إنشاء وحدات صحية ومدارس وتحسين خدمة المياه.. محطات مهمة ل حياة كريمة بالجيزة    تركيا تعلن رفع العقوبات الأمريكية عن أنقرة المفروضة بسبب شراء "إس-400" الروسية    ألبانيا أول منتخب أوروبي يحجز مقعده في ملحق مونديال 2026    حملة مكبرة لإزالة الإشغالات والتعديات بالشوارع والالتزام بإعلان الأسعار في مرسى علم    رئيس هيئة المتحف الكبير: لا صحة لشائعات منع المصريين.. والزيارة بنظام التوقيتات للجميع    رئيس البورصة: تحديد 5% حد أدنى للاستثمار في الصناديق المفتوحة يزيد من السيولة    هالة فاخر تشعل تريند جوجل بعد ظهورها الصريح مع ياسمين عز وحديثها عن كواليس مشوارها الفني    أمين اتحاد الغرف التجارية: الوفرة والمنافسة تدفعان لاستقرار الأسعار.. وتوقعات بالانخفاض    أسعار الدواجن والبيض في الأسواق اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025    استشهاد شاب برصاص الاحتلال فى مخيم عسكر بالضفة الغربية    فيلم شكوى 713317 معالجة درامية هادئة حول تعقيدات العلاقات الإنسانية    رئيس قصور الثقافة يتابع حالة طلاب أسوان المصابين في حادث طريق إسنا    حبس المتهم بسرقة المتاجر في النزهة    رئيس هيئة قصور الثقافة يزور الطلاب المصابين في حادث طريق إسنا بمستشفى طيبة (صور)    وزير الصحة ينفي شائعات نقص الأنسولين: لدينا 3 مصانع واحتياطي استراتيجي يكفي 4 أشهر    رئيس قناة السويس: ارتفاع العائدات 20%.. وتوقعات بقفزة 50% في 2026    حامد حمدان يفضل الأهلي على الزمالك والراتب يحسم وجهته    طقس خريفي مستقر وتحذيرات من الشبورة الكثيفة صباحًا.. الأرصاد تعلن تفاصيل حالة الجو الأحد 16 نوفمبر 2025    "دولة التلاوة".. برنامج قرآني يتصدر الترند ويُحيي أصالة الصوت المصري    وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية تستضيف وفدًا من قيادات مجموعة ستاندرد بنك    خالد عبد الغفار: مصر تحقق نجاحات كبيرة جدًا على المستوى الدولي    وزير الصحة: متوسط عمر المصريين زاد 20 عاما منذ الستينيات.. وكل دولار ننفقه على الوقاية يوفر من 3 ل 7 دولارات    دعاية يتبناها الأذرع: "أوبزرفر" و"بي بي سي" و"فورين بوليسي" نماذج لإعلام "إخواني" يهاجم تدخل الإمارات في السودان!    الاحتلال الإسرائيلي يحدد موعد لمحاكمة إمام الأقصى بتهمة التحريض على الإرهاب    مدحت عبد الهادي عن "نعش" محمد صبري: كان خفيف ومتعبش حد فينا    الداخلية تضبط المتهمين بسرقة أبواب حديدية بإحدى المقابر بالشرقية    أسفرت عن إصابة 4 أشخاص.. حبس طرفي مشاجرة في كرداسة    بدون إصابات.. السيطرة على حريق في برج سكني بفيصل    أهلي جدة يبدأ خطوات الحفاظ على ميندي وتجديد العقد    فيران توريس بعد دخوله نادي العظماء: الطموح لا يتوقف مع الماتادور    آسر محمد صبري: والدي جعلني أعشق الزمالك.. وشيكابالا مثلي الأعلى    "ضد الإبادة".. ظهور حمدان والنبريص والدباغ في خسارة فلسطين أمام الباسك    الدفاع الروسية: إسقاط 36 طائرة مسيرة أوكرانية فوق عدة مناطق    عمرو أديب بعد حادث أحمد سعد: واخد عين.. حوادثنا قاتلة رغم الطفرة غير الطبيعية في الطرق    المستشار ضياء الغمرى يحتفل بحفل زفاف نجله محمد علي الدكتورة ندى    العرض العربي الأول لفيلم "كان ياما كان في غزة" فى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    البنك الأهلي المصري يقود تحالفاً مصرفياً لتمويل «مشارق للاستثمار العقاري» بمليار جنيه    قائمة أكبر المتاجر المشاركة في البلاك فرايداي وأسعار لا تُفوَّت    إيران تحذر من تداعيات التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الكاريبي    رئيس الوزراء المجرى: على أوروبا أن تقترح نظاما أمنيا جديدا على روسيا    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. إسرائيل: لا إعادة إعمار لقطاع غزة قبل نزع سلاح حماس.. قتلى وجرحى فى انزلاق أرضى فى جاوة الوسطى بإندونيسيا.. الجيش السودانى يسيطر على منطقتين فى شمال كردفان    تريزيجيه: اتخذت قرار العودة للأهلي في قمة مستواي    تساقط أمطار خفيفة وانتشار السحب المنخفضة بمنطقة كرموز في الإسكندرية    اختتام المؤتمر العالمي للسكان.. وزير الصحة يعلن التوصيات ويحدد موعد النسخة الرابعة    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    مؤتمر السكان والتنمية.. وزير الصحة يشهد إطلاق الأدلة الإرشادية لمنظومة الترصد المبني على الحدث    مؤتمر جماهيري حاشد ل"الجبهة الوطنية " غدا بستاد القاهرة لدعم مرشحيه بانتخابات النواب    (كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا) موضوع خطبة الجمعة المقبلة    حبس والدى طفلة الإشارة بالإسماعيلية 4 أيام على ذمة التحقيقات    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    دعت لضرورة تنوع مصادر التمويل، دراسة تكشف تكاليف تشغيل الجامعات التكنولوجية    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد المديني باحثاً عن «ظل الغريب»
نشر في صوت البلد يوم 14 - 05 - 2017

من عتبة الغلاف الأخير لرواية أحمد المديني «ظل الغريب» (المركز الثقافي العربي، 2007) تبدأ اللعبة الروائية بالإيهام بالسيرية، إذ يخبر الكاتب أن بطل الرواية علي بن زروال كان قد روى له نتفاً منها في زمن الجمر المغربي، أي في سبعينات القرن الماضي، ونسيها الكاتب طويلاً، ثم جمعها أشلاءً، ولبس جلد بطلها «فأكون هو، وهو حتماً ليس أنا». ولأن الأمر كذلك– ربما– كان للرواية راويان: بطلها، والسارد الذي لا يفتأ يُعيْن في السرد أو يضيء شخصية البطل. وسوف يتناوب الراويان على السرد، الأول بضمير المتكلم، والثاني بضميري الغائب والمخاطب، ولكن الحصة الكبرى هي للأول.
وفي العتبة الأولى (العنوان) يجتمع الاسم/ الصفة مع المكان. أما «الغريب» فمناطه في مجيء المغربي علي بن زروال (هجرة أو نفي طوعيان ينطويان على قسر) لتدريس التاريخ في الجزائر. ولسوف يتخيل أمام تمثال الأمير عبدالقادر الجزائري أن الأمير بعد أن يحدثه عما في الجزائريين قومه من غلظة أحياناً «ولكن لا أرحم منهم» – ينهاه: «لا تشك بعد إني غريب، فنحن جميعاً في الدنيا غرباء إلى ملقانا يوم الدين». وربما كان مناط آخر للغريب في استذكاره لميرسو بطل رواية ألبير كامي «الغريب»، وليس فقط حين يعبر في فرع من شارع/ حي محمد بلويزداد من رواد الثورة الجزائرية، حيث قضى ألبير كامي شطراً من طفولته ويفاعته. أما تتمة العنوان أو العنوان الفرعي (جوج بغال) فهي نقطة العبور الحدودية بين الجزائر والمغرب. وقد تصدرت الرواية بشرح أسباب هذه التسمية للمكان الذي يبئر الرواية في مبتدأها ومنتهاها، ليأتي بناؤها بعودة علي بن زروال من الجزائر برّاً عبر «جوج بغال»، حيث ستكون سردية المعاناة البيروقراطية المريرة، كما سيتبين في الفصل الأول وفي الفصلين الأخيرين التاسع والعاشر من الرواية، بينما تتوالى عبر الفصول الأخرى وتتفتق الارتجاعات، وأحياناً تشتبك، لتغطي تجربة بن زروال الجزائرية، وما سبقها من زمنه في بلده.
من ماضيه في دار غفلون– هكذا ينعت بلده– يمضي هذا الغريب مسكوناً بصوت المؤسسة الأمنية الذي يجلجل» الإنس والجن معنا. أنت نفسك في خدمتنا من غير أن تعلم». وكذلك هي جلجلة المخبر التي يهجس بها الغريب حتى في الجزائر: «سأبقى حذوك النعل بالنعل حتى تكشف عن سرك من سبب هذا الرحيل المفاجئ».
وفي الجزائر لن يكون أمر بن زروال أفضل، فهو تحت العين الرقيبة. ولئن كان الحال في المغرب «شعب كله دايخ» فالجزائر بلد الغش والممنوع على من ليس لهم من يحميهم مثل علي بن زروال، فأولاء رعايا لا مواطنين». ومن ذلك الماضي البعيد، يستعيد بن زروال ذكريات الجامعة في الرباط وعلاقته التي تسكنه بغيثة، وأحداث 23/3/1965 حيث ألقي بجثث الطلاب في البحر، وكذلك وقائع الانقلاب العسكري في 16/8/1972، واعتقال حسن الذهبي، أحد رفاقه، وهلع الخلية الحزبية التي ينتمي إليها، واختفاء عبدالله الشرقي الذي يحرض بن زروال على السفر. وسوف يستعيد بن زروال من بعد الصراع الذي نشب بين الجزائر والمغرب عام 1963، ومعاضدة الملك محمد الخامس للثورة الجزائرية، كما سيستعيد في مقهى عميروش في الجزائر ذكريات ضيوف والده من اللاجئين الجزائريين، ومنهم من سيلتقيه مصادفة: صديقه وصديق والده حميدو الزناتي.
وهكذا دارت الأيام، وصار المغاربة يأتون إلى الجزائر، متعاونين لا لاجئين: «نحن أمة واحدة وشعب واحد، حاول الاستعمار أن يفرق بيننا، لكننا بقينا متآزرين». ويبلور بن زروال الأمر في البلدين، ليبدو من المحتمل أن تكون الثورة في الجزائر ما زالت مشتعلة، ومن المحتمل أن يكون الجزائريون لم يكملوا ثورتهم، وأيديهم تقبض على الزناد، تترصد عدواً كامناً في زاوية ما. أما المغرب فقد اغتصبت فيه الثورة، فنال استقلالاً ناقصاً مبتوراً، ومن دون اندلاع الثورة مجدداً» طغاة جبابرة، هم بالمرصاد لكل يد ولسان».
بهذه العودة إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي، تبدو الرواية تحفر في التاريخ. وتتقد الحفرية بالاطراد مع شخصنة وتسريد المعلومة، والعكس صحيح، كما في الحديث عن تاريخ القصبة وتاريخ حصن برج الكيفان في العاصمة الجزائرية... لكن ما يرجح في الرواية هو الحاضر، أي تجربة بن زروال الجزائرية، بالتفصيل المدقق والمبالغ أحياناً، ابتداءً من نزوله في مطار الدار البيضاء الجزائري، والبحث عن فندق يقوده إلى أن يقضي ليلته الجزائرية الأولى في الكوميسارية، كما سيقضي ليلة في الحمام التركي. ثم يشتبك البحث عن مأوى بالعمل في ليسيه الأمير عبدالقادر الجزائري، وبخبط قدمي الغريب من شارع إلى زقاق إلى ساحة إلى حيّ إلى أي من معالم المدينة التي سيصفها بالحلزونية الدغلية الممنوعة على العزاب والعشاق، ذات الأزقة التي تشبه أوردة دموية يسري فيها بشر بحجم النمل وأضأل، وبدرجة أدنى يكون لمفردات الفضاء المغربي حضوره، وبخاصة في الدار البيضاء، فإذا بالجغرافيا ندّاً للتاريخ، ومثله: فاعل روائي مكين. مع حميدو، سيقيم بن زروال حيناً في العمارة اليسوعية إلى أن تقدم له وزارة التربية منزلاً سيشاركه فيه حميدو. وفي مواجهته جهامة المدينة وقسوتها ونبذها للغريب الذي يعيش في وحدة شبه مطلقة، تكون المرأة هي الواحة، سواء في المبغى أم في الحانة وصاحبتها الغالية، أم تلك التي ترميه بالعشق: الحليبية القبايلية والزميلة رتيبة مدرسة الرياضيات.
وهنا تنبق الذكورية، كما في تعبير بن زورال عن فلاحه في التمهيد لإغوائه رتيبة: «نجحت في الغزوة الأولى». لكن عابراً من القبايليين يتصدى للغريب إنفاذاً للعصبوية العمياء، فتهرب رتيبة، وتنقذ الشرطة بن زورال من سكين المتطوع لحماية بنت بلده. وفي الفصل الأخير من الرواية يستذكر بن زروال علاقته بالفرنسية ميشيل التي ترى أن الشعب الجزائري لا يعرف قيمة الطبيعة التي تتمتع بها بلاده، ويفضلون التكدس في الحواري والأزقة، أو ينزوون في الجبال الخلفية. وهذه التي يعمل زوجها خبيراً للنفط في حاسي مسعود، تجر بن زروال إلى الفراش كشاة ذبيحة، كما يعبر، بينما يراها هو قنّاصة لذة، ويفخر بأنه خطف من هؤلاء المكبوتين أجمل طريدة، بينما يريدون نهشها، ولتكن خنزيرة برية. ويخاطبه السارد بأنه يتنطع بغزوته متل فرسان الجاهلية، ويُنطِق لسان ميشيل بانتظار هذا المغربي الجامح الذي يعترف بأنها صيرته غيوراً، حتى صرخت به: «أنا لست ملكك ولا ملك أحد، هذا جسدي وأنا حرة فيه، أهبه لمن أشاء». وهكذا تتدمر العلاقة التي كانت ميشيل نفسها تأمل بأن تتكامل فيها هي مدرّسة الجغرافيا مع العاشق مدرس التاريخ. لكن بن زروال كان عاشقاً أكبر شفافية وحرارة كما يبدو في مراسلاته مع الحبيبة المغربية غيثة.
من اللافت أن مراسلات غيثة والعاشق تأتي بلغته وبلغة السارد في المقامات الأخرى، بينما تتعدد لغات الرواية في أغلب هاته المقامات، حيث العامية المغربية والعامية الجزائرية والفرنسية– مع شروحاتها– وحيث لغة جريدة الشعب والفصحى المقعّرة وابن خلدون والمنشور الانتخابي، ولغة المتناصات القرآنية الغنائية الوفيرة لأم كلثوم (قصيدة سلوا كأس الطلا...) وللشيخ محمد العنقا وغروابي ودحمان الحراشي، وبخاصة للمغنية الوافية التي تؤدي أغنياتها على الحدود المرأة الوهرانية في نهاية الرواية. ويبلغ التعدد اللغوي امتيازه كلما تعلق الأمر بالأسطرة أو الصوفية أو بالأمير عبدالقادر الجزائري الذي يحييه بن زروال لدى دخوله الليسيه التي تحمل اسم الأمير، ويغمره بالألقاب: ابن سيدي محي الدين (ابن عربي) وعمود البلاد ونور اليقين وإمام العباد وصاحب الجزائر والولي النصير وأمير البر والبحر «تحت غيمة الصوفية المدرارة، وشيخها ابن عربي». أما الأسطرة فتتركز بالمرأة- الجنية بنت القصبة، وسليلة أرض الدزاير (الجزائر) وهذه السطور المتوهجة كمثال: «اسمع يالمغربي، راك هبلت، ومعذور يا ولدي بناتنا راهم يهبّلوا، وفي خاطر مولاي إدريس، وبركة مولاي عبدالقادر، أنصحك تحوّس عليها في قصر الداي (دار السلطان) على حساب زمان. هي هكذا، وقبلك تبعها الإنس والجان من كل مكان، وما أخذ منها أحد لا حق ولا باطل...».
من حين إلى حين يسعى الغريب إلى مشاركة القراءة فيما يسرد، كوعده إبّان حديثه عن مدينة تيزي وزّو عاصمة منطقة القبايل، أي أمازيغ الجزائر، حيث يخاطب القراء بأنه سيروي لهم صفحات من قصته التي يتمنى أن يتابعوها إلى النهاية «لأن فيها ما سيشوّق ويُغرب أكثر مما علمتم حتى الآن». وحين اقتربت الرواية من نهايتها خاطب القراء أيضاً بصدد ورطته على الحدود بين البيروقراطية وظهور وباء الكوليرا، ورجاهم مرافقته إلى نهاية الورطة. وفي هذه النهاية عثر على الرسالة التي كان قد حملها من المغرب إلى من سيتصل به من أجلها. لكنه افتقد الرسالة- اللغز، مما جرّ عليه العسف، وكان ذلك سانحة أكبر للحديث عن المعارضة المغربية المقيمة في الجزائر، مما يتصل بالتأرخة وبالحفرية التاريخية.
لقد تضاعفت غربة الغريب علي بن زروال كما نقرأ في عتبة الغلاف الأخير، فانضافت الغربة الجزائرية إلى الغربة في الوطن: المغرب، وتعددت الوجوه «والحكايات تُسرد وتتناسل، والأحداث كثيفة وتتكاثف، والخطابات غضبٌ وولَهٌ وشجن...».
من عتبة الغلاف الأخير لرواية أحمد المديني «ظل الغريب» (المركز الثقافي العربي، 2007) تبدأ اللعبة الروائية بالإيهام بالسيرية، إذ يخبر الكاتب أن بطل الرواية علي بن زروال كان قد روى له نتفاً منها في زمن الجمر المغربي، أي في سبعينات القرن الماضي، ونسيها الكاتب طويلاً، ثم جمعها أشلاءً، ولبس جلد بطلها «فأكون هو، وهو حتماً ليس أنا». ولأن الأمر كذلك– ربما– كان للرواية راويان: بطلها، والسارد الذي لا يفتأ يُعيْن في السرد أو يضيء شخصية البطل. وسوف يتناوب الراويان على السرد، الأول بضمير المتكلم، والثاني بضميري الغائب والمخاطب، ولكن الحصة الكبرى هي للأول.
وفي العتبة الأولى (العنوان) يجتمع الاسم/ الصفة مع المكان. أما «الغريب» فمناطه في مجيء المغربي علي بن زروال (هجرة أو نفي طوعيان ينطويان على قسر) لتدريس التاريخ في الجزائر. ولسوف يتخيل أمام تمثال الأمير عبدالقادر الجزائري أن الأمير بعد أن يحدثه عما في الجزائريين قومه من غلظة أحياناً «ولكن لا أرحم منهم» – ينهاه: «لا تشك بعد إني غريب، فنحن جميعاً في الدنيا غرباء إلى ملقانا يوم الدين». وربما كان مناط آخر للغريب في استذكاره لميرسو بطل رواية ألبير كامي «الغريب»، وليس فقط حين يعبر في فرع من شارع/ حي محمد بلويزداد من رواد الثورة الجزائرية، حيث قضى ألبير كامي شطراً من طفولته ويفاعته. أما تتمة العنوان أو العنوان الفرعي (جوج بغال) فهي نقطة العبور الحدودية بين الجزائر والمغرب. وقد تصدرت الرواية بشرح أسباب هذه التسمية للمكان الذي يبئر الرواية في مبتدأها ومنتهاها، ليأتي بناؤها بعودة علي بن زروال من الجزائر برّاً عبر «جوج بغال»، حيث ستكون سردية المعاناة البيروقراطية المريرة، كما سيتبين في الفصل الأول وفي الفصلين الأخيرين التاسع والعاشر من الرواية، بينما تتوالى عبر الفصول الأخرى وتتفتق الارتجاعات، وأحياناً تشتبك، لتغطي تجربة بن زروال الجزائرية، وما سبقها من زمنه في بلده.
من ماضيه في دار غفلون– هكذا ينعت بلده– يمضي هذا الغريب مسكوناً بصوت المؤسسة الأمنية الذي يجلجل» الإنس والجن معنا. أنت نفسك في خدمتنا من غير أن تعلم». وكذلك هي جلجلة المخبر التي يهجس بها الغريب حتى في الجزائر: «سأبقى حذوك النعل بالنعل حتى تكشف عن سرك من سبب هذا الرحيل المفاجئ».
وفي الجزائر لن يكون أمر بن زروال أفضل، فهو تحت العين الرقيبة. ولئن كان الحال في المغرب «شعب كله دايخ» فالجزائر بلد الغش والممنوع على من ليس لهم من يحميهم مثل علي بن زروال، فأولاء رعايا لا مواطنين». ومن ذلك الماضي البعيد، يستعيد بن زروال ذكريات الجامعة في الرباط وعلاقته التي تسكنه بغيثة، وأحداث 23/3/1965 حيث ألقي بجثث الطلاب في البحر، وكذلك وقائع الانقلاب العسكري في 16/8/1972، واعتقال حسن الذهبي، أحد رفاقه، وهلع الخلية الحزبية التي ينتمي إليها، واختفاء عبدالله الشرقي الذي يحرض بن زروال على السفر. وسوف يستعيد بن زروال من بعد الصراع الذي نشب بين الجزائر والمغرب عام 1963، ومعاضدة الملك محمد الخامس للثورة الجزائرية، كما سيستعيد في مقهى عميروش في الجزائر ذكريات ضيوف والده من اللاجئين الجزائريين، ومنهم من سيلتقيه مصادفة: صديقه وصديق والده حميدو الزناتي.
وهكذا دارت الأيام، وصار المغاربة يأتون إلى الجزائر، متعاونين لا لاجئين: «نحن أمة واحدة وشعب واحد، حاول الاستعمار أن يفرق بيننا، لكننا بقينا متآزرين». ويبلور بن زروال الأمر في البلدين، ليبدو من المحتمل أن تكون الثورة في الجزائر ما زالت مشتعلة، ومن المحتمل أن يكون الجزائريون لم يكملوا ثورتهم، وأيديهم تقبض على الزناد، تترصد عدواً كامناً في زاوية ما. أما المغرب فقد اغتصبت فيه الثورة، فنال استقلالاً ناقصاً مبتوراً، ومن دون اندلاع الثورة مجدداً» طغاة جبابرة، هم بالمرصاد لكل يد ولسان».
بهذه العودة إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي، تبدو الرواية تحفر في التاريخ. وتتقد الحفرية بالاطراد مع شخصنة وتسريد المعلومة، والعكس صحيح، كما في الحديث عن تاريخ القصبة وتاريخ حصن برج الكيفان في العاصمة الجزائرية... لكن ما يرجح في الرواية هو الحاضر، أي تجربة بن زروال الجزائرية، بالتفصيل المدقق والمبالغ أحياناً، ابتداءً من نزوله في مطار الدار البيضاء الجزائري، والبحث عن فندق يقوده إلى أن يقضي ليلته الجزائرية الأولى في الكوميسارية، كما سيقضي ليلة في الحمام التركي. ثم يشتبك البحث عن مأوى بالعمل في ليسيه الأمير عبدالقادر الجزائري، وبخبط قدمي الغريب من شارع إلى زقاق إلى ساحة إلى حيّ إلى أي من معالم المدينة التي سيصفها بالحلزونية الدغلية الممنوعة على العزاب والعشاق، ذات الأزقة التي تشبه أوردة دموية يسري فيها بشر بحجم النمل وأضأل، وبدرجة أدنى يكون لمفردات الفضاء المغربي حضوره، وبخاصة في الدار البيضاء، فإذا بالجغرافيا ندّاً للتاريخ، ومثله: فاعل روائي مكين. مع حميدو، سيقيم بن زروال حيناً في العمارة اليسوعية إلى أن تقدم له وزارة التربية منزلاً سيشاركه فيه حميدو. وفي مواجهته جهامة المدينة وقسوتها ونبذها للغريب الذي يعيش في وحدة شبه مطلقة، تكون المرأة هي الواحة، سواء في المبغى أم في الحانة وصاحبتها الغالية، أم تلك التي ترميه بالعشق: الحليبية القبايلية والزميلة رتيبة مدرسة الرياضيات.
وهنا تنبق الذكورية، كما في تعبير بن زورال عن فلاحه في التمهيد لإغوائه رتيبة: «نجحت في الغزوة الأولى». لكن عابراً من القبايليين يتصدى للغريب إنفاذاً للعصبوية العمياء، فتهرب رتيبة، وتنقذ الشرطة بن زورال من سكين المتطوع لحماية بنت بلده. وفي الفصل الأخير من الرواية يستذكر بن زروال علاقته بالفرنسية ميشيل التي ترى أن الشعب الجزائري لا يعرف قيمة الطبيعة التي تتمتع بها بلاده، ويفضلون التكدس في الحواري والأزقة، أو ينزوون في الجبال الخلفية. وهذه التي يعمل زوجها خبيراً للنفط في حاسي مسعود، تجر بن زروال إلى الفراش كشاة ذبيحة، كما يعبر، بينما يراها هو قنّاصة لذة، ويفخر بأنه خطف من هؤلاء المكبوتين أجمل طريدة، بينما يريدون نهشها، ولتكن خنزيرة برية. ويخاطبه السارد بأنه يتنطع بغزوته متل فرسان الجاهلية، ويُنطِق لسان ميشيل بانتظار هذا المغربي الجامح الذي يعترف بأنها صيرته غيوراً، حتى صرخت به: «أنا لست ملكك ولا ملك أحد، هذا جسدي وأنا حرة فيه، أهبه لمن أشاء». وهكذا تتدمر العلاقة التي كانت ميشيل نفسها تأمل بأن تتكامل فيها هي مدرّسة الجغرافيا مع العاشق مدرس التاريخ. لكن بن زروال كان عاشقاً أكبر شفافية وحرارة كما يبدو في مراسلاته مع الحبيبة المغربية غيثة.
من اللافت أن مراسلات غيثة والعاشق تأتي بلغته وبلغة السارد في المقامات الأخرى، بينما تتعدد لغات الرواية في أغلب هاته المقامات، حيث العامية المغربية والعامية الجزائرية والفرنسية– مع شروحاتها– وحيث لغة جريدة الشعب والفصحى المقعّرة وابن خلدون والمنشور الانتخابي، ولغة المتناصات القرآنية الغنائية الوفيرة لأم كلثوم (قصيدة سلوا كأس الطلا...) وللشيخ محمد العنقا وغروابي ودحمان الحراشي، وبخاصة للمغنية الوافية التي تؤدي أغنياتها على الحدود المرأة الوهرانية في نهاية الرواية. ويبلغ التعدد اللغوي امتيازه كلما تعلق الأمر بالأسطرة أو الصوفية أو بالأمير عبدالقادر الجزائري الذي يحييه بن زروال لدى دخوله الليسيه التي تحمل اسم الأمير، ويغمره بالألقاب: ابن سيدي محي الدين (ابن عربي) وعمود البلاد ونور اليقين وإمام العباد وصاحب الجزائر والولي النصير وأمير البر والبحر «تحت غيمة الصوفية المدرارة، وشيخها ابن عربي». أما الأسطرة فتتركز بالمرأة- الجنية بنت القصبة، وسليلة أرض الدزاير (الجزائر) وهذه السطور المتوهجة كمثال: «اسمع يالمغربي، راك هبلت، ومعذور يا ولدي بناتنا راهم يهبّلوا، وفي خاطر مولاي إدريس، وبركة مولاي عبدالقادر، أنصحك تحوّس عليها في قصر الداي (دار السلطان) على حساب زمان. هي هكذا، وقبلك تبعها الإنس والجان من كل مكان، وما أخذ منها أحد لا حق ولا باطل...».
من حين إلى حين يسعى الغريب إلى مشاركة القراءة فيما يسرد، كوعده إبّان حديثه عن مدينة تيزي وزّو عاصمة منطقة القبايل، أي أمازيغ الجزائر، حيث يخاطب القراء بأنه سيروي لهم صفحات من قصته التي يتمنى أن يتابعوها إلى النهاية «لأن فيها ما سيشوّق ويُغرب أكثر مما علمتم حتى الآن». وحين اقتربت الرواية من نهايتها خاطب القراء أيضاً بصدد ورطته على الحدود بين البيروقراطية وظهور وباء الكوليرا، ورجاهم مرافقته إلى نهاية الورطة. وفي هذه النهاية عثر على الرسالة التي كان قد حملها من المغرب إلى من سيتصل به من أجلها. لكنه افتقد الرسالة- اللغز، مما جرّ عليه العسف، وكان ذلك سانحة أكبر للحديث عن المعارضة المغربية المقيمة في الجزائر، مما يتصل بالتأرخة وبالحفرية التاريخية.
لقد تضاعفت غربة الغريب علي بن زروال كما نقرأ في عتبة الغلاف الأخير، فانضافت الغربة الجزائرية إلى الغربة في الوطن: المغرب، وتعددت الوجوه «والحكايات تُسرد وتتناسل، والأحداث كثيفة وتتكاثف، والخطابات غضبٌ وولَهٌ وشجن...».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.