدثنا بركة ساكن عنك وعن المجموعة الأدبية الصغيرة التي شكلتموها. جئتم إلى الأدب من الهامش ثم دُفعتم للنزوح في اتجاهات مختلفة. كيف يشغل الواحد منكم وحدته الأدبية هذه؟ وما أثرها على واقع الأدب السوداني؟
بالعالم والإنسان والحياة بأكملها، حتى لو اعتبرنا أنها وحدة فيزيائية أي ليس هناك أحد بقربه يدعمه أو يفهمه وهذه مشكلة عامة يعاني منها الكثير من الكتاب، فهناك دائماً عالم خاص ضاج بالحياة يجد الكاتب نفسه متورطاً للتفاعل معه، سواء كان هذا العالم واقعا موجودا حوله أو يمور في خياله. الشخوص، بيئتهم، لغتهم، تعابيرهم، أحلامهم وخيباتهم كلها تتقاطع مع الواقع من حوله. الكاتب يفجر الحوارات مع الغرباء، يخلق العلاقات مع البشر والشجر والحجر، الكاتب مهموم بالتغيير لصناعة فرق في هذا العالم حتى ولو بسيط. كيف يشعر كائن مثل هذا بالوحدة؟ إذا شعر كاتب ما بالوحدة فقد نضب خياله وفقد بوصلته.
بعد أن عمّ الخراب من حولنا اضطر الكثير منا للرحيل إلى المنافي أو مقاومة سجن الوطن. عدت أنا إلى الجنوب وتفرق آخرون في العالم وآثر غيرهم الصمت أو الموت على الأرصفة الباردة. أثر قصة الهامش على الأدب السوداني كبير، فقد فرض حالة من القبول بالآخر المختلف الذي له رؤيته الخاصة وثقافته الخاصة في هذا السودان الكبير المتعدد. فالهامش هو مركز في حد ذاته. هو هامش بالنسبة للساسة، ولكن في الواقع هو مركز لثقل ثقافي لا بد أن يجد طريقه للنور، وهذه مهمتنا. نعم لقد جئنا من الهامش ويمكنني أن أقول ليس فقط من هامش المكان، بل أيضاً هامش الزمان واللغة. بيئاتنا جميلة ومليئة بالحياة، والثقافات التي مورس ضدها التعتيم والنفي المنظم بأمر الدولة. هذه الدولة التي حددت لغتها وهويتها وخريطتها الإقليمية بما يتناسب مع الفئة الحاكمة متجاهلة تماماً الاختلاف والتنوع الموجود. نحن في السودان كنا أكثر من مجرد ثقافة واحدة، هوية واحدة، دين واحد، ولغة واحدة، لكن تم اختزالنا في ثوب واحد ومن لم يناسبه هذا الثوب أجبر على أن يشعل حرباً أو يرحل أو يتشوه، ليصاب بالانفصام الوجداني ولا يرى في المرآة إلا الصورة المروج لها سياسياً وأيديولوجياً. ككتاب تصالحنا مع واقعنا وامتلكنا أدواتنا وانطلقنا ننحت في الصخر لترك بصمتنا. غزونا اللغة العربية بقصص وحكايا من قلب أفريقيا، وغزتنا اللغة العربية بالمفردة والكلمة والتعبير لنتصادق في هذا الفضاء الإنساني، من دون أسئلة أو زيف وفي تسامح تام.
اللغة العربية مساحتي الجمالية
- في برلين لم يقرأوا نصك بالعربية فاكتفوا بالترجمة الألمانية. وكأن اللغة العربية تسلب منك مراراً. كيف تتجدد علاقتك مع هذه اللغة؟
لا يستطيع أحد أن يسلبني اللغة العربية فنصوصي متوفرة للقارئ في أي مكان. لقد وجدت في اللغة العربية مساحتي الجمالية التي بت أتحرك فيها بسلاسة وأحملها مخزوني الثقافي البعيد كل البعد عن الثقافة العربية، فاللغات إرث إنساني يجب ألا تُحتكر في قوالب سياسية أو أيديولوجية أو ثقافية ضيقة. أحس في بعض الأحيان بأن اللغات كالهواء والماء والأرض يمكن للجميع تشاركها والتواصل من خلالها. ولكن عندما يتم استخدامها كأداة لجلد التنوع وإقصاء الآخرين فنحن بذلك لا نجني على أنفسنا فقط، بل نجني على لغاتنا وثقافاتنا لأنها ستكون عرضة للنكران أو يحاول البعض التخلص منها وإهمالها، إذ تتحول من أداة للجمال والتواصل الإنساني النقي إلى أداة للتمييز والقهر والإجبار. أنا استيلا قايتانو متصالحة مع اللغة العربية وعلى استعداد للتصالح مع لغات أخرى متى عرفت إليها سبيلا.
- عشتِ تجربة النزوح مرتين: مرة في حياتك التي بدأتها في الخرطوم ومرة أخرى بعد استقلال الجنوب، كيف يتشبث الكاتب/ة بقدرته على الكتابة ضمن حالة الاقتلاع هذه؟
لتكون الكتابة جيدة لا بد أن تصقل بالتجربة، حلوة كانت أو مرة، نكهة التجربة الذاتية تفوح من النصوص والكتب وتؤثر مباشرة في القارئ/ة لأن ذلك يلمس قلبه مباشرة من دون مواربة، فنحن نمسك القلم ونعيد رسم الحياة بالكلمات. إذا لم نُشعر القارئ بالألم ولم ندفعه للبكاء أو السب أو الاشمئزاز أو الضحك أو الابتسام أو البلل حتى، يتوجب علينا حينها مساءلة الطريقة التي نكتب بها أو حتى التوقف عن الكتابة. الكتابة حالة مصداقية بين الكاتب/ة والقارئ/ة أما إذا كانت هنالك كذبة أو حالة من التحايل فستتضح من أولى الصفحات ليضع القارئ الكتاب جانباً، وقد يعود لقراءته لاحقاً أو لن يعود أبداً.
لقد اختبرت الحرب مرتين مرة من خلال رؤية آثارها على الآخرين من أهلي وأقاربي ومرة كتجربة ذاتية. الحالتان كان التعبير عنهما مختلفاً في الكتابة. أحسست بأن التجربة الذاتية لها تميزها وسهولة التعبير عنها. من هنا يأتي التشبث بالكتابة، تفريغ لكل تلك الشحنات، فالكاتب لا يملك وسيلة أخرى غير الكتابة، والكاتب لا يحبذ الهتاف والصريخ والمجادلة فقط يبتعد ويبدأ في التدوين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.