التنظيم المركزي بالجبهة الوطنية تعقد أول اجتماعاتها برئاسة النائب أحمد رسلان    محافظ الغربية: مشروع محور النعناعية بكفر الزيات لن يتوقف    الحوثيون يعلنون قصف مطار «بن جوريون» مجددا بصاروخ باليستي    خالد الغندور: الأهلي ينتظر موافقة فريق الخلود لخوض ديانج التدريبات    منتخب تونس يضرب بوركينا فاسو بثنائية وديًا    الحج السياحي 2025.. بطاقة نسك شرط لدخول المشاعر المقدسة    النيابة الإدارية تُشكيل لجنة لفحص واقعة الحفر والتنقيب عن الآثار بقصر ثقافة الأقصر    أزال التاتو ويتعلم تجويد القرآن.. خالد الجندي يكشف تفاصيل توبة أحمد سعد    النائب أحمد دياب: لا يوجد خلاف بين الاتحاد والرابطة    أمين الفتوى يحسم حكم توزيع لحوم أو مال بدلاً عن الأضحية    موعد أذان فجر الثلاثاء 7 من ذي الحجة 2025.. ودعاء في جوف الليل    القومي للبحوث يقدم نصائح مهمة لكيفية تناول لحوم العيد بشكل صحي    المهندس المتهم في قضية حادث خط غاز طريق الواحات: «اتصدمت لما سمعت إن الماسورة انفجرت والدنيا ولعت» (خاص)    رئيس وزراء بولندا يعلن أنه سيسعى إلى إجراء اقتراع بالثقة في البرلمان بعد هزيمة حليفه في انتخابات الرئاسة    محمد ثروت يكشف كواليس مشاركته في «ريستارت»: الضحك رسالة الفيلم (فيديو)    «دماغهم ناشفة».. تعرف على أكثر 5 أبراج صرامة    شريف سلامة يكتب: رؤية اقتصادية.. التحول نحو الاقتصاد الرقمي.. أين تقف مصر؟    البحوث الفلكية: دخولنا الحزام الزلزالي لا أساس له من الصحة    «رفض حضور الاجتماع وتمسك بموقفه».. القيعي يكشف كواليس رحيل معلول عن الأهلي    مقتل إسرائيليين إثر انفجار سيارة فى منطقة جلجولية المحتلة    ذات الأذنين تظهر في رولان جاروس    رومانو: الفحوصات الطبية تفصل انضمام لويس هنريكي ل إنتر    القاهرة الإخبارية: ليالٍ دامية في غزة.. الاحتلال يرتكب مجازر جديدة بحق المدنيين    مدير تلال الفسطاط يستعرض ملامح مشروع الحدائق: يتواءم مع طبيعة القاهرة التاريخية    الإصلاح والنهضة: 30 يونيو أسقط مشروع الإخوان لتفكيك الدولة ورسّخ الوعي الوطني في مواجهة قوى الظلام    إيساف: «أبويا علّمني الرجولة والكرامة لو ماعييش جنيه»    الفيسبوك والعورات النفسية    أرامكو السعودية تنهي إصدار سندات دولية ب 5 مليارات دولار    خالد الجندي: الحج المرفّه والاستمتاع بنعم الله ليس فيه عيب أو خطأ    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على قرارات ترامب بزيادة الرسوم الجمركية على واردات الصلب والألومنيوم    ضربات الشمس في الحج.. الأسباب والأعراض والإسعاف السريع    رئيس جهاز العاشر من رمضان يتدخل لنقل سائق مصاب في حريق بمحطة وقود إلى مستشفي أهل مصر للحروق    ديلي ميل: إلغاء مقابلة بين لينيكر ومحمد صلاح خوفا من الحديث عن غزة    رئيس الوزراء الفلسطيني يدعو لوكسمبورج للاعتراف بدولة فلسطين قبيل مؤتمر السلام في نيويورك    تعرف على محطات الأتوبيس الترددي وأسعار التذاكر وطريقة الحجز    أهم أخبار الإمارات اليوم.. محمد بن زايد يهنئ نافروتسكي بفوزه بالانتخابات الرئاسية البولندية    في رحاب الحرم.. أركان ومناسك الحج من الإحرام إلى الوداع    مياه الفيوم تطلق حملات توعية للجزارين والمواطنين بمناسبة عيد الأضحى المبارك    شرح توضيحي للتسجيل والتقديم في رياض الأطفال عبر تعليم القاهرة للعام الدراسي الجديد.. فيديو    رئيس جامعة بنها: تبادل التهاني في المناسبات الدينية يؤكد التماسك    عبد الرازق يهنىء القيادة السياسية والشعب المصري بعيد الأضحى    فضل قيام الليل فى العشر الأوائل من ذي الحجة؟.. أمين الفتوى يوضح    بريطانيا: الوضع في غزة يزداد سوءًا.. ونعمل على ضمان وصول المساعدات    «أجد نفسي مضطرًا لاتخاذ قرار نهائى لا رجعة فيه».. نص استقالة محمد مصيلحى من رئاسة الاتحاد السكندري    «صحة الاسكندرية» تعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات عيد الأضحى    يديعوت أحرونوت: وفد إسرائيل لن يذهب إلى الدوحة للتفاوض    الهيئة العامة للأوقاف بالسعودية تطلق حملتها التوعوية لموسم حج 1446    السجن 3 سنوات لصيدلى بتهمة الاتجار فى الأقراص المخدرة بالإسكندرية.. فيديو    الرئيس السيسى يستقبل مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية    السيسي: ضرورة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    تخريج 100 شركة ناشئة من برنامج «أورانج كورنرز» في دلتا مصر    للمشاركة في المونديال.. الوداد المغربي يطلب التعاقد مع لاعب الزمالك رسميا    حزب السادات: فكر الإخوان ظلامي.. و30 يونيو ملحمة شعب وجيش أنقذت مصر    توريد 169 ألفا و864 طنا من محصول القمح لصوامع وشون سوهاج    تحكي تاريخ المحافظة.. «القليوبية والجامعة» تبحثان إنشاء أول حديقة متحفية وجدارية على نهر النيل ببنها    «التضامن»: انطلاق معسكرات «أنا وبابا» للشيوخ والكهنة لتعزيز دور رجال الدين في بناء الأسرة المصرية    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر مايو الماضي    هيئة الشراء الموحد: إطلاق منظومة ذكية لتتبع الدواء من الإنتاج للاستهلاك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



علبة السمّ التي تصير كتاباً
نشر في صوت البلد يوم 08 - 04 - 2017

في هذه المقالة سأقرّظ كلاً من الرواية، والترجمة، والحكاية التي تستلقي بسلطويّة عفويّة وراء الحكاية، ولا شكّ في أنّ ذلك التقريظ أصعب من أن يحتويه مقال، لكنّ الضغط النسويّ السُميّ الذي تعرضت له في غضون أسبوع سيدفعني إلى ذلك التكثيف: عدميّات نانسي هيوستن، ولقاء طويل مع سبيفاك، وبحثي في الرواية والمنفى، لتأتي أخيراً رواية «أنتَ قلتَ» عن سيلفيا بلاث فتلتهمني في يومين. إنّها إشارة كونيّة متعمّدة أخرجتني حتّى من شخصيّات الرواية التي أعمل عليها، وهذا لا أسمح بحدوثه إلاّ نادراً، وجعلتني أتحسّس عروقي حين سريان السمّ، بوصفي أنا أيضاً روائيّة، وزوجة لشاعر.
أصنّف سيلفيا بلاث واحدة من الأمّهات الثقافيّات لكلّ من الروائيّات ودارسات الأدب، والنسويّات منهنّ خاصّة. أمّ أو جدّة تكبر جدتي البيولوجيّة لأمّي بأربع سنوات، ولعلّ قصّة حياتها الملهمة جعلتها تتحوّل إلى رمز نسويّ، إذ طالما قرئت بوصفها قرباناً للنسويّات، تلك القراءة المباشرة التي تصنّف الأبطال على أنّهم نماذج صافية، إمّا قادرين، وإمّا ضحايا، وعلى رأسهنّ بلاث التي نحرت نفسها بضغط ذكوريّ في محرقة فرديّة، موازية لمحرقة النازيّة ضدّ قومها اليهود.
سيلفيا بلاث (1932- 19633) شاعرة وروائيّة أمريكيّة من أصول ألمانيّة واضحة في كلّ من السمات الأنثروبولوجيّة للوجه والجسد، وفي السمات الثقافيّة في الاعتداد بالعنصر، العنصر الجندريّ. منحتها أمريكا الأربعينيّات والخمسينيّات التحرّر الذي تحتاجه مبدعة، فتفوّقت به على تحفّظ أوروبا وتقاليدها البالية. استطاعت بهذا الانطلاق أن تأسر تيد هيوز الشاعر البريطانيّ، والزوج الذي دخلت معه في علاقة فريدة بين حبّ حتّى التماهي، وكره بسبب الاستلاب الذي يسببه ذلك الحبّ: «ما الذي كنت أنتظره من امرأة عضّتني في أوّل لقاء بيننا بدل أن تقبّلني؟.
لم تكن تحتاج إلى ما يحتاجه غيرها، بما في ذلك الرعاية، بل الوصاية، التي أولاها بها لتصل إلى صوتها الخاصّ، بقدر ما كانت تحتاج إلى المسافة، المسافة التي لم يعرف كيف يقيسها، ونتيجة هذا الجهل، جاءت الطعنة التي لابدّ منها في حلبة اليوميّات التي تستهلك النفس بين عشق وكره واكتئاب، ثمّ نسمّيها الجنّة، أن وقع في غرام أخرى سعت لتكون نسخة مقلّدة منها، حتّى في طريقة انتحارها: «لا توجد جنّة من دون ثعبان».
لا يعرف الرجل حتّى لو كان شاعراً نبوئيّاً، مثل تيد هيوز أنّه لن يقدر على امتلاك التعدّد، وأنّ الغضب الذي يسبّبه تصرّف سخيف مثل المضيّ إلى بديل، ليتحرّر من قبضة الحب الموازي للموت، ليس بدافع الغيرة من أخرى، لكن بسبب الأسف، والخيبة، وإضاعة الكثير من الوقت والمشاعر مع شخص سخيف حدوده البدائل، يشبه الرجال جميعاً، وبذلك يكون الغضب موجّهاً للذات التي فشلت في الاختيار أو في الحدس، رغم عبقريّتها في الإبداع، وفي الأمومة، وفي القتال. في رواية «أنت قلتَ» للهولنديّة كوني بالمن، وبترجمة الشاعرة التونسيّة لمياء مقدّم، صادرة عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب 2017، توكل بالمن دور السارد لتيد هيوز، لتمنحه فرصة الدفاع عن نفسه أمام التاريخ، وأمام الغضبة النسويّة، لدحض كلّ ما كُتب وما قيل خلال حياته عن أنّه القاتل، وأنّه دفعها للانتحار. تفنّد هذه الرواية التهمة من خلال سرد مؤثّر يزيد القصّة الأصليّة حرارة وسُميّة، وينفث الكراهية بين أيّام العشق الفريد، ليصل به إلى الموت، ويعرّي عالم الإبداع، حيث لا مكان سوى لمنافسة محمومة من أجل الكتابة، وأيّ عائق حتّى لو كان كلمة حبّ، أو حضوراً فيزيائيّاً لحبيب، يجب التخلّص منه. المبدعة امرأة مكتملة، وما يسبب اكتمال الأخريات من قبيل الرجل والعائلة والأطفال هي أعباء إضافيّة عليها أن تحتويها، كما يحتوي الإله خلقه، ويخاف جانبها البشريّ من أن تعاقب بفقدانها، وهذا النزاع الألوهيّ البشريّ الذي يوقد دراميّتها تصوّره الرواية بحرفيّة، إذ يقيّدنا الطوطم الموروث، ويتجلّى القيد بالخضوع للعرافة، والأحلام، وحركة الأبراج، وبطاقات التارو، التي كان هيوز بارعاً جدّاً في قراءتها، وكانت تشير دائماً إلى الفقد، هنا تشتبك في لاوعينا منطقة الإبداع مع الميتافيزيقيا، ويشتعل الصراع بين الألوهيّ والنبوئيّ البشريّ، إذ لم تكفّ سيلفيا بلاث عن الشعور بألوهيّتها: «حلمها القديم الدائم هو أن تُرفع»، «صلبتُ على يديك…لكنّ ندوبي لا تنزف». كما لم تشكّ في عبقريّتها: «على بابها عُلّقت لوحة خشبيّة كتب عليها بأحرف كبيرة: سكوت، هنا تعمل عبقريّة». استسلمت لعالم النفس الشائك الخطير، لطبقات كوّنتها الأم والأب والأجداد، والأحلام، والأبناء والزوج، في حين لم تشكّل العلاقات الأخرى ثقلاً، فكانت تتخلّص منها بسهولة. بدت بلاث نموذجاً للجليل الذي نهابه لعدم قدرتنا على امتلاكه. كان تعرف نقطة ضعفها الأخطر، إنّها الخوف، عاطفة كريهة مشوّهة تمنعنا من أن نكون كما نريد، ولا نتحرّر من الخوف إلا بالموت، ذلك الفعل الذي يختصّ بالآلهة.
لن يستطيع رجل تملّك امرأة قادرة على التخلّي، وتستطيع الانتحار لتعلن عن تخلّيها ذاك، ليس عنه فحسب، بل عن أولادها، وعن العالم، ستكون امرأة قاهرة بلا شكّ، وتستعير بالمن على لسان هيوز حواراً من «بعد السقوط» لآرثر ميللر، الذي عانى فقداً شبيهاً بانتحار مارلين مونرو، تلك التي عجز العالم عن فهمها أيضاً: «الانتحار يقتل شخصين يا ماجي، هذا هو هدفه».
لا نستثني هنا الحاضنة الثقافيّة لفضاء الحرب العالميّة الثانية وما بعده، بما في ذلك المحرقة النازيّة، حيث سادت موجة من الانتحار نتيجة فراغ سبّبه تناقص الموت بعد الحرب، كما أنّ البقاء على قيد الحياة بحدّ ذاته صار إثماً يستدعي طلب الغفران بطريقة ما.
الرواية لبالمن الهولنديّة، نوع من أدب الاعتراف الإجباريّ، تخييل على لسان هيوز الذي رفض أن يعترف، وسأضعها تحت اسم سيرة روائيّة غيريّة، أو رواية الغائب. وكوني بالمن فيلسوفة أيضاً، وهي من مواليد 1955. الترجمة باهية كما يقول التونسيّون، ولمياء مقدّم أيضاً شاعرة ومتزوّجة من شاعر، وأنا لا أستبعد هذه السياقات كلّها من دراسة النصوص، لا أستبعد لغة النساء وحدسهنّ، فاختياراتهنّ مختلفة، وكتاباتهنّ مختلفة، ولغتهنّ مختلفة، لأنّ إحساسهنّ بالعالم مختلف، وهنّ دائماً بحاجة إلى المسافة التي لا توفّرها الشراكة التقليديّة عادة.
النسخة الباهتة التي تجعلنا نشفق عليها في الحكاية هي صاحبة الشعر الأسود آسيا فيفل، الشاعرة الألمانيّة اليهوديّة والصديقة، التي خرج هيوز إلى عالم مباهجها من كآبة بلاث، كآبة الإبداع المثقل بالزواج والأمومة، كآبة العوائق التي من غيرها لا تكتمل الألوهيّة. قتلت فيفل نفسها مع ابنتهما غير الشرعيّة ذات الأربع سنوات، بالطريقة نفسها، أدخلت رأسها بالفرن، وفتحت الغاز. البديل محكوم بالزيف مهما حصل، وغالباً ما يذهب الرجال العشّاق إلى نساء بديلات فيهنّ الكثير من الأصل. ينبع إحباط النساء المبدعات خصوصاً، من الوعي، الوعي بغنوصيّة وجودهنّ، في مقابل السلب والازدراء المجتمعيّ حتّى في أكثر وجوهه ادعاء للتحرّر. تلك الإشكاليّة التي يشهدن فيها على تجارب الجدّات والأمّهات، ويكرّرن التجربة، على الرغم عنهنّ، فيقاومن، وتنطبع تلك المقاومة في جزء منها بما يسمّى النسويّة. ليس ثمّة غفران في جانب ما في حياة المبدعات الأصيلات، إنّهنّ يتساهلن في الكثير الكثير، في اليوميّات والماديّات والتفاصيل، لكن في ما يتعلّق بالكرامة الإبداعيّة التي لا تنفصل عن كرامة الوجود الأنثويّ، فليس ثمّة غفران أبداً. أعرف أنّ بعض النساء، يدفعن الرجال للانتحار أو الخيانة، أو العنف، أو الهجر، لكن بما أنّ الرجل أقام وجوده على فكرة الألوهيّة المقابلة، فعليه أن يتحلّى بواحدة أو أكثر من صفات الآلهة الرفيعة المصنوعة من الذهب، التي تجلس في الصفّ الأوّل في اجتماعات الأولمب، بالصبر مثلاً، بسعة العلم، بالكشف، بالحكمة… ثمن الألوهة غالٍ لا يتصدّى له أفراد السلالة جميعهم، ثمّة من يسقط عند الامتحان الأول، ومنهم بعد شوط، والسقوط الأصعب هو سقوط ما قبل النهاية، قبل ملامسة المنطقة المعتمة، منطقة الإبداع أو الجنّة الحقيقيّة.
في هذه المقالة سأقرّظ كلاً من الرواية، والترجمة، والحكاية التي تستلقي بسلطويّة عفويّة وراء الحكاية، ولا شكّ في أنّ ذلك التقريظ أصعب من أن يحتويه مقال، لكنّ الضغط النسويّ السُميّ الذي تعرضت له في غضون أسبوع سيدفعني إلى ذلك التكثيف: عدميّات نانسي هيوستن، ولقاء طويل مع سبيفاك، وبحثي في الرواية والمنفى، لتأتي أخيراً رواية «أنتَ قلتَ» عن سيلفيا بلاث فتلتهمني في يومين. إنّها إشارة كونيّة متعمّدة أخرجتني حتّى من شخصيّات الرواية التي أعمل عليها، وهذا لا أسمح بحدوثه إلاّ نادراً، وجعلتني أتحسّس عروقي حين سريان السمّ، بوصفي أنا أيضاً روائيّة، وزوجة لشاعر.
أصنّف سيلفيا بلاث واحدة من الأمّهات الثقافيّات لكلّ من الروائيّات ودارسات الأدب، والنسويّات منهنّ خاصّة. أمّ أو جدّة تكبر جدتي البيولوجيّة لأمّي بأربع سنوات، ولعلّ قصّة حياتها الملهمة جعلتها تتحوّل إلى رمز نسويّ، إذ طالما قرئت بوصفها قرباناً للنسويّات، تلك القراءة المباشرة التي تصنّف الأبطال على أنّهم نماذج صافية، إمّا قادرين، وإمّا ضحايا، وعلى رأسهنّ بلاث التي نحرت نفسها بضغط ذكوريّ في محرقة فرديّة، موازية لمحرقة النازيّة ضدّ قومها اليهود.
سيلفيا بلاث (1932- 19633) شاعرة وروائيّة أمريكيّة من أصول ألمانيّة واضحة في كلّ من السمات الأنثروبولوجيّة للوجه والجسد، وفي السمات الثقافيّة في الاعتداد بالعنصر، العنصر الجندريّ. منحتها أمريكا الأربعينيّات والخمسينيّات التحرّر الذي تحتاجه مبدعة، فتفوّقت به على تحفّظ أوروبا وتقاليدها البالية. استطاعت بهذا الانطلاق أن تأسر تيد هيوز الشاعر البريطانيّ، والزوج الذي دخلت معه في علاقة فريدة بين حبّ حتّى التماهي، وكره بسبب الاستلاب الذي يسببه ذلك الحبّ: «ما الذي كنت أنتظره من امرأة عضّتني في أوّل لقاء بيننا بدل أن تقبّلني؟.
لم تكن تحتاج إلى ما يحتاجه غيرها، بما في ذلك الرعاية، بل الوصاية، التي أولاها بها لتصل إلى صوتها الخاصّ، بقدر ما كانت تحتاج إلى المسافة، المسافة التي لم يعرف كيف يقيسها، ونتيجة هذا الجهل، جاءت الطعنة التي لابدّ منها في حلبة اليوميّات التي تستهلك النفس بين عشق وكره واكتئاب، ثمّ نسمّيها الجنّة، أن وقع في غرام أخرى سعت لتكون نسخة مقلّدة منها، حتّى في طريقة انتحارها: «لا توجد جنّة من دون ثعبان».
لا يعرف الرجل حتّى لو كان شاعراً نبوئيّاً، مثل تيد هيوز أنّه لن يقدر على امتلاك التعدّد، وأنّ الغضب الذي يسبّبه تصرّف سخيف مثل المضيّ إلى بديل، ليتحرّر من قبضة الحب الموازي للموت، ليس بدافع الغيرة من أخرى، لكن بسبب الأسف، والخيبة، وإضاعة الكثير من الوقت والمشاعر مع شخص سخيف حدوده البدائل، يشبه الرجال جميعاً، وبذلك يكون الغضب موجّهاً للذات التي فشلت في الاختيار أو في الحدس، رغم عبقريّتها في الإبداع، وفي الأمومة، وفي القتال. في رواية «أنت قلتَ» للهولنديّة كوني بالمن، وبترجمة الشاعرة التونسيّة لمياء مقدّم، صادرة عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب 2017، توكل بالمن دور السارد لتيد هيوز، لتمنحه فرصة الدفاع عن نفسه أمام التاريخ، وأمام الغضبة النسويّة، لدحض كلّ ما كُتب وما قيل خلال حياته عن أنّه القاتل، وأنّه دفعها للانتحار. تفنّد هذه الرواية التهمة من خلال سرد مؤثّر يزيد القصّة الأصليّة حرارة وسُميّة، وينفث الكراهية بين أيّام العشق الفريد، ليصل به إلى الموت، ويعرّي عالم الإبداع، حيث لا مكان سوى لمنافسة محمومة من أجل الكتابة، وأيّ عائق حتّى لو كان كلمة حبّ، أو حضوراً فيزيائيّاً لحبيب، يجب التخلّص منه. المبدعة امرأة مكتملة، وما يسبب اكتمال الأخريات من قبيل الرجل والعائلة والأطفال هي أعباء إضافيّة عليها أن تحتويها، كما يحتوي الإله خلقه، ويخاف جانبها البشريّ من أن تعاقب بفقدانها، وهذا النزاع الألوهيّ البشريّ الذي يوقد دراميّتها تصوّره الرواية بحرفيّة، إذ يقيّدنا الطوطم الموروث، ويتجلّى القيد بالخضوع للعرافة، والأحلام، وحركة الأبراج، وبطاقات التارو، التي كان هيوز بارعاً جدّاً في قراءتها، وكانت تشير دائماً إلى الفقد، هنا تشتبك في لاوعينا منطقة الإبداع مع الميتافيزيقيا، ويشتعل الصراع بين الألوهيّ والنبوئيّ البشريّ، إذ لم تكفّ سيلفيا بلاث عن الشعور بألوهيّتها: «حلمها القديم الدائم هو أن تُرفع»، «صلبتُ على يديك…لكنّ ندوبي لا تنزف». كما لم تشكّ في عبقريّتها: «على بابها عُلّقت لوحة خشبيّة كتب عليها بأحرف كبيرة: سكوت، هنا تعمل عبقريّة». استسلمت لعالم النفس الشائك الخطير، لطبقات كوّنتها الأم والأب والأجداد، والأحلام، والأبناء والزوج، في حين لم تشكّل العلاقات الأخرى ثقلاً، فكانت تتخلّص منها بسهولة. بدت بلاث نموذجاً للجليل الذي نهابه لعدم قدرتنا على امتلاكه. كان تعرف نقطة ضعفها الأخطر، إنّها الخوف، عاطفة كريهة مشوّهة تمنعنا من أن نكون كما نريد، ولا نتحرّر من الخوف إلا بالموت، ذلك الفعل الذي يختصّ بالآلهة.
لن يستطيع رجل تملّك امرأة قادرة على التخلّي، وتستطيع الانتحار لتعلن عن تخلّيها ذاك، ليس عنه فحسب، بل عن أولادها، وعن العالم، ستكون امرأة قاهرة بلا شكّ، وتستعير بالمن على لسان هيوز حواراً من «بعد السقوط» لآرثر ميللر، الذي عانى فقداً شبيهاً بانتحار مارلين مونرو، تلك التي عجز العالم عن فهمها أيضاً: «الانتحار يقتل شخصين يا ماجي، هذا هو هدفه».
لا نستثني هنا الحاضنة الثقافيّة لفضاء الحرب العالميّة الثانية وما بعده، بما في ذلك المحرقة النازيّة، حيث سادت موجة من الانتحار نتيجة فراغ سبّبه تناقص الموت بعد الحرب، كما أنّ البقاء على قيد الحياة بحدّ ذاته صار إثماً يستدعي طلب الغفران بطريقة ما.
الرواية لبالمن الهولنديّة، نوع من أدب الاعتراف الإجباريّ، تخييل على لسان هيوز الذي رفض أن يعترف، وسأضعها تحت اسم سيرة روائيّة غيريّة، أو رواية الغائب. وكوني بالمن فيلسوفة أيضاً، وهي من مواليد 1955. الترجمة باهية كما يقول التونسيّون، ولمياء مقدّم أيضاً شاعرة ومتزوّجة من شاعر، وأنا لا أستبعد هذه السياقات كلّها من دراسة النصوص، لا أستبعد لغة النساء وحدسهنّ، فاختياراتهنّ مختلفة، وكتاباتهنّ مختلفة، ولغتهنّ مختلفة، لأنّ إحساسهنّ بالعالم مختلف، وهنّ دائماً بحاجة إلى المسافة التي لا توفّرها الشراكة التقليديّة عادة.
النسخة الباهتة التي تجعلنا نشفق عليها في الحكاية هي صاحبة الشعر الأسود آسيا فيفل، الشاعرة الألمانيّة اليهوديّة والصديقة، التي خرج هيوز إلى عالم مباهجها من كآبة بلاث، كآبة الإبداع المثقل بالزواج والأمومة، كآبة العوائق التي من غيرها لا تكتمل الألوهيّة. قتلت فيفل نفسها مع ابنتهما غير الشرعيّة ذات الأربع سنوات، بالطريقة نفسها، أدخلت رأسها بالفرن، وفتحت الغاز. البديل محكوم بالزيف مهما حصل، وغالباً ما يذهب الرجال العشّاق إلى نساء بديلات فيهنّ الكثير من الأصل. ينبع إحباط النساء المبدعات خصوصاً، من الوعي، الوعي بغنوصيّة وجودهنّ، في مقابل السلب والازدراء المجتمعيّ حتّى في أكثر وجوهه ادعاء للتحرّر. تلك الإشكاليّة التي يشهدن فيها على تجارب الجدّات والأمّهات، ويكرّرن التجربة، على الرغم عنهنّ، فيقاومن، وتنطبع تلك المقاومة في جزء منها بما يسمّى النسويّة. ليس ثمّة غفران في جانب ما في حياة المبدعات الأصيلات، إنّهنّ يتساهلن في الكثير الكثير، في اليوميّات والماديّات والتفاصيل، لكن في ما يتعلّق بالكرامة الإبداعيّة التي لا تنفصل عن كرامة الوجود الأنثويّ، فليس ثمّة غفران أبداً. أعرف أنّ بعض النساء، يدفعن الرجال للانتحار أو الخيانة، أو العنف، أو الهجر، لكن بما أنّ الرجل أقام وجوده على فكرة الألوهيّة المقابلة، فعليه أن يتحلّى بواحدة أو أكثر من صفات الآلهة الرفيعة المصنوعة من الذهب، التي تجلس في الصفّ الأوّل في اجتماعات الأولمب، بالصبر مثلاً، بسعة العلم، بالكشف، بالحكمة… ثمن الألوهة غالٍ لا يتصدّى له أفراد السلالة جميعهم، ثمّة من يسقط عند الامتحان الأول، ومنهم بعد شوط، والسقوط الأصعب هو سقوط ما قبل النهاية، قبل ملامسة المنطقة المعتمة، منطقة الإبداع أو الجنّة الحقيقيّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.