عيار 21 بالمصنعية يهبط 90 جنيهًا.. سعر الذهب اليوم الخميس 31-7-2025 (محلياً وعالميًا)    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع كوريا الجنوبية    أمريكا: تحذيرات في كريسنت سيتي بعد أضرار بميناء المدينة جراء موجة مد بحري مفاجئة    «يوم استثنائي».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار ورياح مُحملة بالأتربة    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين    إسرائيل تندد بموقف كندا من الاعتراف بفلسطين: مكافأة لحماس    إعلام أوكراني: الدفاع الجوي يتصدى لهجمات في كييف وحريق جراء هجوم مسيّرة روسية    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    مع الهضبة والكينج .. ليالى استثنائية فى انتظار جمهور العلمين    من يتصدر إيرادات الموسم السينمائى الصيفى ومن ينضم للمنافسة ؟    «وصلة» لقاء دافىء بين الأجيال .. « القومى للمسرح » يحتفى بالمكرمين    طريقة عمل الكب كيك في البيت وبأقل التكاليف    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    سلاح النفط العربي    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    نحن ضحايا «عك»    بسهولة ومن غير أدوية.. أفضل الأطعمة لعلاج الكبد الدهني    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    هاريس تٌعلن عدم ترشحها لمنصب حاكمة كاليفورنيا.. هل تخوض انتخابات الرئاسة 2028؟    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    تراجع غير متوقع للمبيعات المؤجلة للمساكن في أمريكا خلال الشهر الماضي    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الهولندي روتغر بريغمان: الأفكار البنّاءة تقود الشعوب وتسيّر التاريخ
نشر في صوت البلد يوم 23 - 05 - 2017

في زمن الاضطرابات غير المسبوقة وتهافت الأسئلة عن المستقبل والمجتمع والسعادة والعائلة والمال وغياب أجوبة الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية على السواء، يطلّ كتاب المؤرخ الهولندي روتغر بريغمان «طوباوية الواقعية» ليكشف لنا أننا نستطيع بناء مجتمع بأفكار متخيلة قابلة في الواقع للتطبيق التام.
ويؤكد في إحدى الحوارات التي أجريت معه أخيراً، كما فعل في كتابه أيضاً، أن كل إنجاز حققته الحضارات، بدءاً من إنهاء العبودية وصولاً لفجر الديمقراطية، لم يكن يوماً سوى ضرباً من ضروب الخيال، أما الأفكار الطوباوية الجديدة، مثل: الدخل الأساسي العالمي وساعات العمل التي تقتصر على 15 أسبوعياً.
فيمكن أن تتحقق على أرض الواقع في زماننا هذا، حسب رأي بريغمان، والذي يأخذنا في أبحاثه في رحلة عبر التاريخ تتخطى حدود التقسيم التقليدي بين اليسار واليمين، ويطرح أفكاراً حان وقتها.
اقتراحات جريئة
ولا يندرج «طوباوية الواقعية» لبريغمان في إطار مادة الكتب الأفضل مبيعاً تقليدياً. فالكتاب يحفل بدراسات الحالات والرسومات البيانية والأفكار المعقدة التي تدفع للظن بأنه يجذب حفنةً من الأشخاص الناشطين في أروقة السياسة لنفاجأ بأنه أحدث عاصفة هوجاء في بريطانيا.
ورداً على التمادي الصاعق لانعدام المساواة، والارتفاع المطرد لمعدلات الفقر وامتداد ساعات العمل، يطرح بريغمان مقترحات جريئة سعياً لمجتمع أفضل. والمؤكد أنه تلعب عوامل عدة بارزة دوراً في وصول «طوباوية الواقعية» لأعلى المراتب.
لكن مما لا شك فيه أن كتاباً مثله بمقترح طاغٍ وحيد يتيح العفو عن كل ما تبقى، ويطالع القارئ برؤى طوباوية كانت دافع الإنسانية للتقدم. أولم يكن الأمل بالتحليق، والقضاء على الأمراض، وتزويد قطاع المواصلات بالمحركات...؟
ويرى أن «ذاك الأمل» نفسه، وإن لم يفضِ إلى المثالية المنشودة أوصلنا على الأقل إلى مكان ما. ويشكل من هذا المنطلق، احتفالية بسطوة الطوباوية على مخيلتنا.
ويضيف: «لا تنسوا قط أن الشعوب هي محرّكات التاريخ، وأن الأفكار تحرّك تلك الشعوب وتسيّرها». وعليه، فإن مهمة أي تقدّمي تقضي بجعل غير الوارد من الأمور ممكناً، وإعادة التركيز الدائم على رسم أفق مستقبل أفضل.
ويعزو بريغمان مدى تردد أصحاب الفكر التقدمي بالاعتراف بالتحول الهائل المتمثل بالعولمة، إلى أوساط اليسار الذي يعاني أزمة تقوقع تحصر إطار المعرفة بما يناهضه وحسب من تقشف وحكومات عنصرية. ويقول: «لا يعني ذلك أني لست ضد كل ما سبق، لكني أعتقد بضرورة تأييد قضية ما، وأنه لا بد من رؤية جديدة للهدف الذي نسعى لتحقيقه».
يمتلك بريغمان بالفعل رؤية تتسم بالوضوح التام، تدفعنا مع ذلك للتساؤل عن معنى الفائدة الكونية، وحصر أسبوع العمل ب15 ساعة فقط، وفتح الحدود، هل هذا ممكن فعلاً، وكيف؟
ويقول هنا: «أمضيت ثلاث سنوات وأنا أسمع بأن الكثير من أفكاري لا تتحلى بالواقعية أو المنطق، وأنه لا يمكن تحقيقها، لكن الردّ الوحيد على ذلك : (أتريدون إذاً التمسك بالوضع الراهن؟ كيف تعتبرونه مثمراً؟ ).
ويضيف : «إن أول ما ينبغي الإقرار به هو أن الفقر مكلف للغاية، ويشكل رغم التفاوت بين بلد وآخر 3، 4 أو 5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي. وإذا بحثنا عن تكلفة زيادة دخل عموم فقراء بلد ما، سنجد أنها قد تكلفنا حوالي واحد بالمئة فقط من إجمالي الناتج القومي».
شروط
يقر بريغمان بأن النظام الكوني الحقيقي قد ينطوي على إصلاح بالعمق لنظام الضرائب، ويتطلب دعماً شعبياً وسياسياً هائلاً. ويعتبر أن نقطة الانطلاق الأمثل تقتصر على إعادة تحديد معنى العمل. ويعلق : «كشف استطلاع للرأي في بريطانيا أن 37 بالمئة من العمال يعتقدون أنه لا ضرورة للوظيفة التي يشغلونها.
ونحن نتكلم هنا عن مستشارين ومصرفيين ومحاسبين ومحامين، ليس عن عمال نظافة، بما يدلّ على مضاعفات جذرية. يمكننا خفض ساعات عمل الأسبوع إلى الثلث وأن نحافظ على ثرائنا، بل قد نصبح أكثر ثراءً...». ويوضح أن إعادة توزيع الدخل الأساسي تعيد توزيع المسؤوليات وتمنح الناس حرية القرار.
يجيب بريغمان على بعض الذين يعتبرون أن مسألة فتح الحدود هي الجدل الأضعف بالتأكيد، بأنه لا يعتقد بتحقيق ذلك غداً، ويعتبر أنه تطلع يجب العمل باتجاه تحويله لواقع.
لا شك أن بريغمان طوباوي، وإنما بطريقة عملية. وهو يدرك وجود عدد من المشكلات التي لا بدّ من تخطيها، لكنه متمسك باعتقاد راسخ يجزم بأن الأمور يمكن أن تتغير. ويقول: «أحد الدروس الأساسية في التاريخ يشير إلى أنه يمكن للأوضاع أن تتغير، فالطريقة التي بنينا بها الاقتصاد ونظام الرعاية الاجتماعية لا تجاري الطبيعة، ويمكن أن تكون مغايرة».
«طوباوية الواقعية».. فرضيات ترتبط بمثل سياسية عليا
تستند فصول كتاب «طوباوية الواقعية» إلى أربع فرضيات جوهرية، ترتبط ثلاث منها بالمثل السياسية الطوباوية العليا، ومبدأ شامل واحد يقر ببساطة أن الأفكار يمكن أن تغيّر العالم.
فكرة مجنونة
تشكل مسألة الدخل الأساسي العالمي، إحدى الأفكار الكبرى المسيطرة على الكتاب، بمعنى توزيع المال بالمجان على الناس. وعلى الرغم من أن الفكرة تبدو للوهلة الأولى مجنونةً، لكن أبرز نقاط قوة بريغمان تتمثل في عرض أفكاره وإثباتها على نحو لا يجعلها تبدو عاقلةً وحسب، بل محض منطقية.
ويجزم بريغمان أن الناس ليسوا أغبياء، بل ربما يتخذون قرارات سيئة بفعل ضغوط الفقر، ويروي قصة واقعية تؤكد حصول التغيير مع منح الناس أرضية مالية متينة.. ويرادف الأمان الاقتصادي بنظره، الازدهار، خلافاً للشح الذي يولد الفقر. ويشترط لرؤية الناس ينجحون، منحهم الاستقلالية والكرامة المنبثقتين من الحصول على كفايتهم، وعدم تقييدهم بأي شروط ملزمة أخرى.
ويناقش بريغمان فكرته الثانية المتعلقة بالعمل 15 ساعة أسبوعياً، بالإشارة أولاً إلى حقيقة مقايضتنا الوقت بالأشياء.. مؤكداً أنه في إطار فرط الاستهلاك، اخترنا تمضية وقتٍ أطول لننتج بفعالية سلعاً للهدر، بدلاً من كبح الإنتاجية وإنتاج ما نحتاج إليه في وقت أقل بفعالية.
وأصبحنا بالتالي عالقين جميعاً في دوامة «الوظائف التافهة» التي تسدد كلفة أشياء لا نريدها أو نحتاج إليها.
الصراع الأهم
ويبدو الأمر لبريغمان غبياً ومجحفاً، لذا يعتبر أن المعركة المضاعفة الواجب خوضها ضد فرط الاستهلاكية والعمل الذي يهدر الوقت سدىً، تمثل أبرز الصراعات التقدمية للعصر الراهن.
ويعتقد بضرورة القيام بأمرين للفوز، يقضي الأول بتقليص مدة أسبوع العمل بما يرغم على مشاركة الأعمال الحالية على نطاق أوسع ومنحنا هامشاً زمنياً أكبر. وثانياً، إعادة ترتيب هيكليات الحوافز من خلال إصلاح النظام الضريبي.
ويتسم هدف بريغمان الثالث بأنه الأكثر ثوريةً ويتجلى بفتح الحدود. ويلاحظ الكاتب في هذا المجال أن العنصر الأبرز في تحديد صحة المرء وثروته ومعدل طول حياته، ومستوى تعليمه، لا يرتبط بمدى الجهد المبذول في العمل أو مكان الدراسة، بل يرتبط أكثر بمكان الولادة وطبيعة جواز السفر.
إلا أن بعضهم يأخذون على بريغمان فيما يتخطى الثورة الأخلاقية المحقة، طرحه قضيةً محكومة بالشلل الاقتصادي المروع. ويعتبرها البعض غير قابلة للحياة على المدى البعيد، وقد غفل الكاتب عن تصوير نقائصها، والمشكلات الثلاث المركزية الواضحة المتمثلة بالكثافة السكانية والصراعات الثقافية، والقضاء على الطبقة المتوسطة.
ثغرات
وتجدر الإشارة، أخيراً، إلى أنه على الرغم من اجتذاب مقترحات بريغمان هامشاً كبيراً من الاهتمام والتأييد، فإنها تنطوي على عدد من الثغرات التي لا بدّ من الإضاءة عليها مع الاعتراف بمكامن قوتها الكبيرة.
إذ نلمس نوعاً من الاستخفاف، كما يقول متخصصون، في تعامل بريغمان مع الصيغة المحددة التي تجعلنا كتقدميين نحقق الفوز. وليس المقصود هنا بالطبع تكرار الكليشيه القائلة بأن الطرح يبدو محبباً بالمبدأ، لكنه بالكاد يعتبر عملياً. فإن كنا نريد أن نستعد لعالم أفضل علينا أن نعرف الجهة التي سنواجه في خضم استعداداتنا.
كما نجد أنفسنا إزاء تساؤل حول موقف بريغمان من الرأسمالية، سيما أنه يهاب بشكل واضح على غرار كارل ماركس، قوة رأسمال الإنتاجية ومقتنع تماماً بأنها المسؤولة عن إيصالنا إلى برّ الوفرة المعاصر.
ويخالف بريغمان ماركس لناحية ضرورة تجاوز الرأسمالية كجزئية من الصراع للوصول إلى مستقبل أفضل، ما يدفع للسؤال مجدداً: إذا لم نطوّع الإنتاج والتوزيع لسطوة الديمقراطية، فهل سنتمكن حقاً من ضمان دخل أساسي وعمل أقل للجميع؟
وتدفعنا قراءة بريغمان إلى طرح تساؤلات حول إمكانية معاناة الكاتب من فرط التفاؤل، إذ كيف يسعنا على سبيل المثال، أن نفتح الحدود دون أن نستبدل الدول بحكومة عالمية؟
قيمة
ولا تعني تلك الأسئلة حتماً أن «طوباوية الواقعية» لا يشكل مساهمةً ممتازة في أدب الطوباوية السياسية الضرورية. إنه كتاب يستحق القراءة، قائم على الأبحاث المثبتة والأسلوب الآسر في الكتابة. ويتميز بريغمان بأنه لا يكتب للمحوّرين بل للمشككين أصحاب الرحمة.
ولا يستهدف جمهوراً من الناشطين الشباب بل من أوساط الطبقة المتوسطة الذين لا بد من قمع أصواتهم وتشاؤمهم كخطوة إلزامية لتجاوز المأزق. ولهذا السبب تحديداً ربما يستحق «طوباوية الواقعية» إلحاقه بقافلة الأعمال الطوباوية التي بدأت قبل خمس قرون مع توماس مور.
في زمن الاضطرابات غير المسبوقة وتهافت الأسئلة عن المستقبل والمجتمع والسعادة والعائلة والمال وغياب أجوبة الأحزاب السياسية اليمينية واليسارية على السواء، يطلّ كتاب المؤرخ الهولندي روتغر بريغمان «طوباوية الواقعية» ليكشف لنا أننا نستطيع بناء مجتمع بأفكار متخيلة قابلة في الواقع للتطبيق التام.
ويؤكد في إحدى الحوارات التي أجريت معه أخيراً، كما فعل في كتابه أيضاً، أن كل إنجاز حققته الحضارات، بدءاً من إنهاء العبودية وصولاً لفجر الديمقراطية، لم يكن يوماً سوى ضرباً من ضروب الخيال، أما الأفكار الطوباوية الجديدة، مثل: الدخل الأساسي العالمي وساعات العمل التي تقتصر على 15 أسبوعياً.
فيمكن أن تتحقق على أرض الواقع في زماننا هذا، حسب رأي بريغمان، والذي يأخذنا في أبحاثه في رحلة عبر التاريخ تتخطى حدود التقسيم التقليدي بين اليسار واليمين، ويطرح أفكاراً حان وقتها.
اقتراحات جريئة
ولا يندرج «طوباوية الواقعية» لبريغمان في إطار مادة الكتب الأفضل مبيعاً تقليدياً. فالكتاب يحفل بدراسات الحالات والرسومات البيانية والأفكار المعقدة التي تدفع للظن بأنه يجذب حفنةً من الأشخاص الناشطين في أروقة السياسة لنفاجأ بأنه أحدث عاصفة هوجاء في بريطانيا.
ورداً على التمادي الصاعق لانعدام المساواة، والارتفاع المطرد لمعدلات الفقر وامتداد ساعات العمل، يطرح بريغمان مقترحات جريئة سعياً لمجتمع أفضل. والمؤكد أنه تلعب عوامل عدة بارزة دوراً في وصول «طوباوية الواقعية» لأعلى المراتب.
لكن مما لا شك فيه أن كتاباً مثله بمقترح طاغٍ وحيد يتيح العفو عن كل ما تبقى، ويطالع القارئ برؤى طوباوية كانت دافع الإنسانية للتقدم. أولم يكن الأمل بالتحليق، والقضاء على الأمراض، وتزويد قطاع المواصلات بالمحركات...؟
ويرى أن «ذاك الأمل» نفسه، وإن لم يفضِ إلى المثالية المنشودة أوصلنا على الأقل إلى مكان ما. ويشكل من هذا المنطلق، احتفالية بسطوة الطوباوية على مخيلتنا.
ويضيف: «لا تنسوا قط أن الشعوب هي محرّكات التاريخ، وأن الأفكار تحرّك تلك الشعوب وتسيّرها». وعليه، فإن مهمة أي تقدّمي تقضي بجعل غير الوارد من الأمور ممكناً، وإعادة التركيز الدائم على رسم أفق مستقبل أفضل.
ويعزو بريغمان مدى تردد أصحاب الفكر التقدمي بالاعتراف بالتحول الهائل المتمثل بالعولمة، إلى أوساط اليسار الذي يعاني أزمة تقوقع تحصر إطار المعرفة بما يناهضه وحسب من تقشف وحكومات عنصرية. ويقول: «لا يعني ذلك أني لست ضد كل ما سبق، لكني أعتقد بضرورة تأييد قضية ما، وأنه لا بد من رؤية جديدة للهدف الذي نسعى لتحقيقه».
يمتلك بريغمان بالفعل رؤية تتسم بالوضوح التام، تدفعنا مع ذلك للتساؤل عن معنى الفائدة الكونية، وحصر أسبوع العمل ب15 ساعة فقط، وفتح الحدود، هل هذا ممكن فعلاً، وكيف؟
ويقول هنا: «أمضيت ثلاث سنوات وأنا أسمع بأن الكثير من أفكاري لا تتحلى بالواقعية أو المنطق، وأنه لا يمكن تحقيقها، لكن الردّ الوحيد على ذلك : (أتريدون إذاً التمسك بالوضع الراهن؟ كيف تعتبرونه مثمراً؟ ).
ويضيف : «إن أول ما ينبغي الإقرار به هو أن الفقر مكلف للغاية، ويشكل رغم التفاوت بين بلد وآخر 3، 4 أو 5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي. وإذا بحثنا عن تكلفة زيادة دخل عموم فقراء بلد ما، سنجد أنها قد تكلفنا حوالي واحد بالمئة فقط من إجمالي الناتج القومي».
شروط
يقر بريغمان بأن النظام الكوني الحقيقي قد ينطوي على إصلاح بالعمق لنظام الضرائب، ويتطلب دعماً شعبياً وسياسياً هائلاً. ويعتبر أن نقطة الانطلاق الأمثل تقتصر على إعادة تحديد معنى العمل. ويعلق : «كشف استطلاع للرأي في بريطانيا أن 37 بالمئة من العمال يعتقدون أنه لا ضرورة للوظيفة التي يشغلونها.
ونحن نتكلم هنا عن مستشارين ومصرفيين ومحاسبين ومحامين، ليس عن عمال نظافة، بما يدلّ على مضاعفات جذرية. يمكننا خفض ساعات عمل الأسبوع إلى الثلث وأن نحافظ على ثرائنا، بل قد نصبح أكثر ثراءً...». ويوضح أن إعادة توزيع الدخل الأساسي تعيد توزيع المسؤوليات وتمنح الناس حرية القرار.
يجيب بريغمان على بعض الذين يعتبرون أن مسألة فتح الحدود هي الجدل الأضعف بالتأكيد، بأنه لا يعتقد بتحقيق ذلك غداً، ويعتبر أنه تطلع يجب العمل باتجاه تحويله لواقع.
لا شك أن بريغمان طوباوي، وإنما بطريقة عملية. وهو يدرك وجود عدد من المشكلات التي لا بدّ من تخطيها، لكنه متمسك باعتقاد راسخ يجزم بأن الأمور يمكن أن تتغير. ويقول: «أحد الدروس الأساسية في التاريخ يشير إلى أنه يمكن للأوضاع أن تتغير، فالطريقة التي بنينا بها الاقتصاد ونظام الرعاية الاجتماعية لا تجاري الطبيعة، ويمكن أن تكون مغايرة».
«طوباوية الواقعية».. فرضيات ترتبط بمثل سياسية عليا
تستند فصول كتاب «طوباوية الواقعية» إلى أربع فرضيات جوهرية، ترتبط ثلاث منها بالمثل السياسية الطوباوية العليا، ومبدأ شامل واحد يقر ببساطة أن الأفكار يمكن أن تغيّر العالم.
فكرة مجنونة
تشكل مسألة الدخل الأساسي العالمي، إحدى الأفكار الكبرى المسيطرة على الكتاب، بمعنى توزيع المال بالمجان على الناس. وعلى الرغم من أن الفكرة تبدو للوهلة الأولى مجنونةً، لكن أبرز نقاط قوة بريغمان تتمثل في عرض أفكاره وإثباتها على نحو لا يجعلها تبدو عاقلةً وحسب، بل محض منطقية.
ويجزم بريغمان أن الناس ليسوا أغبياء، بل ربما يتخذون قرارات سيئة بفعل ضغوط الفقر، ويروي قصة واقعية تؤكد حصول التغيير مع منح الناس أرضية مالية متينة.. ويرادف الأمان الاقتصادي بنظره، الازدهار، خلافاً للشح الذي يولد الفقر. ويشترط لرؤية الناس ينجحون، منحهم الاستقلالية والكرامة المنبثقتين من الحصول على كفايتهم، وعدم تقييدهم بأي شروط ملزمة أخرى.
ويناقش بريغمان فكرته الثانية المتعلقة بالعمل 15 ساعة أسبوعياً، بالإشارة أولاً إلى حقيقة مقايضتنا الوقت بالأشياء.. مؤكداً أنه في إطار فرط الاستهلاك، اخترنا تمضية وقتٍ أطول لننتج بفعالية سلعاً للهدر، بدلاً من كبح الإنتاجية وإنتاج ما نحتاج إليه في وقت أقل بفعالية.
وأصبحنا بالتالي عالقين جميعاً في دوامة «الوظائف التافهة» التي تسدد كلفة أشياء لا نريدها أو نحتاج إليها.
الصراع الأهم
ويبدو الأمر لبريغمان غبياً ومجحفاً، لذا يعتبر أن المعركة المضاعفة الواجب خوضها ضد فرط الاستهلاكية والعمل الذي يهدر الوقت سدىً، تمثل أبرز الصراعات التقدمية للعصر الراهن.
ويعتقد بضرورة القيام بأمرين للفوز، يقضي الأول بتقليص مدة أسبوع العمل بما يرغم على مشاركة الأعمال الحالية على نطاق أوسع ومنحنا هامشاً زمنياً أكبر. وثانياً، إعادة ترتيب هيكليات الحوافز من خلال إصلاح النظام الضريبي.
ويتسم هدف بريغمان الثالث بأنه الأكثر ثوريةً ويتجلى بفتح الحدود. ويلاحظ الكاتب في هذا المجال أن العنصر الأبرز في تحديد صحة المرء وثروته ومعدل طول حياته، ومستوى تعليمه، لا يرتبط بمدى الجهد المبذول في العمل أو مكان الدراسة، بل يرتبط أكثر بمكان الولادة وطبيعة جواز السفر.
إلا أن بعضهم يأخذون على بريغمان فيما يتخطى الثورة الأخلاقية المحقة، طرحه قضيةً محكومة بالشلل الاقتصادي المروع. ويعتبرها البعض غير قابلة للحياة على المدى البعيد، وقد غفل الكاتب عن تصوير نقائصها، والمشكلات الثلاث المركزية الواضحة المتمثلة بالكثافة السكانية والصراعات الثقافية، والقضاء على الطبقة المتوسطة.
ثغرات
وتجدر الإشارة، أخيراً، إلى أنه على الرغم من اجتذاب مقترحات بريغمان هامشاً كبيراً من الاهتمام والتأييد، فإنها تنطوي على عدد من الثغرات التي لا بدّ من الإضاءة عليها مع الاعتراف بمكامن قوتها الكبيرة.
إذ نلمس نوعاً من الاستخفاف، كما يقول متخصصون، في تعامل بريغمان مع الصيغة المحددة التي تجعلنا كتقدميين نحقق الفوز. وليس المقصود هنا بالطبع تكرار الكليشيه القائلة بأن الطرح يبدو محبباً بالمبدأ، لكنه بالكاد يعتبر عملياً. فإن كنا نريد أن نستعد لعالم أفضل علينا أن نعرف الجهة التي سنواجه في خضم استعداداتنا.
كما نجد أنفسنا إزاء تساؤل حول موقف بريغمان من الرأسمالية، سيما أنه يهاب بشكل واضح على غرار كارل ماركس، قوة رأسمال الإنتاجية ومقتنع تماماً بأنها المسؤولة عن إيصالنا إلى برّ الوفرة المعاصر.
ويخالف بريغمان ماركس لناحية ضرورة تجاوز الرأسمالية كجزئية من الصراع للوصول إلى مستقبل أفضل، ما يدفع للسؤال مجدداً: إذا لم نطوّع الإنتاج والتوزيع لسطوة الديمقراطية، فهل سنتمكن حقاً من ضمان دخل أساسي وعمل أقل للجميع؟
وتدفعنا قراءة بريغمان إلى طرح تساؤلات حول إمكانية معاناة الكاتب من فرط التفاؤل، إذ كيف يسعنا على سبيل المثال، أن نفتح الحدود دون أن نستبدل الدول بحكومة عالمية؟
قيمة
ولا تعني تلك الأسئلة حتماً أن «طوباوية الواقعية» لا يشكل مساهمةً ممتازة في أدب الطوباوية السياسية الضرورية. إنه كتاب يستحق القراءة، قائم على الأبحاث المثبتة والأسلوب الآسر في الكتابة. ويتميز بريغمان بأنه لا يكتب للمحوّرين بل للمشككين أصحاب الرحمة.
ولا يستهدف جمهوراً من الناشطين الشباب بل من أوساط الطبقة المتوسطة الذين لا بد من قمع أصواتهم وتشاؤمهم كخطوة إلزامية لتجاوز المأزق. ولهذا السبب تحديداً ربما يستحق «طوباوية الواقعية» إلحاقه بقافلة الأعمال الطوباوية التي بدأت قبل خمس قرون مع توماس مور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.