«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غياب النقد ودفن التراث الثقافى السوداني
نشر في محيط يوم 17 - 05 - 2008


غياب النقد ساهم فى دفن التراث الثقافى السوداني
هشام آدم
إن أول مناطات البحث حول الانتلجنسيا السودانية هى محاولة الإجابة عن الأسباب التى أدت إلى عدم انتشار الأدب السودانى كما هو الحال فى بقية الآداب الأخرى. ولعل هذا الأمر هو أحد المعوقات الأساسية فى سبيل لقاء الأدب السودانى حظه من الانتشار والنقد والتداول إقليمياً وعالمياً، وإن استثنينا الأديب والروائى العالمى الطيب صالح وشاعر القطرين محمد الفيتورى اللذين هربا من حصار القوقعة المحلية إلى عوالم أرحب، نجد أن بقية الأدباء السودانيين مازالوا محاصرين، إن لم نقل مدفونين، إما ذاتياً أو لأسباب أخرى يصعب حصرها نظراً إلى التغيرات المطردة فى نواحى الحياة السودانية المختلفة: اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وحتى تقنياً؛ إذ أن دور النشر والتوزيع السودانية تفتقر إلى أهم المقومات التى تجعلها لا تعى دورها الرسالى فى حمل الثقافة والأدب على النحو الذى يجب أن تكون عليه، فتكتفى بدور الناشر والموزع السلبى على أساس ربحى ليس إلا.
وتطوير مؤسسات ودور النشر لتقنياتها المهنية والحرفية وكوادرها وأدواتها فى التعامل مع النصوص الأدبية هى واحدة من الركائز التى يعتمد عليها الأدب السودانى فى عملية اختراق سوق الأدب العالمي.
وأنا هنا حين أقول عالميا، لا أحصر العالمية أبداً فى القراءات والكتابات غير العربية وإنما أقصد بها ما وراء السودانية عموماً.
إن غياب النقد هو أحد العوامل التى ساعدت على دفن التراث الثقافى السوداني، وما لم يجد الأدباء السودانيون طريقة لوصول أعمالهم إلى النقاد لن تجدى جميع المحاولات الفردية التى يقومون بها من جلسات استماع، وقراءات، ونشر فى الشبكة العنكبوتية فى محاولات متواضعة جداً منهم للوصول إلى المتلقي.
فمعظم الأدباء السودانيين يكتفون بنقد المتلقى غير الأكاديمى والمتمثل فى ردود أفعالهم سواء عبر وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو حتى موجة التصفيقات التى يتلقها فى ندوة أو أمسية أدبية، ليصبح التصفيق أو مجرد الإشادات الفردية هو "تيرمومتر" النقد الأدبى السوداني.
وهذا التواضع فى الحقيقة ليس تواضعاً حميداً، بل هو تواضع المغلوب على أمره، ودون محاولات شخصية أو مؤسسية جادة للوصول إلى حدود أبعد من المتاح سوف لن يصل الأدب السودانى إلى مرحلة التداول التى تتيح بدورها لفت أنظار النقاد وبالتالى نيل الأدب السودانى الانتشار الذى يستحقه. وعليه سيظل النقد مجرد "أخوانيات" تتداول فى أروقة الأدب السودانى الضيقة من نقاد سودانيين إلى مبدعين تربط بينهم علاقات.
وبعيداً عن الحركات النقدية الجادة، نجد حركةً يُمكن أن أسميها بالاكتشافات الفردية كتلك التى قام بها الروائى الفرنسى "دو سان بول" والأديب الفرنسى "خافيير لوفان" وما قام به الشاعر "يحيى العبدلي" والدكتور "سليمان يحيى محمد" من تناول نقدى وتشريحى للأدب السودانى بجميع أنواعه، على مر العصور القديمة والمعاصرة؛ ورغم ما فى هذه التجارب من غنى وجدية، إلا أنها تظل قاصرة عن تقديم الأدب السودانى بجميع خصوصيته كما يجب.
وأحد من معوقات انتشار الأدب السوداني، هو إيغال الأدباء أنفسهم فى السودنة، ولا أعنى بذلك أن الحل فى سبيل ذلك هو التخلى عن التنميط المطلوب لكل أدب؛ ولكن أعنى بذلك تلك الرؤية التغزلية التى يتعامل بها الأدباء السودانيون تجاه ثقافة سودانية جغرافية بعينها وهى ثقافة أهل البطانة والجزيرة على وجه التحديد، فى محاولة منهم لإيهام القارئ السودانى والعربى بأن الثقافة السودانية لم تنتج أنضج من هذه التجربة الثقافية المتفردة فى لغتها ومفرداتها، فالمتتبع لنصوص الأدب السودانى وحتى على مستوى المسرح والدراما يجد التشدق والالتصاق الواضحين بهذه الثقافة التى لا تعدو أن تكون واحدة من روافد الثقافة السودانية واسعة التعددية، وبالتالى لا يصح القول بتمثيلها لها.
إن الأدب هو تاريخ الشعب المُصاغ بطريقة فنية –حتى لا أقول أكاديمية– والأدب الحقيقى هو الذى يستطيع أن يتعرف القارئ من خلاله على تلميحات واضحة وسريعة لمجمل الواقع البيئى الذى يتناوله النص الأدبي: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتاريخيا وعسكريا وأمنيا وكافة المرجعيات التى قد توضح جوانب البيئة بكل دقة؛ وعندها يصبح التشبث بأداة متغيرة هو نوع من الدوغمائية التى تعمل على قتل النص الأدبى وبالتالى على قتل المبدع أدبياً فيحول بينه وبين التطور من ناحية وبين الانتشار من ناحية أخرى.
ودون أن نلجأ إلى الخوض فى مركزية الثقافة السودانية وهامشها، فإن ثقافة المركز الفعلية هى خليط متميز من جميع الثقافات السودانية المتعددة والمتشابكة، بغض النظر عن أسباب تشكل هذه الثقافة الوسطية من أسباب سياسية واقتصادية مختلفة على مر التاريخ السودانى المعاصر والقديم على حد سواء. ويمكن اعتبار هذه اللغة الهجينة صالحة للتصدير دون اللجوء إلى التعريفات الجغرافية والإحالات المعرفية إليها؛ متخطين بذلك ورطة التشبث بعنصرية اللهجة الجغرافية ومتجاوزين لحدود جذورها التاريخية إلى أفق سودانى أرحب، يكون فيه العنصر السودانى أشد تعميماً وأكثر وضوحاً. وليس المجال هنا لسرد نماذج من ذلك فالواقع الأدبى السودانى مليء بهذه النماذج المقروءة والمشاهدة والمسموعة.
القائمة السودانية المدفونة تطول لتشمل أسماء تجعلنا نصاب بصدمة حقيقية عندما نعلم أن هذه الأسماء الكبيرة ما زالت تجهل طريقها إلى المتلقى العربى والعالمي، ولنا أن نتخيل وضع الأدب السودانى إن أُتيحت له فرصة الوصول إلى خارج حدود القطر السوداني، لحصول المنافسة التى يستحقها مع نظرائه من الثقافات من الآداب الأخرى: "على المك، بشرى الفاضل، إبراهيم إسحاق إبراهيم، فضيلى جماع، عمر الدوش، مختار عجوبة، عبد العزيز بركة ساكن، محسن خالد، عيسى الحلو، محمود مدني، طارق الطيب، بثينة خضر، أمير تاج السر، محمد أحمد عبد الحي، يوسف عيدابي، محى الدين فارس، مصطفى سند، أبكر آدم إسماعيل، رانيا مأمون، ملكة الفاضل عمر، عاطف خيري، الصادق الرضي، عصام رجب، أنس مصطفى" وغيرهم الكثير من الأسماء التى يجهلها حتى السودانيون أنفسهم ناهيك عن النقاد والمتلقين العرب وغيرهم.
وإذا أردنا الخوض فى واحدة من هذه المناحى الأدبية فى محاولة لتشكيل أنموذج نقدى لها، نجد الرواية السودانية كمثال أكثر خصوصية لحياة التراث والثقافة السودانيين، وللوقوف على حركة الوعى والثقافة الكائنة فى مجمل الأدب السوداني، لأن بقية الآداب لا تحتمل هذا العبء التاريخى أبداً إلا إذا استثنينا بصفة خاصة: المسرح والدراما والنصوص الملحمية. وعندما نتكلم عن الرواية فلا بد لنا عندها –دون أن نتعرض لمحاولة تقييم– أن نقف على عدد من أهم الروايات السودانية التى ساعدت كثيراً فى التعريف بالبيئة السودانية بشكل أكثر ملاءمة لمتطلبات المرحلة الحالية من حالة "الانزواء" الأدبى أو المرحلة الجنينية إن جاز لى التعبير.
وإذا تناولنا رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" أو "عرس الزين" للأديب العالمى الطيب صالح، ورواية "الطريق إلى المدن المستحيلة" للروائى د. أبكر آدم إسماعيل أو رواية "أخبار البنت مياكايا" للروائى إبراهيم إسحاق سنجد أنه قد تكونت لدينا حصيلة مهمة جداً تساعدنا على فهم الشخصية السودانية من خلال فهم المعطى البيئى الواضح فى كل رواية من هذه الروايات. وإذا رجعنا لروايات الطيب صالح التى نالت حظها الوافر من النقد والدراسات النقدية، بحكم عالميته، فإننا نجد أن بقية المنتوجات الأدبية للروائيين السودانيين لم تلق ذات الحظ، رغم أن معظمها لا يقل –من حيث الحبكة الدرامية واللغوية ومقومات الرواية المعروفة– عن بقية روايات الطيب صالح. وإذا عرفنا أن المتلقى العربى أو غير السودانى بصفة أدق مستعد تماماً لمعرفة المزيد عن الأدب السودانى نجد أنفسنا أمام إشكالية أخرى تكمن فى المبدع السودانى نفسه. الذى آثر الانزواء إلى عوالم الأسفير والأخوانيات، مكتفياً بذلك عن اقتحام حائط العزلة المضروب حوله إلى آفاق أوسع وأرحب.
ثمة معضلة كبيرة وراء تفسير هذه الظاهرة –أعنى ظاهرة انزواء الانتلجنسيا السودانية- حيث أنّ كثير من الحالات يمكن بناءً عليها إنشاء تعميم مسبق بكل طمأنينة، إذ نجد أنّ الكاتب السودان يمارس -بطريقة لا إرادية- ما يشبه البناء الدفاعى بينه وبين الآخر على أساس أنّ دور الكاتب أو الأديب ينتهى فقط عند إبداع العمل الأدبي، ويبقى الوصول إلى هذا العمل هو مهمة القارئ وليس مهمته هو.
وهذا الخطأ هو ما وقع فيه العديد من الكتاب السودانيين، وربما أوعز ذلك إلى قناعات البعض بوهم اختلاف الأدب السودانى عن بقية الآداب العربية، هذا الوهم الذى يجعلنا مقتنعين تماماً بتميّزنا عن الآخرين وبتعالينا عليهم، الأمر الذى يُسهم بشكل واضح ومباشر فى خلق هذه العزلة الأدبية والثقافية، رغم أنّ المكونات الثقافية واللغوية تكاد تكون متقاربة فى جميع الدول العربية تقريباً مع احتفاظ كل دولة وكل محيط جغرافى بخصوصيته التى لا تجعله متميزاً أو مغايراً لبقية البيئات الثقافية الأخرى، إذ مما لا شك فيه أنّ هذه البيئات الثقافية تتقاطع تاريخياً بطريقةٍ أو بأخرى.
إن الفهم المغلوط للأدب ولدوره، يُعد –كذلك- واحداً من أهم أسباب تأخرنا فى مواكبة الآداب الأخرى ومجاراتها إن لم يكن سبقها، فليس الأدب وسيلة إمتاع ذاتية أو حتى جماهيرية –كما يتصوّر البعض- بقدر ما هو حِرفة دبلوماسية فى أسمى مقاماتها، وعمل تأريخى فى واحدة من أهم خصائصها الداخلية. وربما كان ذلك هو السبب المباشر فى نيل الطيب صالح جائزته العالمية، إذ أنه وعى تماماً بهذا الدور الريادى للأدب، ونقل بحرفية لغوية تفاصيل الحياة والبيئة السودانية متمثلة فى شخوص روايته.
وبهذا المفهوم الحيوى للأدب نجد أن رواية كرواية إبراهيم إسحاق "أخبار البنت مياكايا" لا تقل أهمية وروعة عن رواية الأديب العالمى الطيب صالح؛ إذ يعتمد فيها الراوى على ديناميكية الصراع بين اللغة والأسطورة والتاريخ بجميع متناقضات هذه العناصر الحيّة والفاعلة.
وكذلك قصة "عندما يهتز جبل البركل" أو رواية "صالح الجبل" للدكتور مختار ود عجوبة الذى يحتفى فيها بالخرافات متمثلة فى شخوص روايته الذين لهم علاقات "سفلية" بعالم الجن والشعوذة كما هى فى شخصية "فتح الرحمن" و "ود حبوبة" ولا يختلف اثنان على أن الروايتين لهما طابع استكشافى خطير جداً وهو أقرب إلى مزايا التنقيب فى خبايا التراث والتاريخ، وهو ما يجعل رواية الدكتور ود عجوبة رواية قيّمة بالفعل.
إن المهمة التاريخية الجسيمة التى تقع على عاتق المبدع السودانى والناقد السودانى هى نقل هذا التراث الأدبى الثرى إلى الآخرين، والانتقال من مرحلة إلغاء الآخر إلى اكتشافه، ومن مرحلة انتظار الآخر إلى الذهاب إليه لا سيما وأن الجو ملائم لمثل ذلك، متى توفرت عوامل التفعيل الإيجابية. لأن المزاج الأدبى ليس مزاجاً ذاتياً صرفاً.
إن العلاقة بين المبدع والناقد أو فلنقل بين الكاتب والناقد على اعتبار أن الاثنين مبدعان هى علاقة وطيدة جداً، ولكن ميكانيكية هذه العلاقة ليست واضحة بالنسبة إلينا نحن كسودانيين، على وجه التحديد، وكعرب بشكل عام. الوضع الافتراضى لهذه العلاقة هى أبجدية كون الكاتب كاتباً فى المقام الأول، والناقد قارئاً فى المقام الأول. وعلى هذا فإن "وظيفة" الكاتب تنتهى بمجرد انتهائه من فعل الكتابة والنشر للمتلقين، ويأتى هنا دور الناقد الذى يمارس "وظيفته" كقارئ، وعندما يستفزه نصٌ ما، فإنه يعكف على قراءته بعين احترافية هذه المرة. ومن هنا يتبين لنا أن الكتابة المستفزة "المبدعة" هى التى تجلب النقد، وبالتالى فهى المحرك أو الباعث الأساسى لحركة النقد.
تماماً كالرسام الذى يستفزه منظر طبيعى ما، أو حالة شعورية معينة تجعله يشرع فى تحليل هذه المشاعور والمرئيات ويترجمها إلى لوحة، ويبقى التحليل محصوراً فى نطاق المدرسة التى يعتمدها الرسام سواءً كانت إنطباعية أو تجريدية أو سريالية أو تكعيبية أو رمزية أو غيرها من مدارس الفن التشكيلى المختلفة. ومن مجمل هذه الدائرة الإبداعية نستطيع أن نوجد حدود الدائرة بالتركيز على تماساتها الكثيرة لنخرج فى النهاية إلى حصيلة محددة هي: الفعل وردة الفعل.
مما سبق، نجد أن دور الحركة النقدية فى حقيقته لا يقتصر على النقاد فقط، بل يمتد إلى الكتاب كذلك، فهى مسؤولية مشتركة، ومن الصعب أن نحدد هذه المسؤولية فى نطاق جغرافى محدد، طالما أننا نتكلم عن فن أو أدب على اعتباره أحد روافد الفن الأكثر عبقرية. لا أزعم عنصرية أدبية، أو انحيازاً لهذا الجانب من الفن، ولكنه فى نظرى أكثر الفنون عمقاً ونضوجاً من الناحية الإنسانية. وعليه لا نستطيع أن نقول إن النقاد المصريين "مثلاً" لا تقع عليهم مسؤولية تتبع الحركات الأدبية فى السودان "مثلاً" والعكس صحيح تماماً، فأنا لا أتكلم عن جغرافيا بل أتكلم عن قضية إنسانية فى المقام الأول، الإبداع بغض النظر عن بيئة هذا الإبداع.
والنقد المقيد بجغرافية محددة، أعتبره فى حقيقته نقداً مقنناً لا يُساعد على التطوير. وعندما أقول "تطوير"، فإننى أعنى التطوير الذى يشمل حركة النقد، وحركة الأدب على حدٍ سواء. فالملكات النقدية تحتاج إلى نصوص تشعر الناقد بالتحدى أول الأمر، فى محاولة لتفصيص النص الأدبي، لكشف خباياه، ويظل ذلك مستحيلاً فى ظل تكرار النماذج البيئية الموحّدة. وعليه فإننى أرى أن المسؤولية مشتركة بين الكُتاب والنقاد السودانيين من جهة وبينهم وبين النقاد العرب من جهة أخرى.
أما فيما يخص تشبث الأنتلجنسيا السودانية بثقافة محددة، فإن الحديث عنها يطول ليأخذنا إلى جدلية المركز والهامش والتى تناولها الدكتور أبكر آدم إسماعيل بإسهاب وعمق شديدين، وتكلم فيها عن إشكالية الهوية كحجر زاوية فى هذه القضية.
وهذه الإشكالية تتمحور فى كوننا عرباً أم أفارقة فى المقام الأول. وهذه الإشكالية الموغلة فى الإغراق قد تقودنا إلى معرفة عامة بوضع الانتلجنسيا السودانية بشكل أكثر منهجية ودقة. وكما يرى الدكتور أبكر آدم إسماعيل، وأنا أتفق معه فى ذلك، فإن السودان بلد متعدد الثقافات، وفهوم الدولة السودانية، ما هو إلا جزء أصيل من تراثها الإثنى والدينى والثقافى والتراثى ...إلخ. وهذه التعددية التى خلقت لنا تبايناً واضحاً فى العادات والتقاليد والطقوس واللهجات أو حتى اللغات فى بعض الأحايين كانت هى سر تغزل الأنتلجنسيا السودانية فى فترة ما، غير أنها كانت هاجساً اكثر تأريقاً لهم فيما بعد. وحتى اليوم فإن المتحدثين باسم الثقافة السودانية مازالوا يتغزلون بهذه التعددية دون أن يكونوا قادرين على حل إشكالية الهوية بشكل قاطع وجذري.
واختصاراً يمكننى أن أقول إن طفح ثقافات محددة، ومحاولات تشبث الانتلجنسيا السودانية بها، ما هى إلا امتداد طبيعى لهذا المد الحضارى غير المبرر، واستعلائية غير معلنة، أو معلنة فى مواطن أخرى. وهذا ما يُفسر التصاق الانتلجنسيا السودانية بها، فالمسألة ليست إشكالية هامش ووسط، بقدر ما هى إشكالية عروبة من عدمها.
وارتباط مفهوم العروبة بالإسلام من ناحية، وانتقال اللغة العربية إلى السودان والبدء فى تداولها منذ بدايات الفتح الإسلامى لأفريقيا من ناحية أخرى تجعل من هذه الإشكالية إشكالية شديدة الخصوصية والعمق. وفى ظل سيطرة جغرافية لثقافات كان لها دورها التاريخى البارز فى تهديد الكتلة السودانية بشكلها التعددى الواسع.. يمكننا أن نقول إنه استعمار الداخل.
المصدر: العرب اللندينة.
بتاريخ: 17 مايو 2008.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.