فُرض علي الإسكندرية أن تتحول، بعدما قاومت طويلا، لتصبح اليوم مدينة تنغلق علي نفسها رويدًا رويدًا. إذ إن ثمة تحولات حدثت، ندري أسبابها، لكن لم نتمكن من تغيير نتائجها، لأن السياسة دائمًا ما تنتصر علي المجتمع في النهاية. لم تكن بداية هذا العام رحيمة بأرض الكنانة عموماً، وبأهل اسكندرية علي وجه التحديد، فما إن انتصف الليل وبعد أن دقت الساعة الثانية عشرة والربع، حتي دوت الأخبار المروعة لكارثة تفجيرات كنيسة "القديسين" في الإسكندرية. فجأة تحولت المدينة البحرية التي تعصف بها رياح الشتاء، ونواة البحر، إلي مدينة تنوء تحت لهيب النار الذي حرق قلوب أهلها، من صدمة الذهول من القتل غدراً. هكذا لم تنم المدينة في تلك الليلة، ثكلي علي أبنائها الذين كانوا يمارسون حقهم في العبادة بأمان، هكذا استقبلت اسكندرية العام الجديد بقلب مدمي من الجراح، والخوف مما سيأتي به الغد. صار الخوف سيد المدينة. الخوف الذي يشل عن أي فعل، وحده قادر علي بث الرعب في النفوس، علي زرع القلق الذي يعطي هواجس مرضية توهمنا بأن الخطر سيأتي من الآخر لا محالة. هكذا صارت "الإسكندرية" بعد تلك الجريمة البشعة، مدينة ترتعش خوفاً وقلقا، الجميع فيها يعيش رعبه الخاص، ثمة من يخاف لأنه مستهدف بالقتل، ومن يخاف لأنه خائف من المستهدف. وفي النتيجة تسيطر سيكويولوجية الخوف علي بواطن النفوس، سواء أعلن عن هذا الأمر أم لا. الخوف هو حاكم المدينة الآن، رغم الأمن الذي ينتشر بكثرة، رغم تشديد الحراسة أمام الكنائس، رغم التضامن الذي أظهره المسلمون مع المسيحيين ليلة عيد الميلاد، إلا أن كل تلك المظاهر تؤكد أن الخوف هو الحاكم، فالأمن المنتشر بكثرة، يبث وجوده الرعب بدلا من الطمأنينة، ويوحي بحدوث خلل لم تتم السيطرة علي نواته، تكفي رؤية الإسكندرية في هذه الأيام، أو سماع أخبارها، بعد أسبوع علي حادث التفجير المروع ليكشف أي شرخ لحق بأهلها بعد ليلة 31-12-2010 . كل القصص التي حملناها عن اسكندرية، واختزلنا أحداثها سواء الواقعية منها أو التي شاهدناها في مسلسل أو فيلم، هبت علي ذاكرتنا مرة واحدة، لتضعنا وجها لوجه أمام صور متلاصقة لمدينة كانت في يوم ما مدينة كوزموبولتانية تغفو بطمأنينة علي شاطئ المتوسط. مدينة كتب عنها أحمد فؤاد نجم: "اسكندرية تاني.. وآه من العشق ياني.. والرمل الزعفراني.. ع الشط الكهرماني.. وأنا المغرم صبابة.. بإسكندرية يابا". ليس في هذا المقال متسع للحديث عن الحنين، أو عن ما كانته يوماً الإسكندرية، بل يمكن القول بأن ما فيه نتف من وجع في القلب. رواية "اسكندرية لا تنام" للكاتب ابراهيم عبدالمجيد، تفرض نفسها علي ذاكرتي، في تلك التعددية بين عرب ويونان وايطاليين، عاشوا لعقود متآلفين علي شاطئها الرحب، وفي أحيائها الواسعة، وأزقتها الضيقة. ليست هذه الرواية فقط التي تطرح جوانب عن التعايش السلمي المشترك بين المسيحيين والمسلمين، بل يمكننا العودة لسلسلة أفلام المخرج الراحل يوسف شاهين، عن اسكندرية، وكيف قدم شخصية "الخواجات" الطيبين، في معظم أعماله، أو إلي مسلسل "زيزينيا" للكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة، وتلك التداخلات الطبيعية بين الإسكندرانيين الأصلين، وبين من جاءوا إليها من بلدان أخري في شواطئ مجاورة. لم يبق شيء من كل هذا! فالأعمال الدرامية والسينمائية التي ظهرت فيها اسكندرية في الأعوام الأخيرة، تنبأت بالتحولات، والصراعات الغافية تحت الرماد. لم يبق من اليونان، أو الإيطاليين في اسكندرية، سوي أسماء تدل علي أنهم سكنوا هذه المدينة يوماً، مقهي "أتينوس"، حلواني "ديليسبس"، مطعم "زفريون" وغيرهم، ثم هناك بقايا الطراز المعماري المميز، الذي بهت بفعل مرور الزمن، ومرور الأخطاء. تحولت الإسكندرية، أو فُرض عليها التحول. قاومت طويلا، لكنها صارت مدينة تنغلق علي نفسها رويدا رويدا. ثمة تحولات حدثت، ندري أسبابها، لكن لم نتمكن من تغيير نتائجها، لأن السياسة تنتصر علي المجتمع دائما. ولأن السياسة تنتصر، يهاجر من يهاجر من سكانها، ويختار العودة لوراء البحر، لشاطئ آخر يمنحه الأمان الذي يفتقده.