تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 23 أغسطس 2025    مواعيد مباريات اليوم السبت 23 أغسطس والقنوات الناقلة    استشهاد 12 فلسطينيًا جراء قصف للاحتلال استهدف خيام نازحين شمال غرب خان يونس    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 23 أغسطس 2025    مهاجر التيك توك «الأفغاني» يقدم نصائح لقتل الزوجات وتجنب العقوبة    القاهرة تسجل 40 مجددا والصعيد يعود إلى "الجحيم"، درجات الحرارة اليوم السبت في مصر    ثوانٍ فارقة أنقذت شابًا من دهس القطار.. وعامل مزلقان السادات يروي التفاصيل    قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    «ميستحقوش يلعبوا في الزمالك».. إكرامي يفتح النار على ألفينا وشيكو بانزا    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    بطريقة درامية، دوناروما يودع جماهير باريس سان جيرمان (فيديو وصور)    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نسيمة الراوي ترسم طنجة مدينة مهجورة
نشر في صوت البلد يوم 21 - 05 - 2017

الرواية الأولى للشاعرة المغربية نسيمة الراوي تتسم بخصائص فنية ناضجة، ذلك أن «تياترو ثرفنطيس» (دار العيْن، 2017) التي جعلتْ من طنجة فضاءً لها، عرفتْ كيف تُزاوج بين كتابة الذاكرة المجروحة، وتحولات المدينة الأسطورية في سياق التحديث والانفتاح الكوْكبي. وسبق لنسيمة أن شيّدت قصائدها في ديوانها «قبل أن تستيقظ طنجة» من حَطَبِ العواطف الممتزجة بأساطير المدينة «الدولية» وما تنطوي عليه من رموز، لكنها هنا، تستوحي تفاصيل الحياة الحميمة من خلال خيْبةِ أملِ فتاة في مستقبل العمر، كانت تصبو إلى أن تقطفَ النجوم بأنامِلها...
اختارت الكاتبة شكل المحكيّ الشعري المبني عبْر فصولٍ قصيرة مصوغة في سردٍ شذريّ يتوسل بالغة المكتنزة والكثافة التعبيرية، واقتفاء قفزات الذاكرة وهي تكسّر السرد الطوليّ وتنحو صوْب تجاوُر المحكيات عبْر شخصيات تنطوي على جذورٍ عميقة في فضاء طنجة وفي حياة «أحلام» التي تسرد قصتَها فيما هي تكتبها، لينتهي النص بالفقرة الأولى التي بدأ منها: « قطراتُ رذاذ واهنة تنزلق على زجاج النافذة. أتابع انعراجاتها المتموجة وهي ترسم أخاديد في بقايا وجهي المنعكس في زجاج النافذة... (ص7، وص124). لكن هذه البنية المدوّرة للنصّ، وعناوين الفصول الثمانية، تتوخى أن تُشرِك القارئ في سيرورة الكتابة ليُصبح متواطئاً في توزيع الفصول واستجلاء رمزيتها: «ساحة الأصوات»، تياترو ثرفنطيس»، «السوق الداخلي»، «الإحساس بالنهاية»... وإذا كانت الساردة تنطلق من طفولتها وذكرياتها البعيدة، فإنها سرعان ما تخلق دوائر حولها لتُدمج شخصياتٍ وأمكنة توسّع دائرة السرد وتضئ في الآن نفسه قصة «أحلام» التي هي أساس الرواية. من ثمّ، يحتلّ الجَدّ موضعاً مركزياً لأنه عوّض أباها الذي استشهِد في حومة النضال وهي لم تُجاوز سنّ الثامنة. وفي نفس الاتجاه، يأخذ مسرح ثرفنطيس دورَ شخصية روائية، لأنه مرتبط بتاريخ طنجة منذ مطلع القرن العشرين وشاهِدٌ على سنوات من عهد الحِماية الإسبانية التي فُرضت على المدينة، حيث كان يقدم إبداعات موسيقية ومسرحية إسبانية متألقة، قبل أن يؤول إلى الإهمال ثم انهيار البناية في عهد الاستقلال... وأحلام بدورها تعيش فصص حبّ، بخاصة مع مراد، تنتهي بالفشل وخيانة المحبوب الذي اجتذبته أضواءُ أمريكا والرغبة في الثراء السريع.
ثورة الشباب
ولعلّ مأساة «أحلام» تكمن في نقاوة سريرتها، ومُراهنتها على الحب والشعر وثورة الشباب، فقد تعرفت إلى مراد في جامعة مدينة «مرتيل»، وانغمرت بصحبته في أجواء التمرد والرفض والاستجابة لتحرير الجسد، ووجدت في مراد الذي كان حينئذ يكتب الشعر ويتزعم الطلبة تحت المظلة الماركسية، حبيباً ورفيقاً وروحاً شقيقة تتخذ من الحب غاية مطلقة. إلا أن مراد سرعان ما استفاق من حلم الثورة والغرام حين التقى فتاة أمريكية أقنعته بالرحيل معها إلى أميركا لاكتشاف عوالم المال والنجاح السريع... وبعد سنوات من الهجرة، عاد مراد إلى طنجة ليفتح فندقاً فخماً ويحاول أن يقنع حبيبته المهجورة بأن تعمل معه مشرفة على إدارة الفندق.
لم تنخدع «أحلام» بما عرضه عليها الحبيب القديم، وإنما أرادت أن تجعله يظهر على حقيقته: «أستمع إليه وهو يستعرض عليّ بعد كل هذه السنوات، اكتشافاته الهائلة: أميركا منجمُ ذهب لا ينضب. بإمكانكِ أن تشتغلي هناك في ظروف جيدة وتوفري مبلغاً محترماً، ثم تعودين إلى طنجة لتستثمري أموالك (...) أصغي إليه بإمعانٍ وأشاهده وهو يُشيّع جنازة «مراد» اليساري القديم. انتبَه لشرودي وأنا أتخيل جنازته. أتخيّل المحرقة التي ابتكرَها ليُعدم الأحلام التي دافعنا عنها. عدتُ من خيالاتي. تلقفني بسؤال بارد عن حالي وأحوالي. ابتسمتُ بخُبث، تجنبتُ السؤال بكلمة واحدة: حالي يشبه طنجة، لكني ما زلتُ قادرة على المقاومة» ص 103.
على رغم أن أحلام قبلتْ أن تعمل مع مراد في فندقه علّها تستعيده بعد إقراره بخطئه تجاهها، فإنه سرعان ما تخلى عنها من جديد وسافرَ متسللاً إلى أميركا، مثلما فعل أول مرة بعد أن أقنعها بالإجهاض. هذه المرة، كان لا بُدّ من طبيب نفساني يسعفها على تحمّل الخيبة ووأدِ حلم الحب والثورة. ولم تجد مَنْ يقف إلى جانبها هذه المرة، سوى «آدم» ابن الجارَة مريم والملقب ب «النصراني» لأن أباه أميركيٌ عَبَرَ من طنجة وألقى نطفتَه في رحِم أمه. أصبح آدم هو المُواسي والمحب، بعد أن كانت أحلام هي التي تزوره في المستشفى وتتعاطف مع محنتِه. على هذا النحو، التأمَ جرحها إذ وجدت عند آدم ما افتقدته عند مراد. وجدت عنده الإصرار على رفض ما يحيط به من مواضعات وقيمٍ بالية، ووجدت أيضاً لوْثة الجنون الجميل الذي شجعها على أن تكتب ذاكرتها الجريحة وتُكمِل روايتها قبل «أن تنسى التفاصيل» نتيجة التأثيرات الجانبية للأدوية.
قصة حب
إذا كانت هذه الرواية تنسج تفاصيلها ومحكياتها من قصة حبّ مجهضة خلّفَتْ مأساة في حياة «أحلام» التي راهنتْ على الثورة والشعر والحب، مثل أجيال السبعينات والثمانينات في المغرب، فإن رمزية الأمكنة والشخوص وتاريخ طنجة الماثِل في المُتخيّل المغربي والعالمي، قد جعلا من «تياترو ثرفنطيس» مجالاً لقراءة الذاكرة المتعددة الروافد: كتابات مبدعين تتم الإشارة إليها (محمد شكري، جان جونيه، بول بولز...)، وقصص تروي التهجين المُخصب (الجَدّ الذي عمل في مسرح ثرفنطيس وأحبّ «لولا» الإسبانية)، والجارة مريم التي تعلق بها أميركيّ عابِر وزرع في رحمها آدم النصراني، ومراد وَكريم اللذان هاجَرا بحثاً عن الثروة والنجاح وداسا حُلمَ جيلهما متطلعيْن إلى «طنجة الجديدة» التي ستنبثق في عهد الكوْكبية الاقتصادية... وحدها أحلام ومعها آدم، يتشبثان بطنجة التي هجَرتْها الملائكة، ليكتبا الذاكرة التي امتلأتْ بالتحدي وتغذتْ بأغاني الشيخ إمام وجرأة «الخبز الحافي»، وأصداء سهرات مسرح ثرفنطيس، أيامَ كانت طنجة تحمل رمز الانفتاح على العالم الخارجي وتستقبل كل جديد وَافِدٍ من شواطئ أوروبا، لتصهر القديم والجديد وتبشر بتحرير الذات والعواطف والأجساد...
من هذا المنظور، استطاعت نسيمة الراوي أن تُزاوج، عبْر حبكة متعددة المحاور، بين قصص الحب والتربية العاطفية، وبين خلفيةِ مدينة طنجة وهي ترتاد آفاق التحول والتبدّل بتأثيرٍ من عولمة تكتسح كل شيء، وتضع القيم الموروثة في مهبّ الرياح.
إن الجميل والجاذب في هذه الرواية، هو شكلها المتدثر بالمحكي الشعري الذي يتوسّلُ لغة مملوءة بالصور والاستعارات الموحية، كما يتوسّل بكتابةٍ شذرية تكتفي بالإشارة والتلميح، مُستغنية عن التمطيط والثرثرة اللذيْن يلجأ إليهما روائيون عرب من أجل استجداءِ نوم القارئ. وهذا البناء الذي يقرن الكثافة الشعرية بالمشاهد التمثيلية الدّالة، يحفز القارئ على المشاركة في التخيّل واستحضار العناصر الغائبة لاستكمالِ تأثيث فضاء طنجة ذي الأجواء المحفزة، قبل أن تهجرها الملائكة، على حدّ تعبير الكاتبة، لتغدو مدينة خالية من الطلاء وسحر الموروث:
«عدتُ من الفندق في حدود العاشرة ليلاً، بعدما أنهيتُ عملي. ودعني مراد أمام باب الفندق. أخرجُ إلى شوارع طنجة التي بالكاد تنهض من سباتها لتستقبل سكان الليل. ألمح فتياتٍ في مقتبل العمر يتمايلن، يُصوّبن نظرات مُغرية صوب سياراتٍ لا تعيرُهنّ اهتماماً. صوت المتشردين يخترق أذني ورائحة «الكولا» تزكم أنفي...» ص 105. كل مدينة لها أكثر من فضاء ووجْه. وطنجة المتدثرة بأردية الاستيهامات وأفواج العابرين، تغدو عند نسيمة الراوي جزءاً من ذاكرة يمتزج فيها الشعر بوقاحة الواقع وأطياف مَنْ باعوا أرواحهم للشيطان. وحدها «أحلام» تتشبث بأن تصير سماء لنوارس أخرى لا تكفّ عن التحليق.
الرواية الأولى للشاعرة المغربية نسيمة الراوي تتسم بخصائص فنية ناضجة، ذلك أن «تياترو ثرفنطيس» (دار العيْن، 2017) التي جعلتْ من طنجة فضاءً لها، عرفتْ كيف تُزاوج بين كتابة الذاكرة المجروحة، وتحولات المدينة الأسطورية في سياق التحديث والانفتاح الكوْكبي. وسبق لنسيمة أن شيّدت قصائدها في ديوانها «قبل أن تستيقظ طنجة» من حَطَبِ العواطف الممتزجة بأساطير المدينة «الدولية» وما تنطوي عليه من رموز، لكنها هنا، تستوحي تفاصيل الحياة الحميمة من خلال خيْبةِ أملِ فتاة في مستقبل العمر، كانت تصبو إلى أن تقطفَ النجوم بأنامِلها...
اختارت الكاتبة شكل المحكيّ الشعري المبني عبْر فصولٍ قصيرة مصوغة في سردٍ شذريّ يتوسل بالغة المكتنزة والكثافة التعبيرية، واقتفاء قفزات الذاكرة وهي تكسّر السرد الطوليّ وتنحو صوْب تجاوُر المحكيات عبْر شخصيات تنطوي على جذورٍ عميقة في فضاء طنجة وفي حياة «أحلام» التي تسرد قصتَها فيما هي تكتبها، لينتهي النص بالفقرة الأولى التي بدأ منها: « قطراتُ رذاذ واهنة تنزلق على زجاج النافذة. أتابع انعراجاتها المتموجة وهي ترسم أخاديد في بقايا وجهي المنعكس في زجاج النافذة... (ص7، وص124). لكن هذه البنية المدوّرة للنصّ، وعناوين الفصول الثمانية، تتوخى أن تُشرِك القارئ في سيرورة الكتابة ليُصبح متواطئاً في توزيع الفصول واستجلاء رمزيتها: «ساحة الأصوات»، تياترو ثرفنطيس»، «السوق الداخلي»، «الإحساس بالنهاية»... وإذا كانت الساردة تنطلق من طفولتها وذكرياتها البعيدة، فإنها سرعان ما تخلق دوائر حولها لتُدمج شخصياتٍ وأمكنة توسّع دائرة السرد وتضئ في الآن نفسه قصة «أحلام» التي هي أساس الرواية. من ثمّ، يحتلّ الجَدّ موضعاً مركزياً لأنه عوّض أباها الذي استشهِد في حومة النضال وهي لم تُجاوز سنّ الثامنة. وفي نفس الاتجاه، يأخذ مسرح ثرفنطيس دورَ شخصية روائية، لأنه مرتبط بتاريخ طنجة منذ مطلع القرن العشرين وشاهِدٌ على سنوات من عهد الحِماية الإسبانية التي فُرضت على المدينة، حيث كان يقدم إبداعات موسيقية ومسرحية إسبانية متألقة، قبل أن يؤول إلى الإهمال ثم انهيار البناية في عهد الاستقلال... وأحلام بدورها تعيش فصص حبّ، بخاصة مع مراد، تنتهي بالفشل وخيانة المحبوب الذي اجتذبته أضواءُ أمريكا والرغبة في الثراء السريع.
ثورة الشباب
ولعلّ مأساة «أحلام» تكمن في نقاوة سريرتها، ومُراهنتها على الحب والشعر وثورة الشباب، فقد تعرفت إلى مراد في جامعة مدينة «مرتيل»، وانغمرت بصحبته في أجواء التمرد والرفض والاستجابة لتحرير الجسد، ووجدت في مراد الذي كان حينئذ يكتب الشعر ويتزعم الطلبة تحت المظلة الماركسية، حبيباً ورفيقاً وروحاً شقيقة تتخذ من الحب غاية مطلقة. إلا أن مراد سرعان ما استفاق من حلم الثورة والغرام حين التقى فتاة أمريكية أقنعته بالرحيل معها إلى أميركا لاكتشاف عوالم المال والنجاح السريع... وبعد سنوات من الهجرة، عاد مراد إلى طنجة ليفتح فندقاً فخماً ويحاول أن يقنع حبيبته المهجورة بأن تعمل معه مشرفة على إدارة الفندق.
لم تنخدع «أحلام» بما عرضه عليها الحبيب القديم، وإنما أرادت أن تجعله يظهر على حقيقته: «أستمع إليه وهو يستعرض عليّ بعد كل هذه السنوات، اكتشافاته الهائلة: أميركا منجمُ ذهب لا ينضب. بإمكانكِ أن تشتغلي هناك في ظروف جيدة وتوفري مبلغاً محترماً، ثم تعودين إلى طنجة لتستثمري أموالك (...) أصغي إليه بإمعانٍ وأشاهده وهو يُشيّع جنازة «مراد» اليساري القديم. انتبَه لشرودي وأنا أتخيل جنازته. أتخيّل المحرقة التي ابتكرَها ليُعدم الأحلام التي دافعنا عنها. عدتُ من خيالاتي. تلقفني بسؤال بارد عن حالي وأحوالي. ابتسمتُ بخُبث، تجنبتُ السؤال بكلمة واحدة: حالي يشبه طنجة، لكني ما زلتُ قادرة على المقاومة» ص 103.
على رغم أن أحلام قبلتْ أن تعمل مع مراد في فندقه علّها تستعيده بعد إقراره بخطئه تجاهها، فإنه سرعان ما تخلى عنها من جديد وسافرَ متسللاً إلى أميركا، مثلما فعل أول مرة بعد أن أقنعها بالإجهاض. هذه المرة، كان لا بُدّ من طبيب نفساني يسعفها على تحمّل الخيبة ووأدِ حلم الحب والثورة. ولم تجد مَنْ يقف إلى جانبها هذه المرة، سوى «آدم» ابن الجارَة مريم والملقب ب «النصراني» لأن أباه أميركيٌ عَبَرَ من طنجة وألقى نطفتَه في رحِم أمه. أصبح آدم هو المُواسي والمحب، بعد أن كانت أحلام هي التي تزوره في المستشفى وتتعاطف مع محنتِه. على هذا النحو، التأمَ جرحها إذ وجدت عند آدم ما افتقدته عند مراد. وجدت عنده الإصرار على رفض ما يحيط به من مواضعات وقيمٍ بالية، ووجدت أيضاً لوْثة الجنون الجميل الذي شجعها على أن تكتب ذاكرتها الجريحة وتُكمِل روايتها قبل «أن تنسى التفاصيل» نتيجة التأثيرات الجانبية للأدوية.
قصة حب
إذا كانت هذه الرواية تنسج تفاصيلها ومحكياتها من قصة حبّ مجهضة خلّفَتْ مأساة في حياة «أحلام» التي راهنتْ على الثورة والشعر والحب، مثل أجيال السبعينات والثمانينات في المغرب، فإن رمزية الأمكنة والشخوص وتاريخ طنجة الماثِل في المُتخيّل المغربي والعالمي، قد جعلا من «تياترو ثرفنطيس» مجالاً لقراءة الذاكرة المتعددة الروافد: كتابات مبدعين تتم الإشارة إليها (محمد شكري، جان جونيه، بول بولز...)، وقصص تروي التهجين المُخصب (الجَدّ الذي عمل في مسرح ثرفنطيس وأحبّ «لولا» الإسبانية)، والجارة مريم التي تعلق بها أميركيّ عابِر وزرع في رحمها آدم النصراني، ومراد وَكريم اللذان هاجَرا بحثاً عن الثروة والنجاح وداسا حُلمَ جيلهما متطلعيْن إلى «طنجة الجديدة» التي ستنبثق في عهد الكوْكبية الاقتصادية... وحدها أحلام ومعها آدم، يتشبثان بطنجة التي هجَرتْها الملائكة، ليكتبا الذاكرة التي امتلأتْ بالتحدي وتغذتْ بأغاني الشيخ إمام وجرأة «الخبز الحافي»، وأصداء سهرات مسرح ثرفنطيس، أيامَ كانت طنجة تحمل رمز الانفتاح على العالم الخارجي وتستقبل كل جديد وَافِدٍ من شواطئ أوروبا، لتصهر القديم والجديد وتبشر بتحرير الذات والعواطف والأجساد...
من هذا المنظور، استطاعت نسيمة الراوي أن تُزاوج، عبْر حبكة متعددة المحاور، بين قصص الحب والتربية العاطفية، وبين خلفيةِ مدينة طنجة وهي ترتاد آفاق التحول والتبدّل بتأثيرٍ من عولمة تكتسح كل شيء، وتضع القيم الموروثة في مهبّ الرياح.
إن الجميل والجاذب في هذه الرواية، هو شكلها المتدثر بالمحكي الشعري الذي يتوسّلُ لغة مملوءة بالصور والاستعارات الموحية، كما يتوسّل بكتابةٍ شذرية تكتفي بالإشارة والتلميح، مُستغنية عن التمطيط والثرثرة اللذيْن يلجأ إليهما روائيون عرب من أجل استجداءِ نوم القارئ. وهذا البناء الذي يقرن الكثافة الشعرية بالمشاهد التمثيلية الدّالة، يحفز القارئ على المشاركة في التخيّل واستحضار العناصر الغائبة لاستكمالِ تأثيث فضاء طنجة ذي الأجواء المحفزة، قبل أن تهجرها الملائكة، على حدّ تعبير الكاتبة، لتغدو مدينة خالية من الطلاء وسحر الموروث:
«عدتُ من الفندق في حدود العاشرة ليلاً، بعدما أنهيتُ عملي. ودعني مراد أمام باب الفندق. أخرجُ إلى شوارع طنجة التي بالكاد تنهض من سباتها لتستقبل سكان الليل. ألمح فتياتٍ في مقتبل العمر يتمايلن، يُصوّبن نظرات مُغرية صوب سياراتٍ لا تعيرُهنّ اهتماماً. صوت المتشردين يخترق أذني ورائحة «الكولا» تزكم أنفي...» ص 105. كل مدينة لها أكثر من فضاء ووجْه. وطنجة المتدثرة بأردية الاستيهامات وأفواج العابرين، تغدو عند نسيمة الراوي جزءاً من ذاكرة يمتزج فيها الشعر بوقاحة الواقع وأطياف مَنْ باعوا أرواحهم للشيطان. وحدها «أحلام» تتشبث بأن تصير سماء لنوارس أخرى لا تكفّ عن التحليق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.